رسالة من شاعر إلى العائلة
علي جازو
الذين قُتلوا بحقد بغيض وغدر بهم، الذين عذبوا بوحشية حاقدة وصفعوا ببشاعة وركلت وجوههم، وأهينت كرامتهم، المعذبون الذين لم نر والضحايا الذين لا يعرف كيف دفنوا، والمعتقلون الذين لا تختصر آلامهم في أعدادهم، كل أولئك لهم قلوب كقلوبنا.
دافعوا عن أنفسهم التي هي نحن، بأصوات عارية مزقت صقيع صمتنا المخزي، لأنهم لم يملكوا سوى صرخات حناجرهم، ولا أرادوا شيئاً سوى أن تصل إلى أقصى الأرض وقد وصلت العالم كله. لم يحملوا أسلحة سوى خفقان أجسادهم وحيدة في وجه قوة لا تحترم الروح الإنسانية ولا حرمة الجسد الجريح. لكن الذين قتلوهم ‘كانوا’ سوريين مثلنا.
وفي هذا شعور قاتم بإهانة وعار مزدوج، شعور أننا نحيا مع قاتلينا كما لو إننا كنا مخدوعين طوال سنين، والحق أن هذه الخديعة لم تعد تنطلي على أحد. نحن بشر قبل أن نقيد كالأسرى إلى فئات وجماعات منغلقة، إننا مكونون من عواطف إنسانية قبل أن ننتمي إلى قوميات وطوائف لم يخترها أي واحد منا ولا رضي معظمنا عن سقم أحوالها. إننا أحياء وموتى معاً تحت التراب وفوقه، عظام فوق حطام عظام.
من مات منا لم يرحل كما يرحل الموتى العاديون في أيام عادية. لقد أجبر على الموت بعد أن أجبر على رفض سطوة متعهديه. غدت الحرية في هكذا حال فعل اضطرار أشبه بالقسر والإكراه، إنها الرئة التي يتنفسها المخنوق. لقد أقفل على الهواء في سوريا منذ عقود ثقيلة، أجيال كاملة عاشت وعانت ورحلت في عفونة أخلاقية وسياسية مزرية.لم يختر أحد منا لغته ولا دينه ولا قوميته. جداتنا وأجدادنا عاشوا هنا، بكرامة السذاجة الطاهرة، لا ذكاء المحللين الجحيمي، تغذوا العطف والرأفة لا بؤس القوة العمياء ولا منافسات المال الوضيعة على رذيلة الرفاهية المقززة.
تحملوا وعانوا صبروا هنا على هذه الأرض قبل الدولة وسيعيشون في ذاكرتنا وذاكرة أحفادنا بعد الدول جميعها. يجمعنا ما يجمع البشر كلهم: الحياة، كرامة الحياة، مادتها الروحية الأبسط والأرقى والأنبل، شعاع الدمعة التي وحدها تستطيع أن تحمل مقدار الخزي الذي يحيط بنا وتراب الألم الذي يتراكم على أفواهنا ويمزج بنحيبنا. لم نعد نطيق الإهانة والكذب والرياء ، تعبنا من ضراوة الفقر من قسوة المرض من برد السجون ومن مشاهد الجثث وأشلاء الموتى.
إننا مدعوون الآن في هذا الظرف الاسثتنائي، وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على آلام لا تطاق وارتكبت فيها فظائع شنيعة، مدعوون إلى ابتكار شكل جديد من الحياة السياسية. كلكم تدركون أن نظام الحزب الواحد قد سقط. ليس أمام السلطة، أو ما يجب أن يتبقى منها سوى الاعتراف أنها في طور انتقالي، وعليها أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية قبل السياسية بتسليم أمور بلدنا إلى هيئة قادرة على تجاوز هذه المحنة الخانقة. لم يعد احتكار السلطة ممكناً. زمن الاستبداد غدا من الماضي والدم الذي سفك قتل الاستبداد وتخطى أسوار الخوف وحواجز العبودية. فات أوان الاستفادة من الدرسين المصري والتونسي، لكن نتيجتهما ماثلة. الشعب السوري اختار ما يحب أي شعب أن يختاره: الحرية والكرامة. الحرية مقدسة، الكرامة مقدسة. ولأننا أحرار بداية، لا يمكن أن نقبل أن يتحول مسعى الحرية إلى هاوية انتقام جماعي وفوضى تناحر مقيت. لا يمكن للحرية أن تعيش مع الكراهية ولا لحس الكرامة الرفيع أن ينحدر إلى غريزة القتل المتوحشة. العدالة هي البيت، هي الوعد الحقيقي لمستقبل بلا خوف ولا ضغينة. لا أحد يمكنه أن يسكن الظلام، وأن يبقى في مأوى المجرمين وجحور القتلة. الحياة ترفض القتل، ترفض الانحدار إلى الفقر المأساوي بلا سبب وبلا مبرر. وحدها العدالة جديرة بأن تجمع السوريين إلى مائدة واحدة، مائدة العائلة المحصنة من الطائفية المقيتة، لأننا عائلة واحدة رغم كل شيء. من يريد عائلة أخرى، خارج أرض العدالة، عليه أن يبحث عن وطن آخر، عن شعب لم يعد موجوداً في سوريا. ما يحصل في سوريا توق نادر وشجاع نحو نظام سياسي اجتماعي سليم قادر على إدارة التنوع السوري الخصب والخطر معاً، خطر إذا لم يدر بعقلانية وحكمة. نظام قادر على البقاء كدولة راعية لا كوصية على الدولة، نظام محمي بدستور لائق وقيم العصر وحقوق البشر الأساسية. مدت صرخات الكرامة يد القوة إلى ضمير الشعب وعقول الناس، ومن ظن أن المهانة غدت طابعاً عاماً نسي أن الإنسان يحيا وذاكرته جمرة في صدره ولهب خلف نظرة عينيه، ويجب أن تبقى معه شعلة هذه القوة الحية على الدوام. شعلة دليل ومصير في آن. إن منبع هذه القوة قادم من الضمير الحارس، إنه آت من سحر الرفض الحر، رفض العبودية لأي كان. إن أي زعيم لا يحترم إرادة شعبه سيغدو قائداً بلا شعب وبلا إرادة، سيكون قائد لا أحد. سيعيش في العزلة التي لا ترحم، سيهرأ في صفحات التاريخ الذي ينخل الأيام ولا يغفر الجرائم. ثبت أن الشعب السوري قد فك طوق العزلة الخانق، وتجاوز الخطر، خطر التعفن والركود السافل حيث يزدهر سوق الانحلال وينحط مستوى تفكير البشر ووعيهم. لسوريا وللسوريين أن يفخروا بأنفسهم الآن. لقد استردوا ما هو لهم: حريتهم وكرامتهم التي لا يمكن أن تباع لأحد ولا أن يسترخصها أحد، ولا تقدر بثمن سوى دماء الشهداء والضحايا الأبرياء، ولهؤلاء، لأجلهم وأجلنا نحن الذين بقية من حياتهم وذكراهم، يجب العثور على حل جذري ينقذ البلاد. الرسالة واضحة الآن، إنه تسري في الليالي الشموع وفي نهارات الجمع، في القرى والبلدات الصغيرة وفي قلوب المدن الكبيرة. الشوارع هي الشواهد الأصدق والحناجر تهتف وتظل تهتف: الشعب يملك ويقرر مصيره، إنه سيد نفسه الآن، ويبقى سيدها إلى الأبد، جيلاً بعد جيل. نحن بشر. ضميرنا الحي نسبنا إلى الحياة وتوقنا إلى الحرية رابطنا إلى المستقبل، حياة حرة كريمة لا تقبل الإهانة من أحد ولا ظلم أحد. إن أي نظام، كما أية عائلة أو أي قانون، لا يمكن أن تستمر ما لم تكن مدعومة بالحرية العامة والرضا الحقيقي. رسالتي لكم ليست رأياً في السياسة. إنها فعل واجب من أفعال الضرورة الأخوية تلك التي تجعلنا نتفاهم معاً على تحمل عبء بلدنا الصعب والملح. إننا أمام مصير شعب وحياة شعب. في صباحاتنا وجوه أطفال، وفي عيوننا الأسى والخشية، التصميم والأمل. لنفكر في قلق الأمهات على الأقل، لنحترم صبرهن وفزعهن، لنقف لحظة أمام حرقة بكاء من لم يعد يجد غير فجر الدموع على وجهه. الحرية أداة، ليست غاية في ذاتها. إن حرية لأجل الحرية هي لاشيء لأجل اللاشيء، هي إغراء العدم وسطوة الاعتباط واحتراق اليأس. إننا ملزمون تحت ضغط الواجب الأخلاقي والشجاع بالاستخدام الصحيح لهذه القدرة الملهبة، لعذابات هذه النشوة المسكرة المريرة.
القدس العربي