رسائل طائفية مبكرة ومنذرة: روزا ياسين حسن
بعد أقل من عشرة أيام على اندلاع الثورة السورية خرجت “بثينة شعبان”، المستشارة الإعلامية لـ “بشار الأسد”، لتقول على قنوات الإعلام بأن ما يحدث في سوريا يندرج ضمن “مشروع طائفي يحاك ضد سوريا ولا علاقة له بالتظاهر السلمي والمطالب المحقّة والمشروعة للشعب السوري”، ثم أضافت بأن “ما تأكدنا منه حتى الآن بعد أن اتّضحت بعض الصور أن هناك مشروع فتنة طائفية في سوريا”، وإن “هذا التجييش الطائفي يستهدف وحدة سوريا”.
كانت تلك رسالة مبكرة دقيقة وواضحة وجهها النظام السوري لمعارضيه، دولاً وأحزاب وقيادات سياسية وشعب: “فتنة طائفية وتجييش طائفي” لكن للأسف فأغلبهم لم يفهمها، أو لم يأخذها على محمل الجدّ أو يقدّر خطورتها، وبعضهم انساق وراء مآربها لغايات مبيّتة تغازل تطلعاته!
في سياق متصل بذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 14 أيار 2013 تقريراً مطولاً عن مجازر بانياس التي ارتكبتها قوات النظام السوري بالتعاون مع مسلحين موالين لها في قرية البيضا ورأس النبع. التقرير جاء كمقابلات تروى على ألسنة شهود وناجين من المجازر، يذكرون الكثير من التفاصيل المروّعة التي عاشوها في ذلك اليوم 2 أيار 2013. يعتبر التقرير شهادة مهمّة وضرورية، رغم تأكيده على الجانب الطائفي المتنامي في البلاد، فقد أتى في الوقت الذي راحت الأضواء تميل فيه عن المجزرة، الطائفية بامتياز، باتجاه وقائع ومبادرات عنفية طائفية من طرف الثورة المسلّحة على الأرض، كتلك التي قامت بها جبهة النصرة من إعدام طائفي للمدنيين في حلب، وما ضجّت به وسائل الإعلام من إقدام أحد المقاتلين المعارضين على لوك كبد جندي علوي، وهدد بمصير مشابه لكل العلويين! تلك الأفعال لم تقم إلا بإشاحة وجهة نظر العالم عما يقوم به النظام من جرائم لصالح الأفعال الطائفية من قبل المعارضة، التي لا يمكن أن تقارن كميّاً ونوعياً بأفعال النظام، كما أن تلك الأفعال لا تتنصّر للشعب السوري، الذي تدّعي نصرته، بل على العكس هي تُخفت من تعاطف العالم مع كل مآسيه وآلامه، ذاك التعاطف الخافت أصلاً.
لكن كل تلك التداخلات المركبة والمنذرة بالأسوأ لا تبدو خارجة عن سياق متواصل بدأ منذ أول الثورة بجمل “بثينة شعبان” آنفة الذكر، فخلال السنتين السابقتين بدا أن كل الإشارات والتصرفات والمبادرات والتصريحات من قبل النظام السوري تترتب لتأكيد الفكرة الطائفية، وتحقيق تلك الفتنة والتجييش الطائفيين اللذين أنذر بهما، فقد قال بوجود جبهة النصرة في صفوف الثورة قبل أن يكون الشارع قد سمع بها بعد، واتهم الثوار في مدينتي حمص ودرعا برفع الأعلام السوداء التابعة للقاعدة حين كانت هتافاتهم: “حرية حرية”! كل ذلك حصل بمؤازرة قوية من جهات خارجية، معه أو ضده، من مصلحتها دعم ذلك الوحش الطائفي لأسباب مختلفة. لكن الأهم في خطته الطائفية المحكمة هي محاولاته الدؤوبة لجرّ الثورة كي تضحي صراعاً طائفياً، الحلّ الأنجع لتفريغها من مضمونها الثوري وتبرير حربه ضدها وليبقي على صورته باعتباره “حامي العلمانية ومخلّص الأقليات”!! كان أهم حامل لهذا المخطط هو اعتماده على التراكم المجتمعي الذي ساهم بتأجيجه، والذي تجلّى في تفريغ المجتمع من التعدد الثقافي والسياسي، ومن العمل المدني والسياسي، الأمر الذي أنهى ثقافة قبول الآخر وجعل الانتماءات ترتد إلى انتماءات ما قبل وطنية: طائفية ومذهبية وقبلية وعشائرية. ثم كان الحامل الآخر المعدّ لذلك وهو استخدام الأقليات الطائفية، وخصوصاً الطائفة العلوية، في حربه ضد الإرهاب المزعوم، معتمداً على تراكمات تاريخية قديمة تتبدى في ارتباط المجتمع السوري بموروثات تاريخية، إثر سيادة الانتماءات ما قبل الوطنية، الأمر الذي جعل المجتمع مرتهناً لمنطق التاريخ البائد وحبيساً فيه. يتبدى ذلك، أكثر ما يتبدى، في استحضار مختلف الطوائف في سوريا اليوم لوقائع حدثت منذ عشرات القرون، وربما آلاف السنين، كأن الزمن عاد القهقرة إلى الوراء وغابت حضارة عمرها قرون طويلة كما تبددت مفرزاتها وحلّ محلها تاريخ طائفي بغيض وعفن. ساعده في ذلك أيضاً دعم مالي وعسكري وإعلامي خارجي للجماعات المتطرفة “الطارئة” على شارع المعارضة! هذا ما سهّل الأمر لاعتماد النظام على تلك الشروخات المجتمعية والمناطقية التي عززها طيلة أكثر من أربعة عقود، كما اعتمد على جيش عقائدي عصبي ولاؤه للفرد والمنفعة وليس للوطن، ولا يخلو من ملابسات طائفية عميقة أساسها غياب العدالة والمساواة في تلك المؤسسة العسكرية المهمة كما في كل المؤسسات الرسمية الأخرى. ونجح نهاية، إلى حدّ بعيد، في نقل الوحش الطائفي إلى الشارع المعارض، كما ساعد في تكريس وباء محاباة الأصول الطائفية على حساب الوطنية السورية الذي راح يتفشّى بين فئات المجتمع، كما نجح قبلاً في تعليب الطائفة العلوية في علبه الضيّقة ودعائمها: الخوف من انتقامات الآخرين في ارتباط أضحى وثيقاً مع النظام كمصير مشترك!
يبدو نشوب الصراع الطائفي في سوريا اليوم، والذي يهدد بتفكيك الثورة وآمالها، من أخطر التهديدات التي قد تواجه سوريا بل والمنطقة بكاملها، فصراع كهذا لم يغذّيه النظام والدول الداعمة له، كما الدول الداعمة للتطرف من الجانب الآخر، إلا لأنهم يعلمون بأنها من أشدّ الصراعات شراسة، لأنها تقوم على العصبية التي يستخدمها النظام لتقوية سلطته، كما يعرفون بأن خسائرها الهائلة ستعيد المجتمع إلى الخلف مئات السنين، وترميه في تخلف وتعصّب ستبقى آثاره طويلاً في أرواح السوريين، ولن تتوقف عند حدود البلد بل ستمتد وتتسع لتشمل المنطقة المحيطة ما دامت التداخلات الاجتماعية والتاريخية قائمة بين سوريا ومحيطها الجغرافي، تماماً كما وعد يوماً على لسان رئيسه في إحدى الرسائل المبكرة والواضحة والمنذرة!
موقع 24