مراجعات كتب

رسائل كوتزي وأوستر..العالم ذاهب إلى الجحيم في سلة بأذنين!/ أسامة فاروق

 

 

في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2009 تلقى الروائي الجنوب إفريقي جي إم كوتزي الرسالة التالية: “عزيزي السيد كوتزي. يحبطني ويبدو لي من العار أن ينحدر كاتب في مقامك إلى استخدام افتراءات معادية للسامية، وكل ذلك بلا أي مسوغ”.

كانت الرسالة تشير بالتحديد إلى كتاب كوتزي “الرجل البطيء” وتحدد السيدة الإنكليزية صاحبة الرسالة الصفحات التي رأت أنها تحمل إساءات إلى اليهود و”تلوث” الكتاب الجميل!

بعدها بأيام أرسل كوتزي الرسالة إلى صديقه الكاتب والروائي الأميركي بول أوستر مشفوعة بتعليق وحيد: “انظر ما يلي، وقل لي ما العمل؟”.

في اليوم التالي مباشرة يأتيه الرد: “عزيزي جون. ما العمل؟ لا تفعل شيئاً، أي شيء. أعني، تجاهل الخطاب الغبي ولا تفكر فيه أكثر مما فعلت”.

ثم ينصحه إن كان لا يستطيع تجاهل الخطاب بأن يكتب لصاحبته ليوضح إن “الرجل البطيء” رواية ولا يجوز التعامل معها إلا في هذا الإطار، فهي ليست بحثا في السلوك الأخلاقي، والعبارات المهينة لليهود جزء من العالم الذي نعيش فيه، وإن قول شخصيه ما في الرواية ما تقوله لا يعني أن المؤلف يقر بذلك. “هذا هو الدرس الأول في كيفية قراءة رواية. وهل كتّاب قصص القتل يقرّون القتل؟ وهل تكون أنت النباتي المخلص منافقا حينما تأكل شخصية لديك هامبرغر؟”. يصف أوستر خطاب المرأة بالعبثي، والأحمق، لذا يقترح أن يكون الرد الوحيد عليه هو تكويره ورمه في سلة القمامة.

لكن يبدو أن الإجابة لم تلق هوى عند صاحب “في انتظار البرابرة” فهو يعرف ذلك بطبيعة الحال، ورد أوستر هو بالتحديد ما كان يقصده: أن يكون الكاتب في خانة الدفاع عن نفسه. يوضح في رسالته التالية: “.. لكن السؤال الحقيقي ليس السؤال عمن يداه نظيفتان ومن يداه غير ذلك. السؤال الحقيقي ينشأ لحظة يزج بك في خانة الدفاع، ومن هوتك هذه تستشعر القادم، تستشعر الإحساس بأن حسن النوايا بين القارئ والكاتب قد تبدد، حسن النوايا الذي بدونه تفقد القراءة متعتها وتبدو الكتابة وكأنها عمل مضن غير مرغوب فيه. ما الذي يفعله المرء بعد ذلك؟ لماذا الاستمرار إذا كانت كلمات المرء تُفتش بحثا عن إساءات أو هرطقات خفية؟”.

الرسائل من كتاب “هنا والآن” الصادر مؤخرا عن “الكتب خان” في القاهرة، ويضم مكاتبات الروائيين بول أوستر وجي إم كوتزي. وترجمة الشاعر المصري أحمد شافعي”.

بدأت الرسائل بعد لقاء كوتزي وأوستر في مهرجان أدبي في استراليا في شباط/ فبراير 2008 واستمرت ثلاث سنوات تناولا خلالها كل الموضوعات: الكتابة، الصداقة، الاقتصاد، الصراع العربي الإسرائيلي، السينما، اللغة، وربما تكون الرياضة هي الملمح الأبرز، حيث ينظر بول أوستر إلى الجانب السردي في الرياضة، بوصفها نوعاً من الفن الأدائي، في حين يحتج كوتزي على رؤية بول الجمالية للرياضة ويراها مدرسة عظيمة لتعلم الخسارة. وتصبح الأفكار المطروحة حول هذا الأمر كالعمود الفقري الذي يربط رسائل الكتاب كلها.

ربما في ظرف آخر كنت لأركز على هذا الجانب من الكتاب، لكن الآن، وبعد سجن الروائي أحمد ناجي بسبب نص نُشر في “أخبار الأدب”، أجدني مدفوعاً إلى إبراز ما قاله كوتزي في تعليقه على رسالة المرأة الانكليزية، فهو بالتحديد ما نأمل أن يصل إلى الجميع، أن يُطبع ويُوزع في المكتبات والطرقات وأروقة المحاكم بعدما أصبحت ساحة لمحاكمة الخيال. الكُتّاب يساقون إلى السجن الآن لأن المسألة تجاوزت النوايا والتفتيش في الضمائر، ووصل العبث إلى اتهام المؤلف بخدش الحياء لأن أبطال روايته يتحدثون في الجنس!

كلمات كوتزي وأوستر تبسيط عملي لأهم نظريات التلقي التي وإن كانت تفرق بين نوعيات القراء، وطبيعة المنتج الذي يتم تلقيه، إلا أنها تكاد تتفق جميعها في أن المكتوب بين القارئ والكاتب يتلخص في أن العمل الإبداعي هو نتاج خيال كاتبه، ولا يجوز بأي شكل محاسبته على الخيال، وهو ما وُصف في الرسائل ببساطة بغياب “حُسن النوايا” الذي يفقد القراءة متعتها الحقيقية.

الرسالة تؤكد أيضاً أننا لم نأخذ وحدنا حصة العالم من الجنون والعبث، فمثل هذه الأفعال العبثية تحدث في العالم، ولكبار الكتاب أيضاً، وليس لدينا فقط، إن كان في ذلك بعض العزاء.

قضية ناجي كما رسالة المرأة الانكليزية تؤكد، وفق كوتزي، أن شيئاً ما جرى. بالتحديد في أواخر السبعينيات أو مطلع الثمانينيات، ترتب عليه تراجع حقيقي للفنون، وفى الوقت نفسه عجز الكتاب والفنانين بشكل عام عن مقاومة التحدي الذي يواجه دورهم القيادي، واليوم بسبب هذا العجز بتنا أشد بؤسا.

لكن ما الذي جرى؟

“الغباء ازداد على جميع الأصعدة”، يؤكد بول أوستر، ويسأل إذا كان الفنانون أنفسهم يلامون على هذه الخسارة. لا يتم حسم هذه المسألة، لكن الأكيد أن الانحدار أصاب كل شيء، حتى إن رسائل الجنود المشاركين في الحرب الأهلية الأميركية، كانت تكشف عن معرفة وثقافة أكبر من بعض أساتذة اللغة الانكليزية اليوم كما يقول. أما المسببات فمتعددة: “رداءة المدارس؟ رداءة الحكومات التي تسمح للمدارس الرديئة بالوجود؟ أم هي ببساطة كثرة المشتٍّتات، وكثرة أضواء النيون، وكثرة شاشات الكمبيوتر، وكثرة الجلبة؟”. أو ربما هذا كله مجتمعا.

وإذا كان أحد أهم كتاب أميركا يصف التعليم هناك بالرداءة، فيبدو أن ما وصلنا نحن إليه منطقياً تماماً.

يعود أوستر مرة أخرى إلى التعليم في رسالة لافتة جداً وصريحة إلى أبعد حد، ويقترح فيها حلولاً لهذه المسألة، يكتب أن الحل يتمثل في معلمين أفضل. لكن كيف يحدث ذلك؟ يسأل. ويجيب: “بحصولهم على رواتب كرواتب المحامين والأطباء وموظفي البنوك الاستثمارية، فنجد فجأة أنبه الطلبة يختارون التدريس مهنة لهم، ويمكن تمويل ذلك بسهولة بالخصم من أي عدد من مشاريع التسليح التافهة، أو بتقليص الموزانة العسكرية”، ويختتم رسالته مؤكداً أن هذا لن يحدث أبداً، على الأقل في أي عالم شبيه بالذي نعيش فيه اليوم “وهكذا نبقى خائضين في وحل شقائنا”.

يبدو أوستر وكوتزي كعجوزين حكيمين يتابعان نهاية العالم في هدوء “العالم ذاهب إلى الجحيم في سلة بأذنين” كما يقول كوتزي، والواضح أنه لا سبيل لإيقاف ذلك حتى الآن، “ولكن ما بديل التذمر؟ أن يغلق الواحد منا فمه ويحتمل القرف؟”.

 

(*) أحمد شافعي، كاتب ومترجم مصري، تخرج في قسم اللغة الانكليزية بكلية الآداب عام 1999، صدر له كتابان شعريان “وقصائد أخرى” و”طريق جانبي ينتهي بنافورة” وروايتان “رحلة سوسو” و”الخالق”. ومن أعماله المترجمة “العالم لا ينتهي- تشارلز سيميك” و”قصص- أليس مونرو” و”كلنا نولد مصابين بالغثيان-راسل إدسن”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى