صبحي حديديصفحات الثقافة

رجل المفارقات/ صبحي حديدي

 

 

رغم انقضاء 38 سنة على رحيله، ما يزال أندريه مالرو (1901ـ 1976)، الأديب والفيلسوف والوزير الفرنسي، محطّ اهتمام أبحاث مختلفة، خاصة تلك التي تشتغل على النُظُم المتداخلة، في الدراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الاستعمار. لافت، في هذا، أنّ الاهتمام بشخصه لا يقتصر على فرنسا، أو النطاق الفرنكوفوني، فحسب؛ بل يحظى الرجل بجاذبية عالية في الأعمال الأنغلو ـ سكسونية، وفي الولايات المتحدة، ربما أكثر من فرنسا ذاتها.

على سبيل المثال، خاض مالرو تجرية فريدة، في إطار ما كان يُعرف باسم «التنقيب الجوي» عن الآثار، في اليمن، ربيع 1934، بحثاً عن مدينة سبأ. والعمل الأفضل حول الموضوع صدر بالإنكليزية، وليس بالفرنسية، تحت عنوان «البحث عن سبأ: مغامرة في جزيرة العرب»، بتوقيع والتر لانغلوا، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة وايومنغ الأمريكية. (ولا تفوتني الإشارة إلى أطروحة دكتوراه مميزة، في جامعة السوربون، للمغربي عبدالعزيز بنيس). وقبل أيام صدر، في منشورات جامعة نبراسكا، كتاب جديد بعنوان «فييتنام والشرط الاستعماري للأدب الفرنسي»، تكرّسه ليسلي بارنز، أستاذة الآداب الفرنسية في الجامعة الوطنية الأسترالية، لأعمال مالرو ومرغريت دوراس وليندا لي (الروائية الفرنسية، من أصل فييتنامي).

بعض السبب يعود إلى أنّ تناول مالرو ليس مسألة فرنسية صرفة، تخصّ الفرنسسين وحدهم، فالرجل لم يكتب الكثير عن ثقافات الآخرين، فحسب؛ بل دارت معظم أعماله حول الشرق (الصين والهند الصينية بصفة خاصة)، وهو بالتالي دخل في سياق كوني عالمي. وبهذا المعنى فإن المرء لا يستطيع تجاهل جملة حقائق أخرى حول الرجل، تكاد تناقض على طول الخط الصورة اللامعة التي يبدو عليها في العموم. أولى هذه الحقائق أنه لم يستطع الخروج من دائرة الاستشراق القاتلة، في معظم أعماله التي تتناول موضوعات آسيوية، وتنطوي على قيام مغامر أوروبي باختراق هذا «الشرق المظلم»، لتنويره. وكما كانت الحال عند رديارد كبلنغ وجوزيف كونراد ولورانس العرب (الذين أعرب مارلو مراراً عن إعجابه الشديد بهم)، نحن أمام شرق مجرّد من التاريخ الفعلي، خاضع للفانتازيا والتنميطات التقليدية السحرية والجنسية، محتاج أبداً إلى الغازي الأبيض الذي سيتولى أعباء التمدين والتحديث والعقلنة.

وفي «إغواء الغرب»، كما في أعمال مالرو الأخرى مثل «الدرب الملكي» و «الوضع البشري» و «الغزاة» و «مذكرات مضادة»؛ نقرأ شرق ألف ليلة وليلة دون سواه، ونتابع هلوسات أبطال مالرو حول الحريم والأميرات والسحرة والعفاريت والإبل (حتى في أعمق أعماق ومجاهل الغابات الكمبودية العذراء!)، وأكلة لحوم البشر. ولا يكاد الشرق يغادر صورته المتخيَلة الموضوعة في حالة دونية أمام الغرب، وصورته كمرآة لا غنى عنها كي يرى الأوروبي نفسه ويختبر معضلاته الميتافيزيقية في الأقاصي الكولونيالية. ويندر أن يظهر هذا الأوروبي في غير صورة السوبرمان النيتشوي، الذي «يتغنى بالقوّة العارمة وحدها، ولا يهمه أمر المجتمع في شيء»، كما يقول غارين، بطل رواية «الغزاة».

وفي العام 1996 اتخذ الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك أبرز قراراته الرئاسية الثقافية، حين قضى بنقل رفات مالرو إلى مبنى الـ «بانتيون»، حيث يرقد عشرات من كبار رجالات فرنسا، أمثال جان جاك روسو، فكتور هيغو، إميل زولا، وجان جوريس. كان القرار صائباً بالمعنى الأخلاقي والثقافي، إذ لا يجادل أحد في السجلّ الحافل الذي تركه مالرو في ذاكرة فرنسا المعاصرة، بدءاً من نضالاته ضد النازية والفاشية في فرنسا وإسبانيا، وانتهاءً بأدواره الحاسمة في تطوير الثقافة وضمان حرية المثقفين حين أسس وتولى أوّل وزارة ثقافة في عهد الجنرال ديغول. ومع ذلك فقد اختلف البعض حول مدى جدارة مالرو بالخلود في ذلك الصرح الشامخ، وتلك مسألة كانت تخص رؤية الفرنسيين لتاريخهم وأبطالهم، والمعايير التي تعتمدها المخيلة الرسمية والشعبية في إعادة تأهيل الفرد، في هذا الطور التاريخي أو ذاك.

وإذا كان من المؤسف أن تغيب الثقافتان الإسلامية والعربية عن نصوص مالرو (رغم ترحاله في سوريا واليمن ولبنان والعراق…)، فإننا لا نعدم بعض الاستثناءات المتفرقة هنا وهناك؛ مثل الكتابات الفاتنة عن اليمن، وملكة سبأ؛ والقرار الشجاع، الفريد، الذي اتخذه حين أمر مدفعية ميناء مرسيليا أن تطلق 21 طلقة في استقبال تمثال الملكة زنوبيا، القادم من سورية إلى معرض فرنسي. كأنه، في هذه الواقعة الأخيرة على الأقل، انحاز إلى الزباء التدمرية الثائرة، ضدّ خصمها الإمبراطور الغازي أورليان، جدّه الحضاري، فأضاف مفارقة جديدة إلى سلسلة مفارقاته الكثيرة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى