رسالة إلى خليفة المؤمنين: ارمِ سلاحكَ على الأرض الآن علامَ التغطرس وأنتَ ضعيفٌ وجاهلٌ يا أبا بكر البغدادي!/ رؤوف قبيسي
السلام عليكَ يا خليفة المؤمنين، يا حارس الدار، وحامي شرف المسلمين. يا بطل الأمة، وقائد ثورتها الجديدة، ورمز كفاحها العظيم.أنتَ ملهمنا، بؤبؤ العين أنتَ، وملء عين النشء أنت. أليس هذا ما يقال في العربية الفصيحة؟ في هذه العربية الفصيحة أريد أن أخاطبكَ يا قائدنا وخليفتنا المبجل. أما اللغة الساقطة المتاع، اللغة الهجين، فأتركها لغيركَ، للجالسين منا على كراسي الحكم، الرابضين على صدورنا إلى أجل لم يعد مسمّى! هؤلاء صنائع الاستعمار، ولم يأتوا بانتخابات حرة. أما أنتَ، فمن معجن هذه الأمة أتيتَ، من لحمها ودمها تكوّنتَ. يكفيكَ مَن بايعكَ منها، لتكون خير خليفة لخير أمة أُخرجت للناس.
لله درّكَ. منذ سقيفة بني ساعدة ونحن في انتظارك. ساعة مات “النبي”، اجتمع المسلمون في السقيفة وانتخبوا سميّكَ الصدّيق، ثم اختلفوا من بعده، ولا يزالون مختلفين. بعضهم قال إن علياً أولى بالخلافة من بعد الرسول، لأنه ابن عمه، وزوج ابنته، وأبو سبطيه. هؤلاء هم الشيعة، أتباع الإمام وأتباع أولاده من بعده. لكن ما كُتب قد كتب، وهيهات هيهات أن نغيّر في السيرة حرفاً واحداً!
في ذلك الاجتماع، كاد المسلمون أن ينقسموا على أنفسهم، حتى قال عمر بن الخطاب إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها. وها أنتَ اليوم، يا أبا بكرنا الجديد، تعلن نفسك خليفةً، ويبايعكَ مَن هم حولك، من دون أن يكون لكَ منافس. تكفيكَ أصوات المجاهدين معكَ، الذين على سواعدهم، ترتفع أعمدة إسلام جديد غير معهود!
أنتَ قائدنا الطاهر الظافر القاهر يا أبا بكر. أرسلتكَ السماء لتعيد إلى الأمة مجدها، وتطهّر الأرض ممّن دنّسوا دينها، وعابوا حرمتها، وسفّهوا أحلامها. اقتل السنّة الذين لا يرون رأيكَ، يا خليفة المؤمنين. اقتل الشيعة الكفرة. أضرم النار في مساجدهم ومراقد أئمتهم، ولا تنس وأنتَ على دروب الجهاد، أن تفعل بالنصارى ما تفعله بالروافض. حطِّمْ كنائسهم، وأديرتهم، وصلبانهم، وأيقوناتهم. أحرقْ أناجيلهم وأعمال رسلهم، وبعثِرْها في العراء، فهم حرفوا الكلم عن موضعه، وجعلوا لله أنداداً.
أما اليهود، أبناء عمّنا إسحق، من جدّنا إبرهيم وزوجته ساراي، فدعهم وشأنهم، لأن لا حيلة لكَ ولنا عليهم! اصفحْ لهم عدوانهم، واغفرْ لهم خطاياهم في غزة وغير غزة، فهم أخوةٌ لنا في الدين، موحّدون مثلنا، لا يعتقدون بالتثليث، ولا يؤمنون بمسيح مصلوب، ويختنون أبناءهم كما نختن نحن أبناءنا، وهم مثلنا لا يأكلون لحم الخنزير، ويدعون إلى دولة يهودية، كما ندعو نحن إلى دولة إسلامية!
لا تكن رفيقاً بالناس كما كان “رسول الله”. السيرة تخبرنا أن نبي الإسلام عندما عاد إلى مكة فاتحاً، خاطب الناس قائلاً: “يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم يا محمد، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
أخالكَ تقول إن الرسول أخطأ، وكان أولى به أن يبيد الكفرة عن بكرة أبيهم. ما همّ، السيف أصدق إنباءً من الكتب، وسيفك لم يسبق العذل بعد، وفي إمكانك، وأنتَ اليوم خليفتنا الجديد، أن تسير بالرعية، سياسة تخالف سياسة الرسول، وتصحح ما اكتنف تاريخنا من أخطاء.
بدِّد شمل الكفرة أيها العظيم بين الأمم. اقطعْ رؤوسهم كما يقطع الجزّارون رؤوس الغنم. ابترْ أجسادهم إرباً إرباً وارمِ أطفالهم في النار، وحين يدرككَ الفتور من ثغب الدماء، خذْ نساءهم لراحتك وراحة جنودك، فما أراكَ بعد ذلك والله قاتلاً، بل مسبّحاً بالقول: “سبحان الذي خلق الناس في أحسن تقويم”!
* * *
تعبتُ أنا الآن يا أبا بكر، وأرى الناس قد عافت فصاحتي، لذا أريد أن أخاطبكَ بلغة أقل فصاحة، لا عوج فيها ولا تكلّف ولا التواء، وأقول: أنتَ أكبر كافر في هذا العالم يا بغدادي. قد لا تكون أكبر قاتل، فغيركَ قتل أكثر مما قتلتَ، لكنكَ، بأحكام الكتاب الذي تدّعي أنك به تدين، أكبر كافر في هذا العالم، بل أكبر كافر في الكون، إذا كان في هذا الكون من عالم آخر.
كان أهل اليونان في الزمن القديم، يرمزون إلى الرجل الحكيم بفيل له عيون أربع؛ حكيم يرى كل الجهات، راشد لا عصبة على عينيه، ولا يعرف العصبية، ويقبل وجهات النظر كلها. هذا هو الفارق بيني وبينكَ. أنتَ متديّن ومدمن أدياناً، لا تعرف كيف تتدبر القرآن، وليس في قلبكَ شفقة ولا رحمة. تقرأ الكتاب بعين واحدة، أما أنا فمؤمن، أقرأه بعيون أربع، وأستمد منه ما يصلح شأن دنياي، وأتصالح به مع نفسي ومع الناس، وأقبل كل شرائح الملل والنحل في هذا العالم.
سأرشدكَ إلى ما في القرآن حتى تتدبّر القرآن، فلا تقرأه بعين واحدة بعد الآن، بل بعيون أربع، ونية سليمة وقلب منفتح، لأن هذا هو المعنى الأصيل لفعل “التدبر”. إذا أردتَ أن تفعل ذلك، وتنشر الإسلام حقاً كما تقول، فأول شيء عليكَ أن تفعله أن تردّ سيفك إلى غمده يا ابن بغداد “لأن من يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ”. احتكمْ إلى القرآن، وقل “ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب”.
خذ من السيرة ما يطهّر القلوب، وما يشفع لكَ وللناس، ولا تأخذ ما يثير الضغائن والأحقاد. خذ قول عمر بن الخطاب: “كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”. خذ قوله للرجل الذي أراد أن يحمل عنه عدل الدقيق للعائلة الجائعة، فقال له عمر زاجراً: “أأنت تحمل الوزر عني يوم القيامة؟”. إمتثلْ بقول علي يخاطب الدنيا وما فيها من ذهب وفضة: “يا دنيا غرّي غيري، يا صفراء غرّي غيري، يا بيضاء غرّي غيري”. دع الخلق للخالق يا أبا بكر، واعملْ بآية تصلح لأن تكون أعظم مثال لحرية العقل في العالم، الآية التي تقول “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
لا وكلاء في الإسلام يا بغدادي، فلا تجعلْ نفسكَ وكيلاً على الناس، وعلى “الله” وحده “فليتوكل المؤمنون”. إدع إلى “ربّكَ” بالحسنى، ولا تأكل أموال الناس وتأخذ أرضهم غصباً “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”. لا تخلقْ عداوة بينك وبين البشر، “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”.
لا تحكم على الناس ولا تحاسبهم “ولو شاء الله ما أشركوا ما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”. إذا كان “الله” يقول للرسول بلِّغ ولا تحاسب، فمن أنتَ يا بغدادي لتحكم على الناس وتقول: “قد قيل لكم كذا وكذا أما أنا فأقول لكم”؟
ارحم الناس وارحمْ والديكَ يا ابن بغداد “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربّياني صغيراً”. كن ساعياً للخير واشكر “الله” على ما أسبغ عليكَ من نعم، “فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربّكَ فحدث”.
لا أشك في أنكَ قرأتَ القرآن، وقد تكون حفظتَه عن ظهر قلب، ولا أشكّ في أنكَ قرأتَ كتباً من السيرة، وحفظتَ الكثير من الحديث، واجتزتَ كل امتحان أعدّته لكَ “جامعة الدين”، لكن هذا كله، ليس كافياً لتصل إلى الرفيق الأعلى الذي هو “الله” في عرف المؤمنين. لا يكفي يا بغدادي، أن تدخل “الجامعة الدينية”، وتجتاز امتحاناتها، وتنال شهاداتها العليا، إذا لم تتدرج في “حضانة الإيمان”، وهذه أبوابها مفتوحة أمام كل الطلبة، من كل جنس ولون، حتى أمام البسطاء. أما الدروس فيها فمن أسهل الدروس، وامتحاناتها من أسهل الامتحانات، لكن الفوز فيها صعبٌ على بعض الناس، سهلٌ على بعضهم الآخر، سهلٌ حتى على الأميين منهم. هي امتحانات لا يجتازها إلا المؤمنون الذين صفت نفوسهم من أدران الأرض وتشبعت بأنوار السماء، وأنتَ أبعد ما تكون عن كل هذا يا بغدادي!
أتريد مزيداً من الضوء في ديجوركَ يا أبا بكر؟
أعرف أنكَ صعب، ومن الصعب إرضاؤكَ، لكني سأسير معكَ كما سار الخضر مع موسى، وأجهد ما وسعني الجهد، لآخذ بيدكَ، فتربح معركة العقول والقلوب، وتكون راعياً صالحاً، لا راعياً أعور بين أشواك. لا أخفيكَ، أني أخشى إن جعلتكَ تسير معي الدرب الطويلة، أن تفقد صبركَ، كما فقد موسى صبره في تلك القصة المثيرة من “سورة الكهف”، وأن يحدث فراقٌ بيني وبينك، فراق ليس بعده لقاء!
في القرآن آية لا أظنّ كُتُبَ الدهور جاءت بأجمل منها. يكفي أن يقرأها المؤمن العاقل ليعدّها ميثاقاً للشعوب ودستوراً للامم، عنيتُ بها الآية العظيمة من سورة المائدة التي تقول “إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”.
لو عمل “المسلمون” بهذه الآية لاستتبّ السلم في ديارهم، ولو فهمتَها أنتَ حقّ الفهم يا أبا بكر، وعملتَ بها لما غررتَ بالناس، ولوّثتَ يديكَ بدم الأبرياء، وجلبتَ على أمّتكَ، هذا الكمّ الهائل من الويل والثبور وعظائم الأمور.
أقطع بأنكَ قرأتَ هذه الآية غير مرة يا بغدادي، لكن هل فكرتَ فيها جيداً؟ هل تدبّرتها بصفاء المؤمن حقاً؟ لا أظنّكَ فعلتَ، وإلا لما أعلنتَ نفسكَ خليفةً، وتمنطقتَ بالرصاص، وأطلقتَه يميناً وشمالاً، لتودي به مَن يعتقد بغير ما تعتقد، ويرى غير ما ترى.
إذا أردتَ العمل بهذه الآية، فارمِ سلاحك على الأرض من الآن. استغفر “ربّك”، ودع الخلاف بينكَ وبين الناس جانباً. اتركه في يد “الخالق”، وحده ينبئكَ بما فيه، فهو “القادر على كل شيء، وهو التوّاب وهو الغفور الرحيم”.
إذا فعلتَ ذلك فقد يغفر “الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر”، وعندها لا تصبح خليفةً على الناس فحسب، بل تغدو رسولاً. ألم يقل ابن الفارض: “كل من دعا منا إلى الحق قام بالرسلية”؟ أظنّكَ لا تعبأ بابن الفارض هذا، ولا تعتدّ بما نُسِب إليه، لأن ابن الفارض كان متصوفاً وأنتَ تكره المتصوفين، ولأن ابن الفارض كان بصيراً وأنتَ تكره المبصرين. لكن من حسن طالع هذا الحكيم أنه عاش في زمن غير زمانكَ، ولو كان بين ظهرانيك، لفقأتَ عينه، لأنكَ لا تريد للرعية أن يكونوا مبصرين، كما كان ابن الفارض، بل “صمّ بكمٌ عمي فهم لا يعقلون”.
أراكَ تبجّل السيرة وتجعل ما فيها من سنّة “الله” ورسوله. أما أنا فلا أعتدّ بكل ما جاء في السيرة، وآخذ منها ما يتلاءم مع نصّ القرآن وروحه، ولا شيء آخر غير نصّ القرآن وروحه. الناس كلهم “أبناء الله يدعون”، سنّةً وشيعة ودروزاً ونصارى، يهوداً وصابئة، بوذيين ولاأدريين وملحدين. أعتبرهم أبناء الإنسانية، واعتبر القاطنين في بلاد العراق والشام بشراً، متساوين معي في الحقوق والواجبات. قد اختلف معهم في الرأي، وهذا من سنن الطبيعة، لكننا لا نحترب ونتقاتل، بل نترك أمرنا إلى “الله” الذي يقول لنا القرآن إنه المرجع، الذي سوف ينبئنا بما كنا فيه نختلف. هذا القرآن، وليس أنتَ يا بغدادي، الذي يقول لنا أيضاً إن “الله” لو أراد “لجعل الناس كلهم أمة واحدة”.
أتريد أيها الخليفة الجديد أن تحكم بما ليس في القرآن؟ أتريد أن تقنعنا بأنكَ تأتمر بأمر السماء، وبأن سيفكَ أفضل من سيف خالد بن الوليد؟ ها هي كتب السيرة تقول إن عمر بن الخطاب طلب إلى الخليفة أبي بكر أن يعزل خالد بن الوليد، لأنه وجد في سيفه رهقاً، فأجابه أبو بكر: “قد سمعت رسول الله يقول لن أعزل سيفاً سلّه الله لخدمة الإسلام والمسلمين”، فلما تولى عمر الخلافة من بعد أبي بكر، كان أول قرار اتخذه، عزل خالد بن الوليد.
لا أحسبكَ إلا مصدّقاً هذه القصة التي جاءت في السيرة، وذكرها ابن هشام ودوّنها الطبري من بعده. وبعد، أتريد أن تقول لنا يا أبا بكر البغدادي إن سيفكَ نظيف لا رهق فيه، وإنكَ لن تتخلى عن القتل به، وتعتبره أفضل من سيف خالد بن الوليد؟
لا يا بغدادي. على رسلك، كما تقول العرب، سيفك ليس أفضل من سيف خالد بن الوليد. لا وألف لا يا بغدادي. لا “وربّ الكعبة”!
* * *
كانت لي في بيتنا القديم بندقية من خشب طلّقتُها وأنا طفل صغير. لم أغتصب فتاة ولم أقتل احداً، لم أقطع شجرة ولم أذبح شاة ولا بعيراً، ولم أعتد على إنسان قريب أو بعيد في هذا العالم. لستُ متديناً، ولا أدخل المعابد، لكن في قلبي صلاة أبدية سرمدية عمرها من عمر هذه الأرض، تجعلني أخاف “الله” الذي لا أعرفه، وما زلت أبحث عنه، في حين أنكّ لا تخاف “ربّك” الذي تعرفه، أو “الله” الذي تدّعي أنك تعرفه، وتأتمر بأوامره!
هنا يبدو الفارق بيني وبينكَ يا بغدادي. أنتَ تقول إنكَ عرفت “الله” ثم أراكَ تقتل باسمه، في حين أنا أعترف بأنني لا أزال أبحث عن “الله” ولا أقتل. فمن هو الكافر الجاحد بيننا إذاً؟!
لم أعد أذكر اسم الحكيم الذي سئل مرةً عما إذا كان يؤمن بالله، فقال: “أؤمن بالله الذي خلقني، ولا أؤمن بالله الذي خلقه البشر”. نعم أيها الخليفة الذي سمّيتَ نفسكَ بغدادياً وبغداد منك براء. أنتَ لا تؤمن بـ”الله” الذي “خلق” الناس، بل تؤمن بإله خلقتَه أنتَ؛ إله من صنعكَ، يجعلكَ تقتل الناس، وتدمّر بيوتهم وتدوس حرماتهم. أما الإله الآخر، الواحد الصمد، إله المؤمنين الأخيار، فهيهات، ثم هيهات لكَ أن تعرفه، أو تحسّه في قلبكَ وعقلكَ، لأنه إله خير يمحو ما اقترفته يداكَ من آثام، وينتصر عليك وعلى مَن حولك، ويلفظكم جميعاً، كما تلفظ أنتَ نواة زيتونة تأكلها.
علامَ التغطرس يا بغدادي، وأنت ضعيف، لا تستقوي إلا على الآمنين من بشر عزّل؟ تغزو باسم الدين، مدنهم وقراهم ودساكرهم، تسرق أموالهم وحليهم وأحلامهم وذاكرتهم، وتطردهم من بيوتهم، لترفع عليها رايات أمجادكَ. أهذا هو الإسلام الذي تريد أن تذيعه في الناس؟! أيّ إسلام هذا، الذي به تقتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال والعجزة؟
أنتَ ضعيفٌ وجاهل با بغدادي، والناس الذين غررتَ بهم سيكتشفون عاجلاً أم آجلاً أغراضكَ المشبوهة. أنتَ جاهلٌ للقرآن، وتقرأ الحديث بعين واحدة، وأتحدّاك أن تستخرج من “الكتاب” آية واحدة، آية واحدة با بغدادي، تبرّر لكَ الجرائم التي اقترفتْها يداكَ في العراق والشام. إذا قلت لي إنكَ تجد تبريراً لما تفعل في الحديث ومن السيرة، فسأقول لك إني لا أعتدّ بالسيرة التي كتبت بأخرة، ولا آخذ منها إلا ما يتوافق مع القرآن.
إذا قلتَ لي إنكَ لستَ راضياً عن الأنظمة العربية لأنها فاسدة، فكل عربي حرّ يقف إلى جانبكَ ويؤيد كلامكَ، لكن ما تفعله يا بغدادي يصبّ في خدمة هذه الأنظمة التي “تدّعي” أنكَ تعمل للقضاء عليها، بل تجعل الناس يترحمون عليها متى سقطت، لأن ما تقدمه صورة للدين لا شيء فيها من الإيمان، صورة لا يرتضيها المؤمن والمسلم العاقل، وينفر منها من ليس مسلماً.
أتريد أن تقول لنا إن النظام العربي الذي تدّعي محاربته ليس مرتاحاً لوجودك؟! صدِّقني إنكَ “على قلبه مثل العسل”، وكل قطرة دم تقطر من حرابكَ تصبّ في خدمته، وكل غزوة تقوم بها لمصلحته، والكثيرون بدأوا يشكّون في نيّاتكَ، ويقولون إنك صنيعة هذه الأنظمة، مثلما يقال عن هذه الأنظمة إنها من صنع الاستعمار!
ومن ثَمّ فأنتَ ضعيف يفتك بضعفاء، وبسلاح ليس من صنعكَ؛ سلاح صدّرته لكَ “دول قوية” لا يعجبكَ نظامها، لكنها تملك منه أضعاف ما تملك، وتملك ما هو أشدّ منه وأمضى، وفي مقدورها إن هي استخدمته، أن تقضي عليكَ وعلى من حولكَ في لحظات.
لو أن هذه الدول عادت إلى جاهليتها كما أنتَ تفعل، وتخلّت عن أنظمتها الديموقراطية، وظهر فيها مستبدّون مثلكَ، عقلهم مثل عقلكَ، وروحهم مثل روحكَ، ومزاجهم مثل مزاجكَ، وشياطينهم مثل شيطانكَ، ما تراها سوف تفعل بكَ، لو تعصبت هذه الدول دينياً عليكَ كما تتعصب أنتَ دينياً على الناس؟ أتشكّك في قدرتها على تدميركَ، وتدمير مَن معكَ في لحظات، وتجعلكم جميعاً كعصف مأكول؟!
إحمد “ربّك” أن روسيا لم تصبح “أرثوذكسية هدامة” والولايات المتحدة “بروتستانتية هدامة” وفرنسا “كاثوليكية هدامة”! هب هذه الدول صارت مثلكَ، “دينية هدامة” هل ستواجهها بهذا الرشاش الذي بين يديكَ، الذي هو أصلاً ليس من صنعكَ، أو بهذا الصاروخ الذي اختلستَه من المخازن، أو صُدِّر إليكَ لتنفذ مؤامرة مرسومة وضعها أشرار مثلكَ، لكنهم أدهى منكَ بما لا يقاس. إن بلادك كلها لم تستطع حتى الآن أن تنجو “من اليهودية الهدامة”، فكيف إذا أصبحت روسيا دينية هدامة، وأميركا دينية هدامة؟!
لكنْ، أطمئنكَ من الآن يا بغدادي، إلى أن هذه “الدول القوية الجبارة” لن تتعصب عليكَ كما تتعصب أنتَ على من لا يدينون بدينكَ، لأن ما تفعله يداكَ هو في مصلحة جيوبها، وهذا شيء لا أظنّكَ تعرفه، أو أنكَ تعرفه، لكنكَ لا تبوح به لمريديكَ حتى لا تفلت من يدك عصا الراعي. أنتَ ملحد من غير أن تدري، متعطش للدماء يا بغدادي، كافر تسعى “لتشتري بآيات الله ثمناً قليلاً”!
مهما يكن، سأفصح لك عن السبب الذي يجعلكَ بمأمن من تلك “الدول القوية الجبارة” على أمل أن ترتدع. إنه النظام في تلك الدول، النظام الديموقراطي الذي لا يعجبكَ، لكنه يحول دون ظهور قادة مجانين بيدهم مقاليد السلطة كلها، لذلك أنصح لك أن تسعى ما وسعكَ الجهد، لتحافظ عليه، وتسعى لنشر ثقافته في بلادكَ. سمِّه نظام الشورى إن أحببتَ. خذ أساسه من القرآن ومن الحديث إن أحببتَ، واطلقْ عليه الاسم الذي تريد.
المهم أن تفهم روحه، لأنه النظام الوحيد الذي يحميكَ من أظفار تلك الدول، ويحمي بلادكَ من ثقافة الفكر الواحد والزعيم الواحد، ومن قادة مستبدّين يأتون إلينا في غفلة من الزمن، فيحتكرون السلطة، ويجرّون بلادهم وشعوبهم إلى المجهول!
لا تقل “الله يحميني إذا حاربتني هذه الدول القوية وانقضّت عليَّ انقضاض الأسد على الفريسة”. أنتَ لست عبد المطلب (جد الرسول) حتى يرسل “الله” إليك طيراً أبابيل لتحميك، و”الله” لا يعمل عندكَ لتطلب منه ما تشاء (لا تجرّب الرب إلهك)، و”الله” لا يحمي المتديّن الأرعن، ولا “ضعيف الإيمان”، وأنتَ ضعيف الإيمان يا بغدادي، مسكون بشياطين الغرائز والنزوات، غرائز الحقد ونزوات الكراهية التي تعانيها بلادنا أشد المعاناة، وتجعلها ضعيفة أسيرة، ومحرومة من نور الحياة.
صدِّقني يا بغدادي إذا قلتُ لكَ إن الأنظمة التي في هذه “الدول القوية الجبارة” هي التي حمتكَ حتى الآن، ولا تزال تحميكَ من أظفارها الحادة. فلا تقم بعمل يُظهر أظفارها بحجة الدفاع عن الإسلام. القرآن يقول “لا تمش في الأرض مرحاً، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا”، أي ما معناه حاذر أن تكون مختالاً مزهواً، واعمل بقول الشاعر القائل “جانب السلطان واحذر بطشه/ لا تعاند من إذا قال فعل”.
إقرأ سيرة غاندي، وتعلّمْ كيف ينتصر اللاعنف على العنف. عدْ إلى “كليلة ودمنة” واقرأ فيه قول ابن المقفع “الريح العاتية تكسر القوي من الشجر، لكنها لا تقدر على صغار الحشيش”! كن كصغار الحشيش، حتى يرحمكَ “الله” الذي هو في القرآن “أرحم الراحمين”، ولا تكن “فظاً غليظ القلب”، وإلا انفضّ الناس من حولكَ.
لا تعاندْ وتذهب في غيّك كل مذهب. ولا تقلّد شيئاً لم يوجد، وتصطنع حدثاً لم يحدث، فالإسلام لم ينتشر ويسُد بحدّ السيف كما تقول الكتب، وكما دوّن بعض المؤرخين وتوهّم الكثيرون من الناس، وما كُتب عن الغزوات والفتوحات وُضع للتسلية، ومعظمه باطل. الإسلام “الحق” انتشر بالسعي والهجرة، وحرارة الإيمان والقلوب المفعمة خيراً. لا أقولها لأدفع عن الإسلام بطريقة الغلاة والمتنطعين والمتحزبين، ولا تأخذني في الأمر حميّة من أيّ نوع، بل أقولها لأنها حقيقة تاريخية أقرّها مصنفون. هذه المسألة موضوع لا مجال لبحثه الآن على كل حال، ولا أظنّ صدركَ يتسع لها. هي “قصة أخرى” كما يقول الغربيون في أحاديثهم.
* * *
قد هالني وأذهلني ما رأيتُ منكَ، حين شاهدتُكَ للمرة الأولى على الشاشة يا بغدادي. سمعتكَ تخطب وأنتَ على المنبر، ومَن حولكَ صامت ساكن مستكين. أجدتَ، وكان كلامكَ سليماً ولم تلحن. ظنّ الناس أنكَ ارتجلتَ خطابكَ، أما أنا فما أظنّكَ إلا تدرّبتَ عليه قبل أن تذيعه في الناس!
عرفتُ ذلك من طريقة إلقائك. كنتَ تدري من البداءة، أن الشاشة ستنقل كلامكَ إلى الشيوع، فرفعتَ المرفوع، ونصبتَ المنصوب، وكسرتَ ما يجب أن يُكسَر، وكنتَ في ذلك مجيداً حقاً. أما السكون، فلم يكن لها محلّ في كلامك، واكتفيتَ بسكون الناس من حولكَ!
أخالكَ تحبّ السكون هذه، أليس كذلك؟ السكون عندكَ ناس تسكت وتسمع وتستكين، أما معلّمنا الذي علّمنا العربية فكان ينهانا عنها، ويقول لنا إنها عكّاز العاجز، ويحضّنا على الضمّ والفتح والكسر، لتصبح لغتنا سليمة لا تشوبها شائبة.
الآن، وقد مر وقت طويل، صرت أفهم علاقة “الإعراب” بين هذه السكون، وسكون الرعية يا بغدادي. أما الحركات الأخرى، من الضمّ والفتح والكسر، فتريدها أسلحة خاصة، تضمّ بها وتفتح وتكسر، وفي ظنّكَ أن السماء هيّأتها لكَ لترفع بها راية الإسلام وتنصره على أعدائه، أو تنصر أعداءه عليه. “والله أعلم بالسرائر”!
كان معلّمنا مختلفاً عنك كلّ الاختلاف، خلوقاً مؤدباً، نحيلاً، فيه شبه من بدر شاكر السياب. كان يريدنا أحراراً، لا أتباعاً، وكان يعلّمنا الفتح والضمّ الكسر، لا لنضمّ ما ليس لنا، ونفتح أرضاً ليست أرضنا، ونكسر أبواب منازل ليست منازلنا، بل لنتأدب ونتهذب، ولنفهم الكتاب كما يجب أن يفهم، ونناجي “الله” بأرقّ الكلام وأعذبه.
علّمنا كيف نفتح النوافذ لنطل منها على العالم، ونحلّق مع النسور في الإعالي، لنكتب النثر النضر، والقصائد الحميمة البعيدة عن التكلف، وندوّن في قلوبنا، رسائل الحب والعشق والوجد والحنين.
بئس هذا الزمن الذي صرتَ فيه خليفة على مَن تدّعي أنهم مسلمون يا بغدادي، ورحمة من “الله” واسعة، على مَن كانوا معلّمينا، وعلى زمانهم ذاك، الأخضر والجميل.
النهار