صفحات مميزة

رسائل من سوريا


جمانة معروف

الرسالة 1

مسا الخير يا عزيزتي

هذا هو الشتاء يمضي. كم كان شتاءا طويلا وقاسيا! ربما يكون اقسى الشتاءات التي مرت على سوريا.

هل أخبرتك ان عملي انتقل من الضاحية الى قلب دمشق. أمر من ساحة السبع بحرات مرتين  في طريقي من وإلى عملي.

ففي هذه الساحة وعلى واجهة البنك المركزي كان هناك صورة كبيرة للرئيس تغطي تقريبا ثلث المبنى الكبير. منذ اسبوعين  شقتها الريح فجأة من المنتصف. روت لي صديقه كانت تمر من هناك في تلك اللحظة أن الجميع انتبه لان الصوت كان قويا لحظة تمزقها نصفين من المنتصف تماما ..وصفت لي وجوه الحاضرين تنوعت من وجوه شامتة الى خائفة ..الخوف هو السلعة الاكثر وفرة في سوريا منذ عقود. ..بعد يومين رأيت صورة جديدة نسخة عن القديمة لكن ربما تكون من نسيج قوي هذه المرة. كان هناك بضع عشرات من الشبان يرقصون على وقع موسيقى اغنية تتغنى بالرئيس وتحت الصورة  لافتة كبيرة كتب عليها:

” بشار بخير

الدنيا بخير

باختصار”

سأكتب لك غدا في حال توفر الكهرباء والإنترنيت طبعاً.

سلامات

10/آذار 2012

الرسالة 2

مرحبا…

غدا عيد المعلم العربي وأنت تعرفين أنني اعمل معلمة في إحدى المدارس في قلب دمشق. فوجئنا نحن المعلمين والمعلمات هذا الصباح بإلغاء العطلة في هذا العيد. كنا قد خططنا للخروج والاحتفال في أحد مطاعم باب توما. لكن المدير دخل إلى غرفة المعلمين وبدأ خطابا صباحيا استهله بكيل المديح لوزير التربية ولذكائه الباهر… قال: ” غدا 15 آذار وهو يوم (ثورة) لهؤلاء الحمير كما يسمونها، وهؤلاء الحيوانات دعوا للإضراب غدا. وأنتم تعلمون ان المدارس والجامعات تشكل 60% من الموظفين. وهم ان اضربوا سوف يكتب هؤلاء السفلة على الفيسبوك بأن الإضراب قد نجح. لذلك قرر الوزير (الذكي) أن يوم غد سيكون يوم دوام رسمي وعلى كل من يتغيب ان يقدم تبريرا لغيابه تحت طائلة العقوبة. سوف  نخرج  جميعا غدا بمسيرة تأييد عالمية في ساحة الأمويين. طبعا لا احد يرغمكم على الذهاب أبداً . ثم انهى خطابه:” نحن نعرف أنكم جميعا وطنيين وسوف تقومون بدوركم كمعلمين ومربي اجيال غدا في الساحة”.. وأضاف مازجاً “حضروا حالكن للدبكة “..ثم مضى بدون أن ينظر في وجوه المعلمين والمعلمات ورؤوسهم التي غرقت بين أكتافهم الذليلة. إحدى المعلمات الكبيرات بالسن رفعت صوتها:” يعني فيه مؤامرة والعصابات المسلحة تقتل الناس وترتكب المجازر وتخطف الأطفال وتغتصب النساء… طيب ليش الرقص والدبكة بالساحات؟؟” روحوا بس ما ترقصوا ..يا أخي حزنوا شوية على الأرواح البريئة..وقفوا دقيقة صمت..دقيقة صمت بس …”

تلعثمت المعلمة الفاضلة ونظرت حولها وتنفست الصعداء عندما رأتنا حولها ..نحن ..نحن فقط.

14 آذار 2012

الرسالة 3

احتجت الكثير من الوقت هذا الصباح حتى اتخذت قراري بالذهاب للعمل. كما

تعرفين لدي طفلتاي أنا بحاجة لراتبي.

محظوظ من لم ينجب أطفالا يذله خوفه عليهم. وما جعلني احسم امري هو أني

جعلت من نفسي شاهدا أمينا على ما يحدث هنا.  كان الوصول إلى دمشق سهلا

لكن العودة إلى البيت كانت صعبة جدا كما تعرفين بسبب الدعوة للمسيرة

العالمية كما اسموها.    السائق الذي طلب منا ثلاثة أضعاف الأجرة كان

يغير طريقه كلما واجهه حاجز امني مفاجأ طلب منه الرجوع. انقضى أكثر من

ساعة ونصف ونحن نحاول الخروج من دمشق  والطريق الوحيدة الممكنة إلى قدسيا

كان طريق (القصر) كما نسميه. رجل مسن  يجلس قبالتي  صاح بالسائق:”..قف

..قف أرجوك..أريد أن اقضي حاجتي”  (يعني أريد أن أبول)،  لكن سائق

السرفيس، الذي يعرف عقوبة الوقوف في هذا الطريق، رفض أن يتوقف وظل الرجل

العجوز يرجوه .سكت جميع الركاب وبدا الخوف على وجوههم وكأنهم كلهم يريدون

التبول بشدة. بدأ البعض يلح على السائق كي يقف.. لكن رد السائق كان

جادا:” عمي.. عملها هون بالسرفيس وما تخليني وقف ..الله وكيلك بيخربو

بيتي”…..  كاد الرجل ينفجر عندما وصلنا إلى أراضي مشروع دمر فنزل

العجوز ولم يصعد السرفيس بعدها..

على فكرة ما يقال أن مسيرات التأييد ليست عفوية هو امر صحيح لكن الكلام

حول سوق الموظفين قسرا هو كلام غير دقيق..هناك من يُجبر على ذلك لكنه

سرعان ما يهرب من المسيرة عندما يقترب من الساحة.  لكن بالمقابل هناك

آلالاف المؤيدين الذين رأيتهم يمضون سيرا على الأقدام من كافة الاتجاهات

وهم لا يبدون مجبرين..رأيتهم يحملون الأعلام التي عليها صور الرئيس

وسمعتهم يهتفون “شبيحة للأبد لأجل عيونك ياأسد”….

 أينما نظرت اليوم في شوارع دمشق ترين الحواجز الأمنية والرجال المسلحين

بلباس مدني وبلباس عسكري يقفون جنبا إلى جنب مع رجال الشرطة .يحملون

بنادق مرعبة ويضعون حول خصورهم جعبات فيها الكثير من الرصاص ويتعاملون مع

الناس بفظاظة. كنت طوال الطريق أقول لنفسي ما بدا واضحا لي أكثر من أي

يوم مضى:” إنها الحرب حضري نفسك للاسوء”.. إنها الحرب ولا ينقذني منها

الآن إلا الكتابة لك

جمانة

15/3/201

الرسالة 4

مسا الخير

“عندما تخرج من بيتك تذكر أن تودع أسرتك فقد تموت بانفجار سيارة مفخخة أو برصاص قناص من على أحد المباني، أو برصاص عشوائي من جنود ما عادوا يعرفون العدو من الصديق”.

 هذا ما سيوصي به سكان دمشق بعضهم البعض بعد اليوم .

دمشق التي ظلت طويلا صامتة ولم تغير من عاداتها اليومية برغم موت الآلاف. برغم آهات المعذبين في أقبية السجون تحت مبانيها الفخمة وبالرغم من الدمار الذي حاق بشقيقاتها من المدن الأخرى. برغم كل شيء ظل سكان دمشق وحتى وقت قريب يمضون في سيرانهم*  أينما طاب لهم الهواء والشمس، حتى لو كان ذلك بالقرب من الحواجز الأمنية. يسقون الجنود الشاي ويضيفونهم الطعام والسجائر.

لا ادري لماذا بدأت اكتب بشكل مثير للشفقة. أردت في رسائلي أن أحافظ على كم لائق من الكرامة وان انقل لك الصور بموضوعية شديدة  ..لكن كيف ؟؟

آه لو رأيت الحفرة التي أحدثها انفجار يوم السبت بالقرب من ساحة التحرير وكيف أصبحت واجهات المباني المجاورة. لو رأيتهم  لعرفت كم باتت ارواحنا رخيصة. اليوم رأيت الخوف في عيون زملائنا المسيحيين. كانوا حزانى وخائفين ..هل أخبرتك أن مدرستنا هي صورة مصغرة عن سوريا الملونة..

الجميع يشتم ويلعن من قام بتدبير التفجير والكل يعني من يعنيه ودائما الفاعل مجهول لا ملامح له ولا اسم ..لكن ما استفز مشاعر الناس وهم يشاهدون آثار التفجير على القناة السورية الرسمية أن المذيع كان في غاية القسوة وهو يعرض أشلاء الضحايا الذين يبدو أنهم سيزدادون في المستقبل.. قلت لك أننا نعيش حربا سيكون فيها الموت هو المنتصر الوحيد.

بمناسبة التفجير أريد أن اروي لك حادثة جرت يوم السبت صباحا مع فتاة اعرفها ربما تفيدك في تفسير التفجيرات أو قد تعطيك بعض المؤشرات لأني لا أريد أن افرض عليك استنتاجا حتى وان رغبت بذلك..

تعمل هذه الفتاة في مكتب لسيرياتل وهي كما تعرفين شركة اتصالات يملكها رامي مخلوف. وتسكن في زملكا حيث الاتصالات مقطوعة تماما، لذلك لم يصلها خبر زملائها بإعطاء الموظفين إجازة في ذلك اليوم.  ما أن دخلت الفتاة المكتب حتى اقتحم رجال الأمن المحل ودخلوا مباشرة إلى غرفة تبديل الملابس وخرجوا حاملين عبوة ناسفة قالوا لها أنها كانت ستنفجر بعد بضع دقائق. ؟؟؟؟

سلامات

18/3/2012

الرسالة 5

مرحبا سأنقل لك هنا أحد الحوارات التي تجري في المدرسة

الشخصيات:

كاترين: مدرسة لغة اجنبية في الخمسينات من عمرها من باب توما

خضر: موجه انضباط في المدرسة. مدرب فتوة سابق وقادم من احدى ضيع طرطوس.

زينات: مدرسة تاريخ من دير الزور

الحوار

كاترين: مبارح في طالبة سألتني : انسة هلق الرئيس لو مو داعمته امريكا كان ضل؟؟.. يعني شوفي حسني مبارك لما تخلت عنه امريكا تنحى! طلعت فيها وقلتلها:” وليه انت جدبة* ؟؟؟ ليش امريكا بتقدر للرئيس ..ليش امريكا وكل مؤامرتها فيها لسوريا؟؟ تضيف بانفعال  “لك شو هالجيل التلفان ..اغبياء وتافهين! عن جد شعبنا متخلف!

الموجه خضر: لك الجيل تافه وغبي لأننا شلنا البوط العسكري عن روسهن.. لك الشعب السوري كله شعب تافه. بكل شعوب الدنيا مافي اتفه من شعبنا.

الانسة زينات: الشعب السوري تافه؟؟؟  ..لك ما في احلى من شعبنا ..وما في شعب بطل بالعالم مثل شعبنا ..لك انا هلق صرت افتخر اني سورية..

حوارات تتكرر في كل مكان من دمشق.

جدبة : غبية

 جمانة

١٩/٣/2012

الرسالة 6

                                                                                       كيفك

يقول الحماصنة مازحين: ” الموت والرصاص يعرفون رائحة الحمصي ويتبعونه أينما نزح، وهانحن نحمل الموت معنا إلى دمشق”.!

نعم دمشق إزدحمت بالنازحين من المحافظات المنكوبة وها هي الان تزدحم بالموت.

بمناسبة الحديث عن النازحين، دعيني أحدثك عن زينب. الوجه الذي التصق بذاكرتي وكأنه يحثني لأكتب عنه. امرأة في العشرينات. من الخالدية في حمص . سألتها : بماذا أساعدك ؟؟ أجابت : “أريد عملا”، ثم خفضت عينيها وأشارت إلى طفلة صغيرة التصقت بثوبها: ” وحليبا لابنتي ” ..

وأنا انظر إلى زينب تذكرت أستاذ اللغة العربية في المدرسة. كان المدرسون يتحدثون عن التفجيرات الإرهابية . ثم بدؤوا بالحديث عن (المزة) والحرب التي دارت صباحا فيها: قال: “عليهم ضرب البيئة التي تحتوي هؤلاء(الإرهابيين) بدون رحمة.. البيئة التي تحميهم يجب ضربها بيد من حديد”. ثم وقف وعلا صوته:” خلص الوضع صار بدو حسم ..خلص”!!

 كنا ننظر إليه صامتين نبتلع ردودا سنؤجلها طويلا على ما يبدو، لكني الآن أتساءل: أتراه يتحدث عن زينب وطفلتها مثلا؟؟

20/3/2012

الرسالة 7

البارحة كنت وإحدى صديقاتي في إحدى بلدات ريف دمشق في زيارة لإحدى صديقاتنا.

اقترحت هذه الصديقة علينا ان نذهب معها لمواساة ام شاب قتل منذ اسبوع.

لم يكن سهلا ان نقول لا.

اخذنا معنا بعض الورود لها في عيد الام . جلست الام قبالتنا وبادرنا بالسؤال حول الحادثة.  قالت لنا انهم لم يعطوها جثة ابنها بعد. ذهب أعيان البلدة الى فرع الامن  وإلى المشفى االعسكري الذي قد يكون توفي الشاب الجريح فيه لكنهم قالوا لهم انه ليس لديهم. سألوا كل فروع الامن وكل المشافي والجميع انكر وجود الشاب أو جثته.. روت لنا الحكاية بأنه كان قد اعتقل مرتين وأن آثار التعذيب لم تزل على جسده. قال لها مرة ان الموت اهون الف مرة من الاعتقال… و اكملت: “فعلا في المرة الثانية التي جاؤوا لاعتقاله هرب من المنزل. إختبئ مع بعض رفاقه في مزرعة.  وعندما حوصرت من قبل رجال الامن، حاولوا الهرب بالسيارة فقاموا بقصف السيارة  فقتل اربعة منهم كانوا يجلسون في مؤخرة السيارة وبقي ثلاثة. كان هو أحد الناجين لكنه كان مصابا بعدة طلقات، فقال لرفيقيه بعد ان حملاه مسافة : “إتركوني واهربوا ان يعيش اثنان خير من ان يموت ثلاثة” ..فتركوه يتشاهد* وهربوا”  .منهم عرفت الحكاية. قالوا لها انهم رأووا في طريقهم ناطور يعمل في المزرعة القربية اوصوه بالشاب الجريح .. ذهبت الام لسؤال الناطور فال لها ان الدبابة حملته معها. الام التي هم ترى جثة ابنها ولا تعرف اين هو انهت قصتها بتنهيدة . ثم نظرت الينا وقالت : “قد يكون حياً ..قد يكون استطاع الهرب بمفرده ..قد يكون الناطور اخذه وعالجه و لم يقل لي  … او قد يكون في الدبابة  جنديا طيبا اشفق عليه واخذه الى مكان ما وعالجه ” ثم تخفض رأسها و تدمع عيناه وتكمل : “وقد يكون مات ووضعوا جثته في تفجيرات ساحة التحرير ..و..و احيانا يهيء لي انهم قد يكونوا اخذوا اعضاءه كونه لم يكون ميتا … قد يكون ..قد يكون ..” تختنق الام بالبكاء ونبكي جميعا معها..نعم .. كل تلك

!الاحتمالات ربما لا تحدث الا في سوريا

22/3/2012

•                يتشاهد: يعني ينطق بالشهادتين قبل الموت

الرسالة 8

مساء الخير

تقول حكاية ابنتي الصغيرة اليوم، انه في درس اللغة العربية، سألت المعلمة الأولاد:” إلى ماذا ترمز الحمامة ؟” فأجابها ولد:” ..إنها ترمز للسلام” ..قالت :”جيد ….والى ماذا أيضا؟؟ أجابت ابنتي : “إنها ترمز للحرية “..وقف ولد في آخر الصف وقال لابنتي عابساً :..”بدك حرية ؟؟”  قالت المعلمة : “كلنا بدنا حرية وين الغلط ؟؟” قالت فتاة مستهجنة:”  آنسة.. كيف هيك ..؟؟.” ثم أنهت ابنتي حكايتها بسؤال: “ماما معلمتنا أكيد معارضة.! “

لكي تعرفي أي مآزق لغوي وأخلاقي واجتماعي وضعونا سأحكي لك عن الجدران ..فلكي تعرفي حقا ما يجري في سوريا عليك أن ترصدي التغيرات على الجدران.. و هذا موضوع طويل سأخصص له رسالة كاملة فيما بعد..

يكتب الشباب الثائرون على الجدران كلمة” حرية” ..فيقوم رجال النظام بوضع نقطة على حرف الحاء لتصبح الكلمة ” خراء”.

أتخيل أحياناً انه إذا لم يتغير هذا النظام فعلينا أن نعمل على تغير اللغة لكي نخرج من المأزق الذي وضعونا فيه أمام أولادنا.

سلامات

 26/3/2012

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى