رسالة متأخرة إلى أبي “بوعلي ياسين”: روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة عشر عاماً غادرتنا، 18 إبريل العام 2000، تاريخ لا يمكن لبشاعته أن تتكرر. تركتني مع ذاكرة صاخبة بك، بحياة ماضية قضيتها مع رائحة أوراقك، غوايات المعرفة والأسئلة التي ابتليتني بها. الأهم أنها كانت دوماً ذاكرة ضاجّة بالحب.
ليست صورك المنثورة في كل ركن من المنزل هي وحدها التي تجعلك حاضراً كل دقيقة في أوقاتنا، ولا كتبك المصفوفة على الرفّ الأول للمكتبة، ولا عبقك الندي المقيم أبداً في التفاصيل، بل أشياء أخرى أكثر ولوجاً في الروح، تشبه شيئاً ثميناً أهديتني إياه يوماً، بل ربما كان أثمن ما أملكه، “الشك”!.
أبي الغالي، منذ سنتين، يوم اندلاع الثورة السورية، وأنا استيقظ كل يوم متمنية لو كنت بيننا، وأحياناً أحمد الله لأنك رحلت قبل ذلك. أتمنى لو رأيت حلمك بالثورة تلك التي تحيا في الشمس، كما كنت تصفها، تنبعث في أجيال جديدة كنت تكتب لها في سرك، وتحلم باليوم الذي ينتفض المارد في وجه سجانه. ولا أتمنى بالمقابل أن ترى الخراب الذي راح يسدل عتمته على سوريتك. ثم أتمنى أن ترى كيف تبدّل وجه بلدك التي عشقتها، وتركت بلاد الغرب، كما سبق وسمّيتها، غير آسف وعدت إليها. كنت تتمنى أن تشارك في بنائها فكرة فكرة وكلمة كلمة، كنملة قنوعة، كما كنت تصف نفسك، في وقت كانت تمور فيه بالتغيّرات أواخر الستينيات. لكنها راحت تتجه يوماً إثر يوم باتجاه الفجيعة، وكنت من صفّ المثقفين الذين دفعوا أثمان معارضتهم طويلاً حتى النهاية. كان الشك، لا اليقين، هو الذي قادك لتتخذ موقفك الصارم من السلطات. كان الشك، الخصب الحي، هو الذي دفعك للتفكير، بعيداً عن اليقين الذي رأيته سبب الشلل والجمود، ذاك الذي لا يحولنا إلا إلى مومياءات. لكن الدرب الذي حاولتم فرشه، أنتم مثقفو سوريا العلمانيون، لم يكن معبّداً جيداً لنا يا أبي، ثمة فراغات كثيرة تشبه الحفر فيه. كانت قوى الطغيان أقوى منكم وأشد تأثيراً.. لماذا؟ هل لأنكم لم تستطيعوا أن تلجوا بأدواتكم عمق مجتمعاتكم كما يجب؟ أم تفريغ المجتمع السوري من العمل السياسي والمدني، وخلق حواجز بين نخبته وشعبه، هي الأسباب الأقوى؟! أم أن الأسباب مركبة ومعقدة أكثر من ذلك بكثير؟! رفاقك اليوم يا أبت الحبيب يقعون في المطبات ذاتها التي وقعوا فيه مراراً، وهاهم اليوم يحتلون الضفّة الأضعف!! يتركون الباب سانحاً لأيدٍ، خارجية وداخلية، تتلاعب في البلاد وشبابها حسب مصالحها وأهوائها!!
لكنك رحلت قبل ذلك!! أفكّر أحياناً بالأسباب التي دفعت بجيل كامل من المثقفين السوريين إلى هاوية مرض السرطان وهم لم يتجاوزوا بعد ستينياتهم؟! سعد الله ونوس، هاني الراهب، ممدوح عدوان… وغيرهم الكثير. هل كان الأمر يخصّ تراكمات من التصدّعات والخيبات تراكمت في الأرواح والأجساد، كمن حلم بالكثير ولم يُقدّر له أن يرى بعضاً من أحلامه تتحقق؟!.
أبي الحبيب، لا أتساءل كثيراً عن طبيعة موقفك الذي كنت ستتخذه لو كنت مازلت على قيد الحياة، لأني أعرفك جيداً، وأعرف بأنك ستكون إلى جانب شعبك، ذاك الذي كرّست لثقافته الشفاهية عشر سنوات ثمينة من نهايات عمرك، تاركاً الاقتصاد والبحوث السياسية غير آسف. كنت تضحك حين يلومك الآخرون على ذلك، فالغوص في عمق ثقافة الشعوب أبقى!! مرة قلت لي بأن السياسة لعبة قذرة، والثقافة هي الفعل التراكمي الحقيقي، رغم أنك كنت رجلاً ذا فكر سياسي بامتياز، لكنك قصدت ممارسة السياسة والتحزّبات الضيقة ربما. كنت محبطاً يومها بعد عودتك من تحقيق طويل مضنٍ في فرع الأمن. كانوا يسألونك لم كنت ضد وقوف النظام السوري مع أميركا في حربها على العراق؟! كنت غاضباً ومستفزاً كمن طُعن في شرفه. أنا أعرف بأنك كماركسي ستقف ضد المعسكر الإمبريالي الأميركي، لكنك ستقف ضد معسكر النظام كذلك، باعتباره ممثلاً أساسياً للطغيان. ولن تأخذك الترهات والحروب الصغيرة والنقاشات الجانبية، كما كنت دوماً. أعرف بأنك ستقف بجانب شعبك ناقداً مفككاً باحثاً مؤازراً ومحباً، كما ستحاول بطرقك الهادئة تصحيح ما تراه خاطئاً، تصويب المسارات التي راحت تلتوي، كشف التلاعبات، وستكون مهموماً بذلك الأفق الوطني المدني الديمقراطي الذي طالما حلمت به، بعيداً عمّا نجح عنف النظام في فرضه من عسكرة وفتن طائفية وتشظٍ للبلاد وأهلها. كم نحن اليوم بحاجة إلى هدوئك ذاك كي نرى جيداً وسط الضباب الذي تكاثف حولنا. كم نحن بحاجة إلى التملّص من “سلطة المداورة”، تلك التي كتبت عنها في كتابك الذي أفردته لشهرزاد، “المداورة” التي تعتمد على تكييف الرغبات بما لا يتعارض مع ما هو مطلوب في ثقافة السلطة. كنت ترى إنه من الطبيعي في حركة التطور أن يشكّل هذا التصرف اليوم، في عمقه الفكري والنفسي، استلاباً وجودياً وشكلاً من أشكال الوعي الشقي الذي يفضي بأصحابه لأن يكونوا ملكيين أكثر من الملك! المداورة تلك السلطة التي لم تمتلكها يوماً، والتي راح يبتلي بها الكثيرون اليوم يا أبي!.
“لقد ورثنا لغة ملوثة”. جملة أحببتها كثيراً لجوليا كريستيفا حين قرأتها لك وكنت على فراش المرض. قلت لي: لا يمكننا أن نحلم بثورة مجتمعية بدون ثورة في كلماتنا، في خطابنا المتكلّس، في فهم إيديولوجياتنا كذلك، رغم أنك كنت تصرّ دوماً إن الإيديولوجيا براء من تكلّسنا، كما الماركسية براء من تمظهراتها العربية التقليدية المختلفة. أذكر هذه الجملة كثيراً في الآونة الأخيرة، وأفكر هل كنت ستكتب اليوم ضد الموت كما كتبت دوماً ضده، كأننا نكتب رغبتنا الخفية في إحياء ما مات، أو منع أشياء من الموت. ليس الموت المادي بل النسيان، فالكتابة سحر ضدّ النسيان. هذا ما جعلك تقول لي بأنك لا تخاف الموت فأنت حاضر في كتبك. رغم أنك كنت مؤمناً بأن جسدك سيفنى كمادة!
أبي الحبيب، ربما كانت الأجيال الجديدة اليوم، بفعل النزق الثوري والموت الحاضر والمحيط، مصرّة على القطيعة مع أفكاركم، ولن تكون غاضباً من ذلك أنت الحليم الذي تنضح الديمقراطية من أدائك، لكنها فترة وتمضي وسيكون ما راكمتموه قبلاً عتبة سنصعد عليها فهذا الحال دوماً، كل جيل يبني لما بعده. واليوم لست حاضراً في كتاباتك فحسب، بل بروحك التي ترف حولنا طيلة الوقت، وتجعلني أفكر كل دقيقة كيف سيكون رأيك بحدث ما؟! ما هي وجهة نظرك بفكرة ما؟! لأن الأمر أعمق بكثير من جسد سُجى تحت التراب، إنه ذلك النسغ الذي ينتقل منك إليّ، ثم إلى ابني ومنه إلى ابنته وهكذا، تركة ثمينة تلك التي تحملها الأرواح، تطورها وتغيرها ولكنها تبقى، كما تنبني الأوطان تماماً حجرة حجرة، قلباً قلباً، وفكرة فكرة.
أبي الغالي لترقد روحك بسلام.
موقع 24