رسائل غير منشورة لألبير كامو: عزيزي سارتر لم تكن صداقتنا موفّقة وأنا نادم عليها
ما بين المعرض المخصّص له في منطقة لورمارين الفرنسية ومراسلاته المشوّقة التي تصدر في الشهر المقبل، يبدو صاحب رواية “الغريب” الكاتب الفرنسي ألبير كامو نجم موسم الخريف الثقافي في باريس. المراسلات غير المنشورة له سيكون لها وقعها على القرّاء لما تحمله من جديد حول علاقته ومناقشاته مع جان بول سارتر في شؤون الأدب والكتابة وفي إطار الفلسفة الوجودية والجدل الكبير الذي أثارته مؤلفات الاثنين في الحقبة الذهبية أي في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وما قبله قليلاً، وفي إحداها كتب كامو: “عزيزي سارتر، أتمنى لك العمل الكثيف أنت والكاستور. حسناً! لأننا أنجزنا عملاً سيئاً مع أصدقائنا، كان سيئاً لدرجة أنني لم أنم ليلاً بعدها. أرسل إليّ إشارة حين تعود وسنقضي سهرة ممتعة. صداقتي، كامو”.
هذه الرسالة مفصلية لأنه ليس ما يدل الى طبيعة العمل الذي يتحدث عن كامو ولم يُعرف سوى أن الرسالة مؤرخة يوم الاثنين، كما لم يعرف القارئ ما كان جواب سارتر، غير أن الرسائل التي في حوزة هيرفي وايا فالنتان ستعطي إجابات عن الرسائل الألغاز التي نُشر بعضها في عدد من الصحف في القرن الماضي. ولكن ما كان هذا العمل السيئ الذي تناقشنا حوله؟ وهذه العبارة “عزيزي سارتر” هل كان يقولها ويكتبها كامو من دون أن يقصدها فعلاً؟.
وذلك لأن الحرب التي كانت معلنة بين الاثنين لم تكن سهلة، خصوصاً أن كامو الذي سينال بعد حين “جائزة نوبل للآداب” لم يكن يوافق سارتر في الكثير من تفاصيل “وجوديته” وفلسفته ومسرحه الذي صب فيها. ولكن ما ليس معروفاً تماماً هو أنه وقبل كل هذه “المباراة الفكرية” والحماسية التي شغلت العالم ما بين كامو وسارتر وتحدّث عنها وحلّلها العديدون طوال القرن العشرين، كان ثمّة مرحلة قبلها، حيث كان الاثنان في خندق واحد. ففي حزيران من العام 1943، قُدّمت مسرحية “الذباب” لسارتر في باريس المحتلة وكانت رواية “الغريب” قد صدرت قبل عام. اعتبر سارتر أن صاحب “الغريب” “كاتب “لطيف” وقدّم له صديقته سيمون دوبوفوار وكانوا يجلسون سوية في “كافيه دوفلور” وتحدثا عن محاولة وإمكانية تقديم مسرحية “جلسة سرية” وبما أن كامو كان قدّم أعمالاً سابقة في الجزائر، اقترح على سارتر أن يخرجها بنفسه وأن يلعب فيها أيضاً دور “غارسين”. بدأت التمارين في غرفة من “فندق كاستور” وقد كتب كامو عن ذلك للكاتب بونج في كانون الثاني من العام 1944 فقال له: “ما لم تفاجئنا بعض العقبات، سنقدّم “جلسة سرّية” في مدينة ليون في نهاية شباط القادم. إنها مسرحية غريبة وأنا حاولت أن أعبّر عنها بأقل وسائل ممكنة أي نوع من الإخراج الذي لا نلحظه. ولكن لا أعرف ما ستكون النتيجة على الجمهور…”.
وفعلياً لم يعرف ذلك كامو بعدها. فالعرض توقفت تمارينه الأخيرة بعد أن ألقي القبض على إحدى الممثلات الرئيسيات في العمل من قبل المحتلين الألمان وحصلت مشاكل أخرى أيضاً. وإذا كان هذا هو العمل السيئ الذي يتحدث عنه كامو في إحدى رسائله اللغز الى سارتر، فهو يقصد بالطبع أن أول عمل له مع سارتر ترك له انطباعاً سيئاً لأنه لم يُثمر. غير أن المسرحية ستعرض بعد حين أي في 27 أيار من العام 1944 في “فيو كولومبيّيه” ولكن مع فريق عمل آخر: فصاحب كتاب “الطاعون” لم يكن مناسباً له العمل مع صاحب “الأيدي القذرة” فهما لم يكونا يملكان طبيعة متشابهة. أو على الأقل هذا الكلام قال سارتر شيئاً مشابهاً له في آب 1952 في “الأزمنة العصرية” أو يمكن القول بأن حكمه كان شريراً وقاسياً تجاه كامو. وفي إحدى الرسائل كتب سارتر: “عزيزي كامو، لم تكن صداقتنا سهلة وأنا نادم عليها(…) ثمة خليط من المشاعر لم يشجعني لأقول لك بعض الحقائق الكاملة(…) ولكن قلْ لي يا كامو، بأي سرّ أو لغز يمكن أن نُقارب ونناقش مؤلفاتك من دون أن ننزع حق الحياة من الإنسانية؟(…)، أو ربما أن كتابك هو شهادة وبكل بساطة على عدم نضجك فلسفياً؟.
هذه الرسائل وغيرها ستُنشر في المعرض المخصص لها في بداية أيلول المقبل في لورمارين ولكن سيرى الزائر أيضاً رسائل أخرى في المعرض تبادلها كامو مع اندريه مالرو الذي عرّفه الى “دار نشر غاليمار” منذ العام 1940، كذلك مع ريمون كينو وفرانسوا مورياك واندريه جيد وغيرهم… وثمة سبب آخر للمعرض الخريفي وهو تاريخ مولد كامو في 7 تشرين الثاني من العام 1913، أي أنه سيكون متزامناً مع مئوية مولده. نقتطف من الرسائل غير المنشورة البعض منها نشرتها مجلة لونوفيل أوبسيرفاتور”:
[ رسالة الى الكاتب لوي غييّو (صاحب رواية “منزل الشعب” ورواية “الدم الأسود”)
12 أيلول 1946
“الطاعون” لم يصل الى مبتغاه…
أنا مذنب بحق، لكن الأمور لا تجري بشكل جيّد معي(…) وفي آخر المطاف، وضعت النهاية لكتاب “الطاعون” ولكن لديّ الإحساس بأن هذا الكتاب لم يصل معي الى مبتغاه، وكأنني قد أخطأت من شدة الحماسة وهذه الهفوة تبدو لي فظيعة ومتعبة. سوف أحتفظ به في درج مكتبي وكأنه شيء ما يشعرني بالقرف(…).
أريد أن أترك باريس بشكل نهائي لأعيش في الريف لأفكر وأعمل كما أستطيع. وما عدا ذلك، ليس لديّ أي رغبة في أمور أخرى. ولكن هناك قضية “بيفتيك”، ولكن أنت تعرف هذا النوع من الحالات، وأفضل أن أتحدث عن شيء آخر(…).
غيّيو ولويس، أرغب بشدة أن أراكما. ولكن بالتأكيد إنها الآن تمطر بشدة عندكما وأنا راغب بالشمس والدفء. إذاً تعالا حالما تتمكّنان من ذلك. أما بالنسبة الى ابنتك، أظن أنها فقط مسألة أموال. ويمكن أن أمدّك بالمال مسبقاً إذا أردت ذلك. هذه الأمور نقبل بها فقط حين تأتي من قبل الأصدقاء. من ناحية ثانية، يمكن أن ترسل بعض الكتابات الى مجلة “نضال” أو “كومّبا” (ولكن ليس أكثر من ثلاث صفحات مصفوفة على الآلة الكاتبة مع عنوانين داخليين فقط) وسوف يدفعون لك حوالى ثلاثة آلاف فرنك للمقالة الواحدة.
انتظر جوابك، أو انتظرك أنت شخصياً وهذا أفضل. صداقتي لزوجتك وابنتك. ولك منّي عاطفتي المخلصة.
[ رسالة الى فرنسيس بونج
20 أيلول 1943
(…) لديّ الكثير لأقوله حول مسألة “الكاثوليكية” ولكن يبدو أننا لسنا متفقين حول الطريقة التي تنتقد أنت فيها الموضوع. فإذا كانت فلسفتها غير فلسفتي، وإذا كنتُ أجد نفسي قادراً على مناقشتها حول تفاصيل عديدة، إلاّ أنني لا أملك تجاهها مشاعر كراهية. وعند هذه النقطة بالذات، أظن أن الفلسفة المادية لم تخدمنا كما لم تعلمنا شيئاً. وإذا اعتبرنا أن العقيدة قد وضعت من أجل أن نصل الى استخدامها، فهذا يجعلنا نخلط في المشاريع أو المخططات التاريخية. لأنه بالتأكيد أنها قد وضعت من أجل استغلالها واستثمارها. ولكن هذا مصير كل عقيدة حين تُستخدم بأسلوب غير عادل وحين نبعد عن العدالة لا نعود ننظر الى الوسائل التي أوصلت الى ذلك. فأنا مثلاً لا أظن أن نظرية نيتشيه قد أصبحت نظرية مخجلة بمجرد أن هناك من استخدمها ليجعلها كذلك. وبشكل عام، إذا كنا نريد العدالة وذاك الجزء من الحقيقة الذي يخصّنا، فليس علينا أن نحكم على عقيدة نسبة الى الذين استهلكوها وجعلوها في الحضيض على طريقتهم بل علينا أن ننظر اليها في قمتها. ولا أظن مثلاً أن باسكال ونيومن وبرنانوس… حتى لا اسمي سوى الذين تذكرتهم الآن، لم يفكروا ويعانوا ويتحركوا من أجل الاستغلال والاستثمار لأفكارهم…
وأظن أن نظرتي الأخيرة حيال هذا الموضوع أن أفضل طريقة لنقاوم ضدّ العالم الخالد عبر الحقائق الإنسانية النسبية وأن نعمل عبر قلب الإنسان (وفي عمق قلبه) تلك العدالة حيث كل إبداع هو “أفكار” وما يقف أمام فكرة الله بالدرجة الأولى هو الاختراع الإنساني الذي سمّاه العدالة(…).
أرجوك، عزيزي بونج (فرانسيس) أن تسامحني على هذه الرسالة الطويلة والمتناقضة. ولولا عدم اتفاقنا على كل الأمور لكم كانت الأشياء مضجرة. ولكن في الواقع، نحن نتفق على قضايا كثيرة، ما عدا جزءاً صغيراً داخلياً أشعر بأنه لي وحدي ولا يدركه أحد ربما هو الجزء الذي لا أدركه أنا بنفسي تماماً والذي نقتله أحياناً.
إنه الجزء المتعلق بسوء التفاهم. وأتمنى أن أصل في يوم من الأيام وعبر إرادة صلبة الى حكمة عالية قادرة على أن تتلقى كل شيء وأن تهضمه بسهولة، حينها ستحبني أكثر. غير أنها مسألة وقت ولكننا جميعنا لسنا أكيدين من أننا سنحصل على الوقت الكافي(…) أشدّ على يدك.
[ إلى روجيه مارتن دي غارد
أول كانون الأول 1957
كيف يمكنني أن أشكرك مرة أخرى على هذه النصائح الثمينة، وخصوصاً تلك الثقة التي أوليتني اياها من خلال إرسالي هذه الصفحات من يومياتك!
(…) ما تقوله لي عن خطاب نوبل سيساعدني، ويرهبني أيضاً. أظن أنني سأحاول أن أقول ما هو بالنسبة إلي دور الكاتب. بدأت ثم مزقت ثم استأنفت، وأنا أحس بأن عليّ أن أعيد كل شيء. آه! أنا متلهف الى العودة الى عملي، والى الصمت! فأنا عندي الآن البرنامج الكامل لستوكهولم.
فبالنسبة الى شخص لطالما هرب من الأمكنة الرسمية، أي عصر هضم! ميشال وكلود غ(ليمارد) يرافقانني، ويعتينان بي. سنستقل القطار، في الخامس عشر بعد ست دورات لا أمل أن أخرج منتصراً! أرسل إليك بالبريد ذاته “يومياتك” التي حافظت عليها طيلة الوقت في الاستديو، والتي لا يعرف أحد شيئاً عنها. أرفق بها كل الشكر الجزيل، فسيكون من المفيد والمعين لي أن أفكر فيك، هناك.
ترجمة وتقديم: كوليت مرشليان
المستقبل