رحلة بالداسار/ أمين معلوف
خيانة “مثقف”/ اسكندر حبش
في كتابه «رحلة بالداسار» الذي يُعتبر «الرواية» الثامنة له، يكتب أمين معلوف عن لسان بطله، بالداسار أمبرياكو، الذي يعمل تاجر كتب نادرة، الآتي: «لقد قرأت بعض الكتب فقط للتقليل من جهلي». جملة يجب التوقف عندها حقا، لنسأل عمّا إذا كان عمل بها فعلا «نجم» الأدب الفرنكوفوني و «الخالد» في الأكاديمية الفرنسية وحائز «غونكور» إلى غيرها من الصفات التي لا تفعل شيئا سوى ممارسة نوع من «الإرهاب» على القارئ. أقصد كيف يمكن، وفق هذه التصنيفات، أن تقرأ بعد أمين معلوف وأن تقول مثلا إن أدبه لا يعجبك، وأن فكرتك عن الأدب والكتابة لا تمت إلى ما يصنعه لا من قريب أو بعيد. حين تجابهك كل هذه النعوت التي يحفظها كثيرون غيبا ويقفون مندهشين ومعجبين أمامها، من دون أن يكونوا قد تابعوا رحلة الكاتب مع الكلمات والأفكار؟
أستعيد هذه الجملة من «رحلة بالداسار» لمدخل للرحلة «المعلوفية» التي قادته من «الحروب الصليبية كما رآها العرب» إلى ظهوره قبل يومين على إحدى شاشات التلفزيونات الاسرائيلية الخاصة (ويجب القول إنه لم يكن في اسرائيل بل ظهر عبر الأقمار الاصطناعية للحديث مع المحطة المذكورة، وإن كانت النتيجة واحدة في النهاية). فإذا كان في كتابه الأول، حاول أن يعيد تصويب بعض مسارات التاريخ، أو على الأقل أن يقدم وجهة نظر مختلفة عن هذا التاريخ، فإن ظهوره على شاشة إسرائيلية، لا يفعل شيئا سوى هدم تاريخ بأسره، بل هدم ذاكرة وتشويهها إلى أقصى حد. والأنكى ـ فيما لو سلمنا جدلا أن ظهوره (المرفوض أصلا) كان يمكن له أن يثير بعض النقاش وأن يعيد تصويب الأمور ـ أن الكاتب بقي عند حلمه في جمع الغرب بالشرق، ولم يقل أي كلمة تشير مثلا إلى وجود فلسطين وأن من يحاوره يعمل لمصلحة تلك الدولة التي تحتل تلك البقعة التي كتب عنها في كتابه الأول مدافعا عن القدس. لم يقدم معلوف في تلك اللحظة، سوى ابتسامته لمن كان يحاوره، وكأنه يأتي من كوكب آخر لا علاقة له بما يجري حوله، على الأقل لم يتذكر أنه محاط بتلك «الهويات القاتلة» بل بقي، ربما، تحت فيء «صخرة طانيوس» يحلم بالتبولة وبكأس عرق ليتجول متخيلا أحياء الأندلس وسمرقند وغيرها من المدن ليكتب عن قسوة الحياة مثلا، بينما القسوة لا تكمن فقط في استعادة ما تعرض له «دريفوس» (سبب الحديث مع معلوف) الضابط اليهودي الشهير (الذي كتب عنه إميل زولا)، بل ما تتعرض له شعوب منطقة بأسرها، يحاول الجميع إلغاءها من الجغرافيا، بعدما ألغتها من التاريخ.
هل هي «خيانة المثقفين» (فيما لو استعدنا تعبير المفكر الفرنسي جوليان بندا في كتابه الموسوم الصادر العام 1927)؟ لا أعتقد أن المفاجأة تكمن في ظهور أمين معلوف على تلك المحطة، بل المفاجأة أن لا نكون قد قرأنا كتبه فعلا. لنعد مثلا إلى رواية «سلالم الشرق» التي نشرها في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ألم يجعل من بطلة روايته هذه شخصية «إسرائيلية» تأتي إلى فلسطين، بعد قرار التقسيم، لتسكن مدينة حيفا؟ صحيح أن بطلته هذه ليست من «اللواتي يعشقن الذبح» (كما يكتب) بل وتحلم «بإقامة مدينة مشتركة بين العرب واليهود»، بيد أن السؤال: كيف يمكن لهذا التعايش أن يتحول واقعا حين تعتبر حيفا «مدينتها»؟
في أي حال، وعود على بدء، في «رحلة بالداسار» جملة ثانية قد تصلح نهاية لهذه الخاطرة: «إذا قرأت (قراءة فعلية) أربعين كتابا حقيقيا خلال عشرين عاما، فبوسعك مواجهة العالم». يبدو أن القراءات كلها ضائعة اليوم عند أمين معلوف.
السفير