مراجعات كتب

“رسائل الى شاعر شاب” لريلكه: إن لم تكن مضطرّاً/ ابراهيم العريس

 

 

في العام 1903 كان راينر ماريا ريلكه في الثامنة والعشرين من عمره، وكان وطّد لنفسه مكانة في عالم الشعر والثقافة الألمانية في شكل عام. لكنه كان يشعر بالسأم… ولما كان السأم بالنسبة إليه لا يتناسب أبداً مع النشاط الإبداعي الذي كان يتوقعه لنفسه في تلك السن، لم يجد أمامه إلا أدب الرسائل يزجي به الوقت، مستخدماً تلك الرسائل للتعبير عن نفسه. ولئن كان ريلكه في تلك المرحلة قد تراسل مع عدد من كبار الفنانين والأدباء من أمثال غرهارت هاوبتمان وآلن كاي وآرثر هوليتشر، فإن ذلك لم يمنعه من ان يتراسل أيضاً مع عدد من الأدباء الشبان الذين كانوا، حينها، في بداياتهم، وكان يحلو لهم ان يرسلوا إليه نتاجاتهم. وكان من بين هؤلاء شاعر شاب يدعى فرانتز كزافر كابوس، لا تتجاوز سنه التاسعة عشرة. وإذ كان كابوس هذا قد أرسل الى ريلكه بعض قصائده لكي يستمزج رأيه فيها، وجد هذا الأخير في ظروف الشاب وموهبته ما أغراه بأن يكتب إليه عدداً لا بأس به من الرسائل، ستكون هي نفسها تلك التي انتزعت من مراسلات ريلكه العامة، لتنشر، للمرة الأولى، مستقلة في العام 1929، تحت عنوان «رسائل الى شاعر شاب» وتصبح واحداً من أكثر كتب ريلكه شعبية، بل «المفتاح» الذي يلجأ إليه دارسو حياة ريلكه وأعماله للغوص عميقاً في أفكار الرجل. وهنا، إذا أشرنا الى ان كابوس نفسه، حين نشر الكتاب، كان أضحى كاتب روايات جماهيرية ترفيهية بعدما صار مراسلاً حربياً وتخلى عن كل نزعاته الإبداعية القديمة، فإن من المؤكد ان هذا ما كان من شأنه ان يعني شيئاً لريلكه. وذلك بكل بساطة لأن الشاعر الكبير حين كتب تلك الرسائل الى الشاعر الشاب، كان كمن يكتب الى نفسه مستخدماً كابوس مجرد مرآة لذاته. فهو مثله كان تلميذاً في مدرسة حربية، ومثله بدأ خوض الشعر باكراً، ومثله استبدت به في ذلك الحين أسئلة حافلة بالقلق. ومن هنا فإن مصير كابوس لا يشكل معضلة، إذ كل ما في الأمر ان ريلكه استخدم التراسل معه لمجرد ان اعطاه هذا التراسل فرصة ليقول باكراً أشياء كثيرة حول الشعر والحياة والله والفن والمدينة وروما والجنس والرجل والمرأة وتماثيل رودان، بين أمور أخرى. ويعزز هذا ان ريلكه حين نشر الرسائل في كتاب، تعمد ألا يضم إليه أياً من رسائل كابوس إليه.

إذاً، كانت الشرارة تلك الرسالة الأولى التي بعث بها إليه كابوس في العام 1903 سائلاً إياه النصح والرأي حول قصائده وهل عليه ان يكمل او يتوقف؟ وكان جواب ريلكه في الرسالة الأولى، ان عليه – أي على الشاعر الشاب – ان يسأل نفسه بداية: «هل أنا حقاً مضطر الى الكتابة»؟ فإذا كان الرد نعم، من دون لبس أو غموض، سيكون في وسع ريلكه ان يشجعه، من دون لبس أو غموض ايضاً… إذ عند ذاك، «يمكنك ان تخوض هذا المصير، خضه واحمله على كاهليك، بثقله وعظمته، من دون ان تطلب مقابل ذلك أي أجر أو ثواب يأتيك من الخارج». وانطلاقاً من تلك الشرارة، أي ذلك الجواب الأول، نمت بالتالي تلك المراسلات التي يعطيها، وحدتها وجمالها، عاملان أساسيان: أولهما بالطبع، التعاطف الذي أحسه ريلكه تجاه ذلك الشاب – الذي سيصبح اشبه بقرين له، بأنا/ آخر يتأمل من خلاله ذاته – وثانيهما الأمل الذي طالما كان ريلكه عبّر عنه في قيام «إنسانية مستقبلية، ستكون قادرة، بين أمور أخرى، على تجاوز كل الصراعات التي ستكون ولدتها، ومن بينها بخاصة، الصراع بين الرجل والمرأة»… اذ ان ريلكه يكرس لهذين جزءاً كبيراً وأساسياً من النصوص. ولافت هنا ان راينر ماريا ريلكه، الذي كان في تلك الفترة المبكرة من حياته يتطلع الى النحات رودان لكي يكون مثالاً وقدوة له، ها هو يصبح في شكل مفاجئ وحاسم في الوقت نفسه، قدوة لشاعر شاب يتطلع إليه بلهفة.

يبلغ مجموع عدد هذه الرسائل عشراً، وهي في مجموعها تشكل ما يمكن اعتباره «دليلاً روحياً» يفترض به ان يقود خطى الشاعر الشاب، لكنه في الحقيقة أتى كما لو انه يقود خطى ريلكه نفسه. ومن هنا قيمتها الفائقة. ذلك ان ريلكه، في معرض إجابته على قلق مراسله وأسئلته، لا يعالج هنا سوى الأمور الأكثر جوهرية، أي تلك المطروحة عادة على كل شاعر وعلى كل مبدع يرى ان الإبداع وسيلة لحياته. وريلكه يضع، كشرط اساسي لوجود الإبداع، مسألة وحدة المبدع، اي العزلة التي تتطلع إليها عادة نفوسنا في لحظات صفائها، اذ من هذه الوحدة ينبع كل ما هو نقي وواضح فينا «فإن كل ما نتطلع إليه ونحاول ان نبدعه، إنما ينبثق من ذلك المكان القصي في داخل ذواتنا، المكان الذي لا يمكننا ان نتقاسمه مع أي كان، والذي يحملنا بعيداً بعيداً من صخب العالم وضجيجه». ويستطرد ريلكه هنا قائلاً: «ان يكون المرء فناناً مبدعاً، معناه ان ينمو مثل شجرة لا تدفع نفسها دفعاً، بل تقاوم مسلّمة روحها الى رياح الربيع القوية، من دون خشية من ألا يأتي الصيف أبداً. فالصيف يأتي، لكنه لا يأتي حقاً إلا من أجل أولئك الذين يعرفون كيف ينتظرون». والحال ان المرء لن يدرك بسهولة أهمية هذه العبارات والاستعارات. إلا على ضوء قراءته لبعض أجمل أشعار ريلكه مثل «مرثاة دوينو» و»سوناتات الى اورفيوس».

غير ان الأكثر لفتاً لأنظار القراء، في هذه الرسائل، يبقى دائماً ذلك النص الفاتن حول المسائل الجنسية ومسائل العلاقة بين الرجل والمرأة، ذينك اللذين يعتبر ريلكه ان الصراع بينهما هو واحد من الصراعات الأقدم والأعمق في تاريخ البشرية، «مع انه صراع لا ينبغي له أصلاً ان يكون موجوداً». ففي الحقيقة – وكما يرى ريلكه في جوهر كلامه – ليس بين هذين الكائنين تنافس وتناحر، بل تكامل اساسي ولا بد منه. ويضيف الشاعر، وهو يتنقل في نصّه من الفن الى الجنس، تماماً كما فعل من قبله افلاطون في «المأدبة»، بأن «الخصب في العلاقات الجنسية الإنسانية بين الذكر والأنثى، له نفس اهمية الخصب في الفن، بمعنى ان ثمة تساوياً في ما يلده اللحم وما يلده العقل والروح، إذ ان اصل الولادتين واحد وغايتهما واحدة، طالما ان شهوة الجسد تمنحنا معرفة لا حدود لها، معرفة شاملة، واستحواذاً تاماً على الكون كله «ففي فكرة ابداعية واحدة، يمكن ان يعاد إحياء ألف ليلة حب منسية تأتي لتعطي تلك الفكرة عظمتها وسموها». فالحب، هنا، بالنسبة الى ريلكه، معرفة وإذا كان الإنجاب، بالنسبة الى الإنسان، ولادة كينونة ما، افليس توليد الكينونة يعني في الوقت نفسه «الخلق في حميمية الامتلاء»؟ وإذ يرى ريلكه هنا ان الجنسين هما اقرب الى بعضهما البعض مما يخيل الى الناس عموما، يطور هنا «هذه الفكرة التي ستلعب دورا اساسيا في كتاباته لاحقا» كما يقول دارسو اعماله: «فكرة فحواها ان تجدد العالم لن يقوم إلا في موقف جديد يتخذه الرجل إزاء المرأة…». ويستطرد ريلكه: «ان الرجل والمرأة لن يبحثا عن بعضهما البعض من الآن فصاعدا لكي يتناحرا، بل لكي يوحدا ما بين وحدتيهما الخلاقتين».

ولد راينر ماريا ريلكه العام 1875 في براغ لأسرة متماسكة، غير ان ريلكه سينفصل عن أهله في العاشرة من عمره، وسيكون في الحادية عشرة حين يدخل المدرسة العسكرية في سان – بولتن، ثم المدرسة العسكرية العليا في ماهريخ – فسكرتن. وفي العام 1894 نشر عمله الأول «حياة وأغنيات». طبعاً لم يضمن له هذا العمل المبكر شهرة كبيرة، لكنه كان خطوة أولى على طريق ستتواصل حتى رحيله في الأيام الأخيرة من العام 1926. أما أعماله الكاملة فنشرت للمرة الأولى في العام 1927، وهي تضم الكثير من الأشعار وأدب الرحلات والنصوص الإبداعية والنقدية، التي جعلت من ريلكه أحد كبار الكتّاب والشعراء عند بداية القرن العشرين.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى