رسالة الى صديقي الكولونيل/ د. علي محمد فخرو
أبدا هي القصَّة الأزلية، تعيد وتكرٍّر نفسها: أناس يؤمنون بقضية فيشقون ويضُّحون وقد يموتون، ثم يتبعهم أناس أخر من المتفرٍّجين يحصدون ويأكلون مازرعه أولئك المضحُّون.
تعود بي الذاكرة إليك يا كولونيل أورليانو بونديا، يا بطل رواية الكاتب الكولومبي غبرييل غارسيا ماركيز الشهيرة ‘مئة عام من العزلة’. أتخًّيلك وأنت مُطالبُّ، بعد عشرين سنة من عشرات المعارك التي خضتها أنت والفقراء والمثقفون من شعبك في سبيل شعارات الحرية والعدالة والكرامة، بعد أن مات الألوف وتركوا الأرامل واليتامى، بعد كل ذلك وجدت نفسك مطالباً بأن توقًّع على وثيقة التنازل عن كل الشعارات التي أعطيت أنت ورفاقك عشرين سنة من حياتكم لتحقيقها.
سألت يا صديقي الكولونيل وفد السياسيين الانتهازيين والمحامين المخادعين الذين جاءوا لأخذ توقيعك: لماذا هذا بعد كل تلك التضحيات؟ وجاءك الجواب كشراب الحنظل بأن حزب الأحرار الذي دعا للثورة قد اتفق مع حزب المحافظين الذي قاوم الثورة على تقاسم السلطة بشرط التنازل عن شعارات الثورة.
بعدها يا صديقي الكولونيل سألت سؤال البراءة والعفًّة والصٍّدق مع النفس: أمن أجل السلطة إذن كانت ثورتنا؟ ووقًّعت يا بطل الوطن والدموع تملأ خياشيمك وانسحبت إلى عزلتك الطويلة.
اليوم، وأنت في قبرك دعني أريح روحك التي ما زالت تتعذب بأحزان ذلك العبث، وأخبرك بأن ماجرى لك ولرفاقك يحدث أمام أعيننا ألف مرة في طول وعرض أرض ثورات وحراكات الربيع العربي.
فالنخُّاسون الذين باعوك وباعوا رفاقك وثورتكم ليتربعوا على كراسي الحكم، والليبراليون الذين ناصروا ثورتكم وشعاراتكم ثمُ مالبثوا أن شكَّكوا الناس في جدواها، والمحافظون من رجالات نظام الاستبداد والنَّهب والسرقات الذين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشَّباك ونجحوا في غرس الشكٍّ والبلبلة في عقول البسطاء من شعبكم باسم المحافظة على الأمن والسٍّلم الأهلي وعودة السياح، جميع هؤلاء يا صديقي الكولونيل لهم من يماثلهم، بل ويبزٌّهم في انتهازيته وكذبه، في أرض ثورات وحراكات ربيع العرب.
يومياً نراهم يتربًّعون على شاشات التلفزيون ويلقون المواعظ ويتكلمون عن واقعية الذل وعيش الجرذان، يومياً يطالبون بموت الأحلام والآمال ووئد شعارات البراءة والعفًّة وحقوق العباد، يومياً يساومون مع هذا المستبد أو تلك الجهة الأجنبية ليباركوا لهم اقتسام السلطة، يومياً يجري اقناعنا بأن الدماء قد روت تربة العرب والألوف قد دخلوا السجون وعذبوا والأمهات بكين على استباحة أولادهن وبناتهن فقط من أجل أن يقتسم البعض السلطة مع سراق السلطة. ولذلك يا صديقي الكولونيل فانك لو بعثت حيًّاً فانك لن تشاهد ولن تسمع في أرض مصر وسوريا وتونس والعراق واليمن وفي كثير من بقاع أرض العرب التي تموج بالأحداث وبالهيجان، لن تسمع إلاً الحديث عن السلطة، لكأن حناجر الملايين لم تصرخ منذ ثلاث سنوات بالحرية والكرامة والعدالة وإنًّما أرادت فقط استبدال سلطة تلبس قناعاً بسلطة تلبس قناعاً آخر.
فلا تحزن يا صديقي المسجى في قبر الصًّمت، بعد عزلة الإنكسار والذهول أمام بلادة الإنسان، فانُّ قدر الثوار الأتقياء الأنقياء أن يعدموا أو ينتهوا في أقبية العزلة الصامتة، بينما يغنٍّي ويرقص أدعياء الثورات امام الحشود المخدوعة وهم يحتفلون بالنًّصر الكاذب.
لكن هل حقاً أن قدر الإنسان أن يرسم ثم يمحو، أن يثور ثم يستسلم، أن يحلم ثم يصحو؟ إنه قدر بائس لا يمكن أن تباركه السماء ولا أن تقبله أرواح الذين ضحُّوا وماتوا، وهي تتعذب بانتظار إنصافها وإكرام حياتها وموتها.
أذكر يا صديقي أنك بعد الفشل الأول حاولت أن تشعل نيران الثورة من جديد لكن لم يستجب المتعبون المستكينون لحياة الزبونية. وأعلم أيضاً يا صديقي بأن شباب ثورات وحراكات الربيع العربي لن يقبلوا مصيرك في العزلة وفي الموت البائس، إذ أن للثورات ألف طريق وطريق وللثوار ألف مصير ومصير. لقد يئست ومتًّ موتة الإنكسار وسيتفاءل آخرون فيعيشون عيشة الكبرياء والإنتصار.
القدس العربي