رحيـل خالـد تاجـا: مسيرتي حلم من جنون
راشد عيسى
رحل الفنان السوري خالد تاجا أمس عن عمر يناهز الثالثة والسبعين عاماً بعد صراع مع المرض، غير أن الرجل كان قد حضّر نفسه منذ زمن بعيد، جرياً على عادة كثير من أهالي دمشق. حضّر القبر بنفسه والشاهد، الذي حمل كلمات تقول «مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها، لحظة ثم مضت».
ثم يشير الشاهد على قبره إلى «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا من مواليد عام 1939». وترك الرجل تاريخ وفاته الذي يصادف هذا العام السوري المجيد: 2012.
بدأ «تاجا الشامي»، وهذا هو لقبه الأحب إلى قلبه، رغم ذلك اللقب «أنطوني كوين العرب» الذي قال إن الشاعر محمود درويش قد أطلقه عليه، حياته الفنية صغيراً في المسرح، حيث عرف مسارح دمشق وعمل فيها، كما عرف رجال المسرح الكبار آنذاك وعمل
مع بعضهم، كعبد اللطيف فتحي، وأنور البابا، وحكمت محسن، وسواهم.
ومن المسرح، دلف تاجا إلى السينما، حيث التقى في المسرح العسكري المخرج اليوغسلافي يوشكو فوتونوفيتش فأسند إليه دور البطولة في أول فيلم سينمائي تنتجه المؤسسة العامة للسينما هو «سائق الشاحنة» (1966). ثم تتالت الأعمال السينمائية في القطاعين العام والخاص، وكان أبرزها «الفهد»، و«رجال تحت الشمس».
ويكتب الفنان الراحل بنفسه في سيرة ذاتية مقتضبة أنه ابتعد عن العمل لمدة 12 عاما بسبب ما أسماها ظروفاً صحية خاصة، وعند عودته قدم أكثر من مئة مسلسل تلفزيوني.
في التلفزيون كانت مسلسلاته المئة كفيلة بأن تضع بين يديه عدداً هائلاً من الأدوار، في بيئات وأنماط فنية مختلفة، فمن أعمال البيئة الشامية في «أسعد الوراق» و«أيام شامية»، و«الحصرم الشامي»، و«أبو خليل القباني»، إلى التاريخية في «خالد بن الوليد»، و«ملوك الطوائف»، و«ربيع قرطبة»، و«صلاح الدين الأيوبي»، إلى الكوميدية في «بقعة ضوء»، و«الفصول الأربعة» و«يوميات مدير عام»، و«أيام الولدنة».. إلى ما هنالك من أعمال اجتماعية معاصرة، كان الراحل يبدو وكأن الماكياج لم يبدل في عمره وهيئته شيئاً، يبدو منذ أكثر من عشرين عاما في السنّ ذاته، غير أنه لعب الأب والمسؤول الفاسد، بل وحتى العاشق والدونكيشوت، أو لنقل ما يشبه الدونكيشوت في العمل الكوميدي «أيام الولدنة» الذي راح يلقي في أناس هذه الأيام خطباً تقرع الفساد والفاسدين، وتراوغ قبضة أجهزة الأمن. ولعل تلك الخطب بالذات هي ما أشعل جبهة الرقابة ضد ذلك المسلسل.
لقد ظهر الفنان تاجا في أحد أدواره وهو يخطب في الناس في ساحة المرجة مقرعاً إياهم على صمتهم وتخاذلهم، وسرعان ما انفض الناس من حوله هاربين. قال تاجا حينذاك ما معناه «إنكم لا تستعملون أرجلكم إلا للهريبة. كنا فقط نجرب صوتنا، ماذا لو بقّينا البحصة؟».
رحل خالد تاجا، الشاميّ الكبير، إلى منزله الأخير، غير أن عزاء محبيه يظل في مئات الآثار التي تركها حولنا، والتي لن تمحى بالتأكيد.
——-
رحيل الفنان خالد تاجا
عامر عبد السلام من دمشق
توفي الفنان السوري، خالد تاجا، عن عمرٍ يناهز الـ73 عامًا، بعد صراعٍ مع المرض في الأيَّام الأخيرة من حياته، وذلك بعد تعرُّضه لجلطةٍ في الرئتين.
دمشق: توفي ظهر أمس الأربعاء الفنان السوري، خالد تاجا، الملقب بـ”أنطوني كوين العرب” بعد صراعٍ مع المرض في مستشفى الشامي عن عمر يناهز (73 عامًا)، حيث تعرض تاجا إلى جلطة حادة في رئتيه منذ عشرة أيام.
والفنان خالد تاجا شاهد على تألق الدراما السورية وأبدى عدة شخصيات حملت سمات متنوعة، وشارك في العديد من المسلسلات السورية زعيمًا ومحاربًا وسائقًا، وكان في كل الاتجاهات.
ولد تاجا بحي ركن الدين الدمشقي وهو من أصل كردي، بدأ حياته كممثل في فيلم “سائق الشاحنة” الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما بدمشق عام 1966 وقدم العديد من الافلام وله رصيد كبير من المسلسلات والأعمال التلفزيونية ومن أهم أعماله الفنية مسلسلات “التغريبة الفلسطينية”، و”أخوة التراب”، و”أيام شامية”، و”الزير سالم”، و”الفصول الأربعة”، و”بقعة ضوء”، و”زمن العار”، و”يوميات مديرعام”، وغيرها من الاعمال المسرحية والسينمائية.
وطوال أكثر من خمسين عاماً، بقي تاجا من الفنانين المكرّسين في سوريا والعالم العربي، ومن أبرز وجوه الدراما السورية، وقدم ما يزيد عن مئة عمل فني.
بدأ مشواره عام 1957 مع فرقة المسرح الحر التي ضمّت نخبة من الفنانين الكبار أمثال صبري عياد، وحكمت محسن، وأنور البابا، وكان يرأسها الفنان الراحل عبد اللطيف فتحي.
قدم العديد من الأفلام السينمائية بدءاً من دور البطولة في “رجال تحت الشمس” وليس انتهاءً بفيلم “الفهد”، وآخر فيلم قدمه عام 2010 حمل اسم “دمشق مع حبي” مع المخرج محمد عبد العزيز.
أما على صعيد المسلسلات التلفزيونية، فيمتلك تاجا رصيداً كبيراً من الأعمال التي ظهر من خلالها في أدوارٍ وشخصيات لا يمكن نسيانها في سوريا، ومن أعماله الدرامية “جريمة في الذاكرة”، “هجرة القلوب إلى القلوب”، “أيام شامية”، “يوميات مدير عام”، “نهاية رجل شجاع”، “أخوة التراب”، “الفصول الأربعة”، “التغريبة الفلسطينية”، “زمن العار” وغيرها الكثير.
تزوج خالد تاجا أربع مرات، الأولى توفيت في حادث سير، وانتهت الزيجتان الأخريان بالانفصال ولم ينجب، لكنّه عاد وتتزوج من سيدة هولندية ولديه منها فتاة تعيش في هولندا.
وفور انتشار خبر رحيل خالد تاجا أمس، سارع معظم الفنانين السوريين إلى نعيه وتقديم واجب العزاء لعائلته.
وبينما ذهب عديدون منهم إلى مستشفى الشامي حيث يرقد جثمان الفنان السوري لمواساة أهله خصوصاً شقيقاته، نعاه آخرون عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ، وغصت المواقع والمنتديات الالكترونية بنعيه وتقديم واجب العزاء، تماماً كالمستشفى الذي استقبل العديد من أصدقاء الفنان السوري وزملائه ومحبيه.
وكتبت المخرجة رشا شربتجي: “وداعاً خالد تاجا، وداعاً للظاهرة العربية، وداعاً للإنسان الحساس المبدع الطريف، وداعاً خالد تاجا النجم والأب والصديق والأستاذ، وداعاً لكنك ستبقى في قلوبنا”.
أما شكران مرتجى التي لطالما كانت تكذّب شائعة وفاة تاجا أثناء مرضه في الأيام الماضية، أكدت أنّ أكثر ما أثّرَ في تعليقات أصدقائها أنهم ينتظرون منها أن تكذب خبر الوفاة، وكتبت: “هذه المرة لن أكذب الخبر فهو حقيقة مرة”.
من جهتها، قالت كندة علوش: “فلترقد بسلام، خالد تاجا، موت الكبار کبيرٌ مثلهم، رحمك الله، وألهم أهلك وذويك الصبر والسلوان، سنفتقدك دائماً”.
بدوره، رفض مصطفى الخاني أن يكون تاجا “أنطوني كوين العرب” كما سماه الشاعر محمود درويش، بل سيبقى “خالد تاجا العرب”، مضيفاً أنّ تاجا لن يترجل من قلوبنا.
———-
رحل بعد أن قدم أعمالا فنية عديدة ومميزة
خالد تاجا وجه معجون بالزمن والفن
رحل الفنان السوري الكبير خالد تاجا في دمشق عن عمر يناهز 72 عاما، بعد صراع مع مرض سرطان الرئة، غير أن عزاء محبيه يكمن في المئات من الأعمال الفنية المترعة بالإبداع، التي جسدها في شبابه وفي أواخر سنوات عطائه، بتلك الملامح المعجونة بالزمن والفن أيضا.
مسيرته الفنية الطويلة والناجحة كرست تاجا أحد كبار الفنانين في الوطن العربي، رغم أن شهرته لم ترق إلى ما وصل إليه البعض عبر أعمال أقل بكثير مما قدمه “الشامي الكبير” كما ومضمونا. التي رآها كما كتب على شاهد قبر أعده قبل أن يرحل “حلم من الجنون كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها لحظة ثم مضت”.
وكان الفنان الكبير الذي أطلق عليه الشاعر الراحل محمود درويش لقب أنطوني كوين العرب قد عانى من مرض سرطان الرئة وأدخل إلى مستشفى الشامي بدمشق في 23 مارس/آذار الماضي إثر تعرضه لنقص حاد في الأكسجين.
عمل تاجا المولود بحي ركن الدين الدمشقي عام 1939 في المسرح منذ كان صغيرا مع كبار الفن المسرحي آنذاك من أمثال عبد اللطيف فتحي وحكمت محسن وعلى خشبة مسارح والمدن السورية صقلت موهبته الفنية وقدمته لاحقا للسينما والتلفزيون.
في العام 1966 اختاره المخرج اليوغسلافي يوشكو فوتونوفيتش للقيام بدور البطولة في أول فيلم سينمائي تنتجه المؤسسة العامة للسينما، وهو “سائق الشاحنة”. بعدها، عمل في أفلام عدة أنتجت في القطاعين العام والخاص. ومن أبرز أفلامه “الفهد” و”رجال تحت الشمس”.
برع الفنان الراحل في الأعمال الدرامية والكوميدية وفي أنماط وبيئات فنية مختلفة. واشتهر بتماهيه مع الدور والحرص على تقديم أفضل ما لديه دائما. وله كم هائل من الأعمال الفنية المتنوعة.
عمر من الإبداع
اضطرته أوضاعه الصحية للابتعاد عن العمل لمدة 12 سنة، ليعود بعدها ويشارك في أكثر من 100 مسلسل تلفزيوني مثل بعضها علامات فارقة في الدراما السورية، التي اكتسبت شهرة لدى المشاهدين العرب، ونافست بقوة الدراما المصرية.
تنوع أداء الفنان خالد تاجا، فلعب أدوارا في أعمال تلفزيونية تجسد البيئة الشامية من قبيل “أسعد الوراق” و”أيام شامية” و”الحصرم الشامي” و”أبو خليل القباني”، وأخرى تاريخية من قبيل “خالد بن الوليد” و”ملوك الطوائف” و”ربيع قرطبة” و”صلاح الدين الأيوبي” وحتى كوميدية في “بقعة ضوء” و”الفصول الأربعة” و”يوميات مدير عام” و”أيام الولدنة”، بالإضافة إلى أعمال أخرى اجتماعية معاصرة.
في أحد أدواره ظهر الفنان الراحل، وهو يخطب في الناس في ساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق وعاتبهم على صمتهم وتخاذلهم، وسرعان ما انفض الناس من حوله مهرولين، فعقب على ذلك بقوله “إنكم لا تستعملون أرجلكم إلا للهريبة.. كنا فقط نجرب صوتنا، ماذا لو بقينا البحصة، رمينا الحصاة من أفواهنا وتكلمنا كما نريد”.
واشتهرت عدة مسلسلات سورية -شارك في بعضها خالد تاجا- من بينها “بقعة ضوء” بهذا النوع من النقد، الذي يراه البعض جريئا، في حين يعده البعض اتجاها نحو التنفيس المحسوب عما يعتمل في الصدور دون أن يعبر عن تيار فني أصيل، أو مساحة حقيقية من حرية الإبداع تسمح بها السلطة.
وكان الممثل المخضرم قد أقف لفترة وجيزة قبل عدة أشهر من قبل الأمن السوري في دمشق، إثر مشاركته مع عدد من الفنانين والمثقفين السوريين في مسيرة تطالب بوقف الحل الأمني، الذي ينتهجه النظام وتدعم التظاهرات السلمية التي خرجت تطالب بالحرية.
—————-
خالد تاجا: وترجّل «أنطوني كوين العرب»
الدراما السورية تفقد أحد أبرز أعمدتها
بعد الشائعات المتضاربة حول وضعه الصحي، رحل الممثل السوري المخضرم بهدوء أمس في دمشق… كأنّه آثر أن يختار موعد رحيل بنفسه. محمد خالد بن عمر تاجا كما كتب على شاهد قبره، ترك بصمةً لن تمحى في ذاكرة الشاشة السوريّة
وسام كنعان
دمشق | «لم أختر اسمي ولا عائلتي ولا بلدي… عليّ إذاً أن أختار موتي»، هكذا قال النجم السوري خالد تاجا (1939 ــ 2012) ذات مرة في حديث له مع «الأخبار». وبالفعل فقد جهّز قبره وخط على شاهدته: «مسيرتي حلمٌ من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثمّ مضت». وتحت هذه العبارة أضاف: «منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا». كأنّه يقول للموت، لك أن تأتي متى تشاء. رحل خالد تاجا ليلة أمس في «مستشفى الشامي» في دمشق بعد أيام من المرض، تضاربت خلالها الأنباء عن صحته.
انسحب الممثل السوري بهدوء بعد سيل شائعات نعته قبل وفاته، كأنّه اختار وقت الرحيل الذي يناسبه. رحيل دراماتيكي أكثر من الأدوار التي لعبها على الشاشة، أضيف إليه تعرّض بيته للسرقة أمس، ضمن موجة النهب التي تجتاح البيوت. السارقون استغلوا وجود عائلة تاجا إلى جانبه في المستشفى، ليسرقوا البيت المليء بالتحف الفنيّة. بطل «رجال تحت الشمس» يشيّع اليوم من جامع الزهراء في المزة (طلعة الإسكان)، ويرجّح أن يوارى في ثرى مقبرة الزينبية في حي ركن الدين الدمشقي، مسقط رأسه.
طوال أربعة عقود، بقي تاجا واحداً من أعمدة الدراما السورية، وأحد أيقوناتها. منذ بداياته، عشق فنّ التمثيل الذي احتل مساحة كبيرة من طموحاته وأحلامه. اختار أن ينطلق في مسيرته من أبو الفنون، فانضم إلى فرقة «مسرح الحرية» في نهاية الخمسينيات. يومها كانت الفرقة تضمّ نخبة من الفنانين الكبار أمثال صبري عياد، وحكمت محسن، وأنور البابا، والراحل عبد اللطيف فتحي الذي اشتهر باسم «أبو كلبشة». خطّ تاجا بداياته على الخشبة، كاتباً ومخرجاً وممثلاً في عروض كثيرة، حتى دهمه سحر الفن السابع.
كان لتاجا دور كبير في انطلاقة السينما السورية، وفي أولى إنتاجات «المؤسسة العامة للإنتاج السينمائي». أدّى دور البطولة في «رجال تحت الشمس» (1970) عن رواية غسان كنفاني مع المخرج نبيل المالح. وتحت إدارة هذا الأخير، أدّى أيضاً دور البطولة في فيلم «الفهد» (1972). حينها كانت السينما السورية تعيش عصرها الذهبي، مع حضور قوي للقطاع الخاص. مع تراجع السينما السورية، توقف تاجا عن التمثيل فترة طويلة، ثم عاد ليحقق نجاحات تلفزيونية كبيرة، في عشرات الأعمال الدرامية، ويحتل مكانةً في ذاكرة الجمهور، من «جريمة في الذاكرة» و«أيام شامية» (1992) إلى «الزير سالم» (2000)، و«الفصول الأربعة» (1999 و2002)، و«التغريبة الفلسطينية» (2004) و«زمن العار» (2009). كذلك كان حضوره ممتعاً في الكوميديا، وخصوصاً دوره في «يوميات مدير عام» (1995).
بصمته الخاصة، وتمكّنه من أداء مختلف الأدوار، من التاريخي، إلى الكوميدي والاجتماعي، جعلت الشاعر الراحل محمود دوريش يطلق عليه لقب «أنطوني كوين العرب». لم يعتذر يوماً عن عدم أداء دور بسبب صغر حجمه. فقد ظلّ يردّد أنه لا دور صغيراً، ولا دور كبيراً، بل هناك ممثل صغير وآخر كبير. هكذا استطاع أن يحصن نفسه من أي هبوط أو فشل، إذ كان يقدم مستوىً عالياً في الأداء، ولو شارك في أعمال هابطة.
حكاية تاجا مع المرض قديمة مر عليها ما يقارب نصف قرن عندما اكتشف أنه مصاب بسرطان الرئة. لكنّه تغلّب على الورم الخبيث في حينه، وواصل حياته بشكل طبيعي، ولو برئة واحدة. ذات مرّة، خضع لعملية خطيرة فرفض التخدير الكامل، وظلّ يراقب مباضع الجراحين تعمل حفراً في جسده، من خلال شاشة مثبتة في جسده. لم يراعِ بطل «الحصرم الشامي» وضعه الصحي، فظل طوال حياته يشرب العرق، ويدخن بنهم، إلى جانب هوسه بالتحف والشرقيات. ملأ بيته بها، وجمعها بشغف شديد، وبقي يرفض إجراء أي لقاء تلفزيوني في منزله، خوفاً على تلك التحف التي كان يرتبها بيده. لم يكن يوفر فرصة للنزول إلى سوق الأثريات في حي مدحت باشا في الشام القديمة، للبحث عن كنوزه الأثيرة.
خبر وفاته حلّ كالكارثة على أصدقائه في الوسط الفني. صديقه المقرب عبد الهادي الصباغ لم يجب على اتصالات «الأخبار». أمّا الممثلة سمر سامي فقالت لنا: «ربما كان يحق لنا أن نحسده على رحيله بهدوء في زمن الموت المفاجئ والقاسي الذي نعيشه». رفيق دربه المثل سليم صبري يتذكّر كيف جمعتهما دروب المهنة منذ الخمسينيات، ويقول: «لا يمكن الموت أن يغيبه؛ لأنه حفر مكانه عميقاً في وجدان رفاقه ووجدان جمهوره العريض». وهذا ما يؤكّده الممثل رشيد عساف الذي يقول إنّه «بالتوازي مع أهمية فنه، فقد كان إنساناً وفناناً ورجلاً عظيماً (…) ولا يمكن أن تتصوّر الحركة الدرامية من دونه».
——————–
دافع عن فن عظيم في أرض عارية
خالد خليفة
من غرائب المواطن خالد تاجا، الذي كان يعتقد بأنه سيعيش ألف عام، أن يرحل في وقت توغل آلة القتل في دماء السوريين منذ أكثر من عام وسط صمت عجيب، يبدو فعل موته عبثاً لا يستطيع أحد احتماله، كأنه فعل لهو لطالما أحبه وأخلص له، أو فعل احتجاج صامت على ما يحدث في طول البلاد وعرضها، ومن غرائب الممثل خالد تاجا أنه لم يكن يوماً يخطط لشيء، يبحث عن الأدوار في كل مكان، حين تصل إليه يمسك بها كالمتشبث بقدره، يقوم بإعادة الخيال إليها ويعيد إنتاجها كما يليق بممثل عظيم، لا كممثل يبحث عن الشهرة والمجد والعلاقات العامة، فعل ما لم يفعله الآخرون، ذهب إلى التمثيل بكل ما لديه من طاقة، لم يفكر يوماً بما يشغل أقرانه من الممثلين، عناوينه واضحة لا لبس فيها ولا غموض، يعبر عن حلمه بتجسيد «الملك لير» على خشبة المسرح من دون أن يتشكى ومن دون أن يتنطع ويلعب دور العراب ومن دون ان يتواطأ، يبحث وسط الركام عن بهجته، يحولها بعد تفكيكها وإعادة بنائها إلى سحر خاص، كثيراً ما سألت نفسي كم شخصية يختزن في داخله برغم أنه لم يعش سوى بشخصية واحدة واضحة العناوين.
من السينما في منتصف الستينيات بكل أنواعها الجادة والتجارية إلى التلفزيون وأدواره التي يصعب حصرها «من هجرة القلوب إلى القلوب» مع المبدع هيثم حقي والكاتب المبدع عبد النبي حجازي إلى دوره في «التغريبة الفلسطينية» مع المبدعين المخرج حاتم علي والكاتب وليد سيف الذي سيبقى علامة كبيرة في فن التمثيل، إضافة إلى شخصياته الأخرى التي تتحول أحياناً إلى مادة أولية لتجريب أدوات سيقوم باعتمادها في أدوار أخرى، غارقاً بين البروفات والنسخة النهائية التي سرعان ما يتخلى عنها إلى أفق التجريب وخيال الممثل الأكثر رحابة.
مع بداية نهضة الدراما السورية بداية التسعينيات من القرن الماضي، ببساطة استعاد خالد تاجا موقعه كممثل فريد بين أقرانه، بعد انقطاع طويل عن التمثيل عاد ليجلس مكانه من دون أن يزاحم أحداً على مكانه، الممثل شبه الوحيد الذي لم يعدد صفاته، لم يقل إنه سيجرب الكتابة لأن الكتاب أقل من عبقريته، لم يقل بأنه سيتحول إلى الإخراج أو الإنتاج أو العلاقات العامة التي أصبحت من مستلزمات الممثلين النجوم الفخورين بسياراتهم وفيلاتهم وعلاقاتهم مع رجال السلطة الأقوياء بعد سنة 2000 وبعد تحول الدراما التلفزيونية من مشروع بحث جماعي بين كل أطراف العملية الإبداعية إلى مشروع بزنس وإذعان، تقوم فيه مجموعة من الممثلين بممارسة سطوتهم واستعارة أسوأ ما في الدارما المصرية التي تعتبر النجم مركز الكون والدراما، وسط كل هذا بقي خالد تاجا يشكل إحراجاً لزملائه المتعددي الصفات، بقي ممسكاً صولجان الممثل فقط، يدافع عن فن عظيم في أرض عارية مع مجموعة ممثلين قلائل لم تستطع موضة العلاقات العامة إفساده.
في نهضة الدراما التلفزيونية الثانية في نهاية التسعينيات وبداية القرن الجديد، لم يكتف خالد تاجا بالعمل على مشروعه كممثل بل أضاف إليه العمل على شخصيته التي تشكل جزءاً أساسياً من مشروعه المبدع، كلما تقدم به العمر ازداد تسامحاً وتوضحت صورة الطفل الذي لم يمت في قلبه، بل ازداد براءة وهشاشة، وكيف يذهب ممثل إلى عمله إن لم يكن لديه كل هشاشة الإنسان، وأكاد أجزم بأنه مع أشخاص قلائل أنقذوا سمعة فن التمثيل السوري بإخلاصهم لصفتهم الوحيدة، كما أنقذوا الكثير من الأعمال الدرامية التي كان من الممكن أن يكون نجاحها أقل لولا وجودهم فيها.
لست الكاتب الوحيد الذي يفكر دوماً بكتابة مسلسل أو فيلم يقوم خالد تاجا بلعب دوره الرئيسي، لكنني لست الكاتب الوحيد أيضاً الذي لم يجد الوقت في ظل انشغال الأدوار في ملاحقته، إلى درجة أنه كان يعتقد بأنه لن يموت كما كنا نعتقد بأنه لدينا وقت طويل وحياة كاملة سنجد فيها ذات يوم وقتاً للمرح والكتابة والعمل.
كيف يموت طفل لاهٍ، ينثر البهجة أينما حلّ في الحياة أو على الشاشة الصغيرة والكبيرة، انتظارنا له قد مات الآن لكن ذلك الرجل السبعيني البريء، براءة التمثيل والفن النقي الذي أمتع الملايين لن يموت وإن كان يعنيه أنه قد ذهب إلى الموت بصفة وحيدة تاركاً باقي الصفات للحالمين بسلطة الممثل وليس بالتمثيل واللعب والبهجة والبراءة.
وداعاً خالد تاجا.
————
خالد تاجا ظل ممسكاً بصولجان الممثل ومات كممثل كبير لا كطالب شهرة
مدرســـة
في الأداء والأخلاق
رفيق علي احمد
ما تعودت رثاء الراحلين، افتقدهم لحظة الفراق، تصيبني حالة من الصمت.
ربما اذرف دمعا لمرة واحدة. أدعي انني متصالح مع الموت.
كنت كغيري منتظرا رحيلك ومتهيئاً له. لحظة قرأت خبرك تركت الجريدة وامضيت «صبحيتي» معك. جالستك وتحدثنا: ابتسمت اكثر من مرة على خبرياتك التي كنت أتندر بها امام الاصدقاء.
مر شريط ذكرياتي معك. من اول مرة رأيتك على الشاشة سألت ما اسم هذا الممثل.
أحببتك مثل كل الذين شاهدوا اعمالك. محبوب أنت؛ حتى الكاميرا تعشقك يا ذا الحضور الطاغي.
يا سارق عين الكاميرا بدون تقصد وسارق احاسيس ومشاعر الناس.
كنت انتظر ظهورك على الشاشة كي اترصدك واتعلم منك، انت مدرسة في الأداء والاخلاق والتمثيل، لن أشبّهك بأي ممثل عالمي، فالممثلون يشبّهون بك، يا من كنت «تاجا» على رأس الدراما العربية.
أعرف اني لن أنجو من شتيمة منك اذا تسنى لك قراءة هذا الكلام فكل مديح عندك باطل.
ستبقى خالدا في قلوب المشاهدين وستبقى ذكراك حاضرة على ألسنة زملائك وعارفيك، يروونها ويأنسون… هنيئا لك.
اسمح لي ان استعير شهادتك وشاهدك وأكتب: «مسيرتي حلم من الجنون كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها. لحظة ثم مضت».
أقول لك: هذه اللحظة ستدوم طويلا قبل ان تمضي.
———–
تشييع «أنطوني كوين العرب» في دمشق
ديمة ونوس
كنت في السادسة عشرة من عمري، عندما اصطحبني صديقي جنادة إلى بيت أمه نائلة الأطرش وزوجها خالد تاجا. وكانت المرة الثانية التي ألتقيه بها. أكاد لا أذكر من تلك الزيارة سوى الضحك والمزاح. وأذكر أيضاً أنني نسيت في لحظات معينة أن هذا الممثل الرائع يكبرني بسنوات كثيرة. كان يعثر من دون جهد كبير على أحاديث مشتركة. ويتحدث إلى محاوريه بندية وتواضع وكأنهم في سنه ولديهم تجربته الغنية في الحياة والدراما والمسرح. عيناه الضاحكتان، الساخرتان، تسكنان في عيني من يعرفه. وسخريته تلك لا ينجو أحد منها بمن فيهم هو نفسه.
يقول المخرج هيثم حقي على حائطه في «فيسبوك»: الصديق الفنان الكبير خالد تاجا كان دائم المزاح حول موته. وكيف سيكون تأبينه، ومن سيتكلم عنه وعن موهبته الكبيرة التي شبهها الراحل الكبير محمود درويش بموهبة أنطوني كوين وحين نقلت له رأيه هذا فرح كطفل صغير».
على باب مستشفى الشامي، تجمع العشرات. عدد لا يليق بخالد تاجا، أحد أهم الفنانين السوريين المبدعين الذين صنعوا سمعة الدراما السورية. كأن الناس والأصدقاء يتصالحون مع الموت. صار الموت عادياً. ومن يمت صار مجرد رقم جديد في لائحة طويلة. وحيداً كان خالد تاجا في غرفة العناية المركزة. أغمض عينيه ونام.
السيارة التي ستحمله من المستشفى، مملوءة بأكاليل الورد. في الوسط، يظهر اسم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بين أسماء الأصدقاء والمسؤولين ممن أرسلوا وروداً للوداع الأخير، اضافة الى باقات من كبار المسؤولين السوريين. وكان من بين من حضر الجنازة وزير الاعلام السوري عدنان محمود وكل من أسعد فضة وأيمن زيدان ودريد لحام وسليم صبري وهشام شربتجي وعباس النوري وآخرين.
شهادات
أسعد فضة: مهما تحدثت عن خالد تاجا، فلن أفيه حقه. فنان عملاق مثل الصديق خالد سيترك فراغاً في الحركة الفنية في سوريا وفي الوطن العربي. خالد كان ركناً أساسياً في بناء الدراما السورية. سنفتقده وسنشعر بخسارة كبيرة في غيابه. لكنه سيبقى معنا في كل مرة نرى فيها أعماله. خالد تاجا لم يكن مبدعاً في أعماله فقط، بل كان متعاوناً مع زملائه ومحباً لهم. ومثلما كان متفانياً في عمله ومشروعه الفني، كان أيضاً يتفانى في مساعدة الأصدقاء وفي دعمهم.
أيمن زيدان: رحيله فاجعة اكبر من الكلمات. خسارة للناس وللفن العربي والإنساني. قامة يصعب تعويضها. ما يعزينا هو أن رحيله غير مكتمل لأنه ترك وراءه إرثاً سيبقى في الذاكرة لزمن طويل.
طاهر مامللي: خالد تاجا كان صديقاً وأستاذاً وهو شخص مليء بالحياة حتى آخر يوم من حياته.
دريد لحام: ماذا يمكن القول؟ خالد تاجا قامة أساسية في تاريخ الدراما السورية. كان يريد ان يكون لحظة فرح في حياة الآخرين وهو كان كذلك بالفعل. وسيبقى لحظة الفرح تلك في حياتنا.
غسان عزب: لم يكن عنده أولاد وكان يعتبرنا أولاده. خسارة كبيرة للحياة الإنسانية.
(دمشق)
————-
الســـينمـا.. البـراعـــة المكـبـوتـــة
من فيلم «الليل الطويل»
نديم جرجوره
مثيرة هي السيرة السينمائية للممثل السوري الراحل خالد تاجا. الإثارة التي صنعتها مشاركاته المتنوّعة في أفلام عديدة، نابعة من الاختلاف الجذريّ العميق في خياراته المتناقضة بين أساليب وهواجس لا رابط بينها أبداً، درامياً وجمالياً وآلية اشتغال. من النوع التجاري العاديّ للغاية، إلى البراعة الإبداعية في تحويل الصورة السينمائية إلى مرايا واقع وذات وتفاصيل، قدّم تاجا أفلاماً كثيرة، بعضها القليل يُشكّل جزءاً أساسياً من التاريخ الحديث للسينما السورية الجادّة. هذا القول نابعٌ من قدرة الممثل على التكيّف مع شخصيات وأدوار وحكايات، متصادمة في ما بينها، أو متناقضة بعضها مع البعض الآخر في المجالات كافة. نابعٌ أيضاً من رغبة الممثل في العمل السينمائي، أي في المحافظة على هذا الجانب الإبداعي الخاصّ به، في ظلّ ندرة الأفلام الصدامية والسجالية، القادرة على طرح أسئلة الصورة والتمثيل والتقنيات، بالتوازن مع أسئلة الواقع والتاريخ والمجتمع والناس.
إثارة
الإثارة المذكورة أعلاه مردّها انشغال خالد تاجا بفن التمثيل بحرفية واضحة تماماً في أفلامه السينمائية كلّها، العادية والصدامية معاً. انشغاله بفن التمثيل أولاً وأساساً، أكثر من انشغاله بالشكل السينمائي. أحسب أنه وافق على الانخراط في مشاريع متناقضة، لتوقه الفني البحت إلى اكتشاف التنويع، أو إلى التمرين الأدائي الدائم، أو إلى تحصين حضوره الثقافي من خلال السينما أيضاً (مثّل في مسرحيات وأعمال تلفزيونية عديدة). ذلك أن تمثيله في فيلم للمخرج اللبناني الراحل سمير الغصيني مثلاً (أيام في لندن، 1978)، يُعتبر نقيضاً واضحاً لتمثيله في «الفهد» (1972) للسوري نبيل المالح، أو في «شيء ما يحترق» (1993) للسوري غسان شميط. فشهرة الغصيني كامنةٌ في براعته الفائقة في تحقيق أفلام استهلاكية، مرتكزة على خبريات ولقطات ومتتاليات بصرية، محتاجة كلّها إلى خيط درامي عميق لتحويلها إلى فيلم سينمائي متكامل. وهذا على نقيض المالح وشميط، اللذين طوّعا العمل السينمائي، كلٌّ بطريقته الخاصّة، في البحث الدرامي في أحوال وحالات وتفاصيل وحكايات. الغصيني منتمٍ إلى فئة من المخرجين اللبنانيين والعرب، الذين اعتبروا الكاميرا مهنة لا فناً، مع أنه حقّق ومحمد سلمان أكبر عدد من الأفلام اللبنانية. سلمان نفسه أنجز أحد أفلام خالد تاجا بعنوان «عروس من دمشق» (1973)، في فترة خصبة بالعناوين السينمائية اللبنانية والسورية، المقيمة في مساحة من الغليان المفتوح على الاختبارات الثقافية والجمالية، في مقابل كَمّ كبير من الأفلام المنغلقة على بهتان الاشتغال السينمائي، وخلله وارتباكاته البصرية والفنية والتقنية. أي إن الفترة الممتدة بين نهاية ستينيات القرن الفائت وبداية سبعينياته، شكّلت منعطفاً حقيقياً لسينما عربية خرجت من نكسة «حرب الأيام الستة» في العام 1967، لتقع في الارتباك الثقافي والإنساني جرّاء انعدام الأجوبة الواضحة عن معنى هذه الهزيمة القاتلة. سينما عربية تبلورت مشاريعها التجديدية أيضاً من قلب النكسة نفسها، كي تقول لغة أخرى في مخاطبة الوعي وطرح الأسئلة والتنقيب في جذور الحكايات الفردية. وهي الفترة نفسها التي شهدت استمرار صناعة الأفلام الاستهلاكية والتجارية أيضاً، وبغزارة أحياناً. في هذه الفترة بالذات، تنقّل خالد تاجا بين سينما استهلاكية بحتة، وسينما ساعية للحفر في أعماق البيئة الإنسانية، وتحوّلاتها وانقلاباتها وتوهانها الجمالي، في لحظة التأسيس الفعلي للتجديد البصري.
عزلة
قبل «الفهد»، تعاون خالد تاجا مع نبيل المالح في «رجال تحت الشمس» (1970). وبينهما، مثّل في عدد لا بأس به من التنويعات، محاولاً إيجاد طريق إبداعية صرفة له، وسط تبدّل اللحظة التاريخية. السياسة والتاريخ والصراع المفتوح ضد عدو الخارج، متمثّلاً بإسرائيل وبالصراع العربي معها وبآثار الصدام التاريخي بين الطرفين، كما في «شيء ما يحترق» و«رجال تحت الشمس» و«المتبقّي» (1995) للإيرانيّ سيف الله داد. أو ضد عدو الداخل، كالإقطاع والاستعمار، كما في «الفهد» و«العار» (1974) لبشير صافية وبلال الصابوني ووديع يوسف، لارتكاز هذا الفيلم على قصص عديدة متعلّقة بمعاناة أبناء الريف السوري مع الإقطاع، تماماً كالحبكة الدرامية لـ«الفهد». السياسة، وإن بشكل مبطّن، وسمت شيئاً من مناخات أفلام أخرى له، كـ«الليل الطويل» (2009) لحاتم علي، المرتكز على قصّة سجناء سياسيين يُطلَق سراحهم بعد سنين طويلة من الأسر، فإذا بكل واحد منهم يذهب في طريق معبّدة بالألم والقلق والخراب. وعلى الرغم من أن هذا الفيلم لم يرتق إلى مرتبة إبداعية راقية، إلاّ أن خالد تاجا، باشتغاله على تعابير الوجه وحركة الجسد المثقل بأعوام العذاب والوحدة والألم، وبنظـــراته الملتبسة في علاقتها بالآخرين وبالآخرة أيـــضاً، بدا مُذهــلاً في إعطائه الشخصية نبضها الإنســاني المفتوح على سؤال الحياة والموت. أما مشاركته في «دمشق مع حبّي» (2010) لمحــمد عبــد العزيز، فكانت إضافة عددية على لائحة أفلامه المتنوّعة، بتقديمه صورة عجوز مُقعد، تنتابه أزمة أخلاقية تدفعه إلى فتح جرح الأمــس، المتمثّل بعلاقة عاطفية مقطوعة بين يهودية ومسيحي.
أفلامه كثيرة. لكن المميّز في تمثيله السينمائي كامنٌ في قدرته على الإمساك الإنساني أولاً بنواة الشخصية المطلوب منه تأديتها، بحيث يستطيع لاحقاً (أي أثناء التصوير) الانعتاق من صورتها المكتوبة على الورق، كي يتمكّن من إفراغها فيه، وإفراغ نفسه فيها. أمام الكاميرا السينمائية، كبت خالد تاجا براعته المسرحية والتلفزيونية، وإن خضع لها أحياناً عابرة. المميّز في تمثيله السينمائي أيضاً، كامنٌ في تلك الشفافية والإنسانية البديعتين، اللتين تظهران بفضل تعابير وجهه، وحركته وأسلوبه في النطق. شفافية وإنسانية جعلتاه ينعزل ببراعته الأدائية عن ممثلي بعض أفلامه التي لم تبلغ مرتبة الإبداع الجمالي.
—————–
خالد تاجا: الرحلة الأخيرة في شوارع دمشق
وسام كنعان
دمشق | لم يكن يوم أمس يوماً عادياً بالنسبة إلى عاصمة الأمويين. حديث الشارع كان خبر رحيل نجم الدراما السورية خالد تاجا الذي شُيِّع من جامع الزهراء في المزة إلى مقبرة الزينبية (بالقرب من ساحة شمدين) في منطقة ركن الدين مسقط رأسه بحضور رسمي (وزير الإعلام عدنان محمود ونقيبة الفنانين فاديا خطاب) وفني وشعبي. وكان الفنان المخضرم قد نُقل من «مستشفى الشامي» في دمشق حيث وافته المنية مساء أول من أمس. لن نحتاج إلى أي عناء للوصول إلى المسجد الدمشقي. حالما تطلب من سائق الأجرة التوجه إلى المزة، يسأل إن كان القصد هو المشاركة في جنازة «أنطوني كوين العرب»، قبل أن يترك لنفسه فرصة سرد ذكرياته مع نجم «الزير سالم» وأدواره التي أحبها. قبل الوصول إلى مكان انطلاق الجنازة، سنفاجأ بحاجز لشرطة المرور التي قررت قطع الطريق. بعد خطوات قليلة، ستفاجأ أيضاً بحافلات مليئة بقوات الجيش السوري وبانتشار أمني مكثف عرفنا لاحقاً أنّ مرده خوف السلطات من تحوّل الجنازة إلى تظاهرة أو أعمال شغب.
وسط هذا الهدوء الحذر، خيّم الوجوم على وجوه الحشود التي كانت تنتظر انطلاق موكب التشييع. من بعيد، سنلمح بسام كوسا برفقة عباس النوري والممثل إياد أبو الشامات. وقفة حميمة كان بطلها خالد تاجا. يقول بسام كوسا لـ«الأخبار»: «ما كان يميز خالد تاجا هو تلك البراءة ولا أقصد العفوية واعتماد أدائه الساحر على ما تختزنه روحه وإنسانيته من جمال من دون التفاته إلى أي شيء جاهز. لذا فقد كان مبدعاً وماركة مسجلة يستحيل تقليدها». ويلفت الفنان السوري إلى أن الممثل عموماً يمنح درجات على الحضور، وقد حصد خالد تاجا أعلى درجات في حضوره أينما حل. وعن علاقته به كإنسان، يفصح كوسا: «لا أتذكر طوال السنوات التي عاصرته فيها ممثلاً وإنساناً أنّه تحدث عن أحد من دون أن يمتزج حديثه بشيء من الحب».
أما رفيق دربه الفنان المخضرم سليم صبري، فيقول لـ«الأخبار»: «اجتمعنا في الخمسينيات من القرن المنصرم. يصعب اختصار علاقتي بهذا الرجل لأنها دامت ما يفوق خمسين عاماً. مسيرة عنوانها النضال، ولا يمكن الموت أن يغيّبه؛ لأنه حفر مكانه عميقاً في وجدان رفاقه ووجدان جمهوره العريض. إنّه رفيق عمر وخسارته أكثر من فاجعة». فيما يكتفي الممثل عدنان أبو الشامات بشهادة موجزة عن الراحل، قائلاً إنّه كان بمثابة عراب حقيقي يحظى باحترام نادر من الجميع «لطالما رافقت الهيبة والوقار دخوله أي موقع تصوير».
وبينما يهمّ عباس النوري للحديث عن الراحل، يقطعه صوت المشيع وهو يعلن نبأ رحيل الفنان السوري فيما يعلو صوت أحدهم متذمراً من انتشار القوات الأمنية. هكذا، شقت سيارات التشييع طريق الرحلة الأخيرة للممثل الراحل في شوارع العاصمة التي عشقها وعاش فيها معظم سنوات عمره.
قطع الموكب الطريق محاطاً بجموع الجماهير التي وقفت لتحيي نجمها الكبير. كانت شرطة المرور تسهل حركة الموكب، وهو يشق طريقه بهدوء من أوتوستراد المزة مروراً بساحة الأمويين ثم بالقرب من حديقة السبكي وصولاً إلى ساحة الشهبندر، قبل أن يحط في ساحة شمدين حيث ترجّل المشيعون وساروا خلفه باتجاه المقبرة. هناك تجمهر أهله وأصدقاؤه وزملاؤه، وعلى رأسهم دريد لحام، وسليم صبري، ورياض نحاس، وغادة بشور ومجموعة من الممثلين الشباب بينهم مديحة كنيفاتي، وإسماعيل مداح، وعبد الرحمن قويدر، ولواء يازجي، والسيناريست الشابة لبنى مشلح، والموسيقي طاهر مامللي وآخرون. وقف أهالي الحي الشعبي بازدحام على جانبي الطريق المؤدية إلى المقبرة حيث ألقى غالبية الحضور نظرة الوداع الأخيرة. هنا أطل أحد أصدقاء الفقيد أيام طفولته وألقى كلمة مؤثرة قال فيها: «منذ سبعين عاماً ركضنا نحو الحاكورة ونهر يزيد، وها أنت اليوم تعود إلى سفوح قاسيون مسقط رأسك لترقد بهدوء وأمان وسلام (…) كل النوارس التي لوحنا لها سوية تبدو حزينة اليوم (…) وداعاً يا خالد». وبينما كانت عائلة تاجا تتلقى العزاء، لم يقو الكاتب السوري عبد النبي حجازي على الوقوف بعدما كتب ليلة أمس ملخصاً موجزاً عن علاقته بصديقه وشقيق زوجته خالد تاجا. أما الفنان دريد لحام فقال لـ«سانا» إنّ «الراحل لم يبتعد عن القضايا الوطنية والقومية وأعماله الوطنية شاهد على ذلك»، فيما قالت منى واصف: «إنه رفيق عمر. أقول له وداعاً خالد تاجا، ستترك أثراً لن يغيب عن حياتنا وفننا».
الفراغ والخسارة يبدوان كبيرين. والمؤكد أنّ أحداً لن يستطيع سد الفراغ أو تعويض الخسارة بعدما ترجّل «الحارث ابن عباد» عن فرسه ليضيق الخناق أكثر على الدراما السورية هذا الموسم، وهي تفقد برحيله أحد أعمدتها وأبرز ممثليها وأكثرهم موهبة وشهرة وجماهيرية.
رحيلك غصّة
صادف يوم رحيل خالد تاجا عيد ميلاد المخرج سيف الدين السبيعي والسيناريست فؤاد حميرة. الأول رد على كل من عايده عبر فايسبوك بالقول: «فرحتي بيوم مولدي ترافقت مع غصة في القلب، ودمعة بالعين. صحيح أنني أعرف أن خالد تاجا مريض (…)، لكنني كنت آمل أن لا يأخذ هذا القرار ويرحل». أما فؤاد حميرة، فكتب: «هل هي الصدفة الغريبة أنك تموت يا خالد في ذكرى مولدي؟ (…) كيف أحتفل بعد اليوم بميلادي؟ لو أنك أجّلت رحيلك ساعات لينبلج فجر يوم جديد. حتى في هذيانك، تصر على أن تصبح شريكي كما كنا في «الحصرم الشامي». رحيلك غصة خالد».
—————–
يقولون إنك مت
زياد عبدالله
يقولون إنك مت يا خالد. إنها شائعة يسهل تكذيبها. أنت في تخدير عام وقد أقنعوك للمرة الأولى بأنه لا يشبه الموت، وكم كنت تكرهه حين لم تقبل إلا بتخدير موضعي، ورحت تراقب على شاشة كل ما كان يفعله الأطباء بجسدك في روستوك. أنت يا من قتلت المرض مرات، سددت له ضربات قاضية، إلى أن استقر في رئتك فرحت تمطره بوابل من السجائر حتى آخر ذرة أوكسجين.
ما زلت ملاكماً يدخن «غولواز» أصفر كعادتك، و«سائق الشاحنة» الذي يعشق عرق «الريان»، العاشق ذو الجهوزية الأبدية للغرام والتهام الحياة. أدوار كثيرة لم تؤدها، وما زال الحلم وارداً بأن تجسد «جلجامش» وإن كان الخلود بالمتناول. ما زال «دونكي خوته» ينتظر أن تجسده ولم أعد أتخيله إلا أنت بجسدك المترامي وصوتك القوي المجلجل وتلك اللهجة الدمشقية المرنمة. إنه أنت تماماً وأنت تخوض حروباً يومية مع طواحين الهواء لأنك تؤمن بالحلم، وتحقيقه ليست إلا مسألة وقت. الوقت «ضريح الآمال والرغبات كلها»، الوقت الذي كنت تطبق عليه بيديك فيتسرب من بين الأصابع لتقول كما ماكبث: «الحياة ظل يمشي، ممثل مسكين، يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح، ثم لا يسمعه أحد، إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف».
أقع على شكسبير في بيتك في دمر، يمشي بحذر على رؤوس الأصابع بين الانتيكات والتحف، تسأله إن كان الحارث بن عباد كما كتبه ممدوح عدوان فيه شيء من هاملت، مات ممدوح وها أنت تفعل الشيء نفسه ولم تقدما «مأساة لير». ثم إن السينما السورية لم تعد أبداً كما كانت حين اقتحمتها في عز عطائها، وكنت «الفهد» وواحداً من «رجال تحت الشمس»، وأكثر من 20 فيلماً انتاج القطاع الخاص، يوم كنت «البطل النقيض» على الدوام وأنت ترفع حاجبك كما توفيق الدقن.
ثمة عداء بينك وبين «الماكير» وأنت تنتقل من دور إلى آخر، ولا تريد لأدائك أن يشبه آخر، لدرجة كنت تريد أن تتخلص فيها من شكلك ووجهك، ولا ينجح «الماكير» في فعل ذلك، كنت تجد في ما تصنعه أمام الشاشة شيئاً يشبه ما يجيب به نجنسكي حين سؤاله عن كيف يقفز ويدور سبع دورات في الهواء: «لا أعرف، أقفز في الهواء، أعد الدورات فأصل الرقم سبعة فأتوقف وأعود إلى الأرض».
واحد، اثنان، ثلاثة. أتذكر كل من كنت تحبهم، وأنت تلتقي بهم الآن، قد تقول لستانيسلافسكي أنا مثلك «أنا أشعر إذن أنا أفكر». أربعة، خمسة. قد تلتقي ممدوح عدوان وتشرب نخب سوريا الحزينة المفجوعة على أمل وغد مشرقين. ستة، سبعة، وعداد الأموات يتواصل، والموت سوري بامتياز، ولهذا رضيت أن تموت، وصعدت مع عشرات السوريين الذين يصعدون يومياً إلى السماء.
—————
رحيل الفنان السوري الكبير خالد تاجا
..أبدع في الدراما ولمع في الكوميديا
يقظان التقي
غيب الموت الفنان السوري الكبير خالد تاجا عن عمر يناهز 73 عاماً بعد تدهور حالته الصحية أخيراً وأثناء علاجه الذي أوقعه في العناية المركزة في صراع طويل مع مرض السرطان.
منذ فترة ليست بعيدة شاهدناه على الشاشة الصغيرة، هو الذي مكث طويلاً في العين بطوله الفارع وصوته التشكيلي الشامي الذي يتحرك في كل اتجاه. كان مشهداً لا ينسى ينحني بجسده الطويل ليتماهى بالتراب ويصرخ بمن حوله من ممثلين تريدون أن تعرفوا كيف تحبون بلادكم، هكذا وينحني بوجهه وشفافهه ليلامس التراب ويعفره بيديه ويغسل به وجهه… ويقول هكذا تحبون بلادكم”.
مارس خالد تاجا مهنة التمثيل بشغف كبير وعاشها بطريقة تضج بالحياة والحرارة والقوة عنواناً للمثل السوري الهائل والوحشي والرصين والفوضوي في آن.
الرجل تاريخ بدأ حياته بداية بسيطة وتطور الى أدوار كبرى مؤثرة في “التغريبة الفلسطينية” و”اخوة التراب” و”أيام شامية” و”الفصول الأربعة” و”الحصرم الشامي” و”بقعة ضوء” و”يوميات مدير عام” و”زمن العار” الذي حوله زمناً جميلاً حنوناً لعب فيه دور الأب والزوج والعاشق بطراوة وأناقة هائلة الى غيرها من الأعمال المسرحية والسينمائية.
لقب خالد تاجا بـ”انطوني كوين العرب” وقد يكون في هذا اللقب ظلم كبير بحق نجم من أصل كردي متجذر أكثر في التراب والمعاناة وبعيداً عن الترف الوجودي والسينمائي وصار من أشهر الممثلين السوريين المخضرمين.
لا الدراما كان بعيداً عنها، بل في صلبها ومفجراً لمراحلها، ولا الكوميديا. فنان بمزاج فوق العادة واستحق اللونين، واستحق لقب فنان حقيقي وباتساع العبارة والمصطلح.
كان برجاً تمثيلياً بطبقات من العينين الى الوجه ومفرداته التعبيرية الى الصوت التشكيلي ذي الصدى الشامي والكردي، الى الجسد الطويل الذي كان يستخدمه مثل الموسيقى يلويه ويرجع به الصدى والظل وأحياناً الضوء وحتى كان هذا قبل اندلاع الثورة السورية ومؤشراً بأن نظام “باب الحارة السوري” قد بدأ يتغير وينقلب على النظام البعثي الذي يدفع السوريين نحو الغربة والفتنة والانقسام والانغلاق على الآخر. فعلاً باب الحارة تغير في الدراما السورية بمؤشرات ذات دلالات مهمة. خالد تاجا واحد من أركانها كما منى واصف وآخرون كثيرون قاوموا الظلم والأحادية في أدوارهم الكبيرة… وشكلوا وراكموا ارهاصات ثورة الناس على نحو غير مباشر.
خالد تاجا فنان طويل جداً بمراحل عطائه المتنوعة والمتناقضة وأعماله التي تطورت الى مسارات مزدهرة في أدائها ونجاحاتها. هو الذي لم يترك دوراً لم يؤده. ولم يكن حقيقة ممثلاً عادياً أو بسيطاً.
فنان مبدّع لدرجة التفرقع لدرجة غير معقولة وأعتقد أن ذلك يأتي من حبه للتراب الذي واجهه في كل القضايا التي جسدها المعقدة والكثيفة والبسيطة، ومن دون قناع بتصويت عالٍ أحياناً، وتحت الهمس أحياناً كثيرة وبعيون كانت تفزعنا قليلاً في البدايات ويشوبها الحزن والغضب.
ولد تاجا في حي دمشقي العام 1939 وبدأ حياته كممثل بسيط في فيلم “سائق الشاحنة” الذي أنتجته الهيئة العامة للسينما في دمشق العام 1966. ثم قدم العديد من الأفلام وله رصيد كبير من المسلسلات والأعمال التلفزيونية.
كان يفضل لقب “تاجا الشامي” وهو في مسيرته وقيمه الاجتماعية والوطنية وغير المذهبية والمنفتحة، كان ملكاً شامياً…
صديقاً وزعيماً بين أقرانه وشاعرياً بسيطاً في علاقاته ونظراته وشيطاناته الإبداعية وبمسيرة أحلام طويلة وبقلب من رآها، قلب مخضب بالصوت والوميض كاسراً حدود وحواجز “التغريبة الشامية” التي امتدت لعقود.
بغيابه يودع الوسط الفني السوري والعربي والجمهور العربي فناناً بذائقة الياسمين الدمشقي والصخر الكردي على صلابته ومرونته ماكثاً في الذاكرة الفنية أكثر من لحظة وومض صار نادراً واستثنائياً. فنان جبار حقيقة.
—————-
سائق الشاحنة والأربعاوات الأربع
إبراهيم اليوسف
يعد الفنان الكبير خالد تاجا “1939-2012” أحد أبرز الفنانين السوريين، إذ كرس حياته على امتداد نصف قرن للفن، فعرفته خشبة المسرح، كما عرفته الشاشتان الصغيرة والكبيرة، واحداً من الرواد الأوائل الذين أرسوا دعائم التمثيل محلياً، وعربياً، وعالمياً، منذ السابعة عشرة، من عمره حتى آخر نبض في حياته، إذ تأكد نبأ وفاته النهائي في تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الأربعاء4-4-2012- ويالمصادفات الرقم 4 هنا!- وهو الذي تزوج بأربع نساء، بعد أن انتشر في الأيام الأخيرة هذا النبأ الأليم، إثر جلطة أصابت كلتا رئتيه، وراح المقربون منه يكذبون الخبر، إلى أن حل النبأ الحقيقي، بعد أيام فحسب من محنته المرضية المفاجئة، ليكون لسان حال من هي مقربة منه في أسرته الفنية “هذه المرة لن أكذب الخبر فهو حقيقة مرة” .
خالد تاجا، الفنان السوري الكردي، أو “تاجا الشامي” كما كان يحب أن يسمى “هو ابن حي” الأكراد الدمشقي، لا فصام بين شريط حياته الزمني، والفن، حيث كلاهما متداخلان، إلى تلك الدرجة العالية من التطابق، وكيف لا وهو الذي كرس عقود عمره لضالة الفن، إلى درجة عالية من الإخلاص، ليسميه الشاعر محمود درويش ب”أنطوني كوين العرب”، ليقول عنه مصطفى الخاني، الفنان المعروف والقريب المقرب منه: بل هو “خالد تاجا العرب”، كما أن مجلة “التايم” الأمريكية قد وصفته في العام 2004 بأنه واحد من أفضل خمسين ممثلاً عالمياً مهماً ومؤثراً .
لقد برز تاجا خلال أعمال فنية كثيرة، بعدما دخل عالم التمثيل من بوابة المسرح، وكان باكورتها سينمائياً فيلم “سائق الشاحنة” الذي كرس اسمه، على نحو واسع لتتالي أعماله الإبداعية ومن بينها على سبيل الذكر لا الحصر “غوليمانوف” و”شبكة العنكبوت” و”أخوة التراب” و”يوميات مدير عام” و”الزير سالم” و”أيام شامية” و”صلاح الدين الأيوبي” و”الحصرم الشامي”، وقد بلغت هذه الأعمال المئة، ليكون أحد صناع المسرح السوري المعاصر، كما هو أحد صناع الدراما السورية ذات الحضور الكبير على الخريطة الفنية عربياً وعالمياً .
وإذا كانت صفات الدمشقي، الحكيم، دمث الأخلاق، تميز شخصية الفنان تاجا، فإنه قد أدى أدواراً متعددة، ومن بينها دور الشخص “القبضاي” والقائد، والزعيم، بل والمحارب، ناهيك عن جملة من الأدوار الأخرى التي كانت تؤكد بجلاء براعة موهبته الكبيرة، في تقمص شخصيات الأدوار التي لعبها، وهي خصيصة الفنان المبدع الكبير الذي يعيش شخصية الدور المسند إليه، كاسراً بذلك نمطية الشخصية التي لا يستطيع كثيرون التحرر منها البتة .
وإذا كان تاجا فناناً كبيراً، فإنه عرف بتأثره الشديد بما يدور من حوله، إلى درجة وقوعه تحت فورة العاطفة في ردات فعل، إلى درجة اللبس، ربما في أكثر من موقف موثق، بيد أن “بارومتر” حبه للإنسان، وفق زاوية نظره، ومحيطه، لم يتغير، فهو الذي جسد أدواراً بطولية في أكثر من عمل فني لنصرة القضية الفلسطينية، ناهيك عن تفاعله مع أحداث غزة، بروح عالية، إذ لم يتلكأ طوال حياته في إدانة القاتل، وانحيازه إلى الضحية والدفاع عنها، بروح مجاهد، عملاق، ولعل وقوعه تحت فورة العاطفة تلك، كان نتاج تفاعله واستجابة لهيمنة الصورة الإلكترونية، الأحادية، من حوله، لتظل روحه الإنسانية الباذخة، العمود الفقري لشخصيته الاستثنائية .
————-