رسالة من صحافي تركي في السجن/ جان دوندار
في الليلة الأولى التي أُحضِرت فيها مع زميلي إردم غول إلى سجن سيليفري قرب اسطنبول، سألونا في مكتب التسجيل الأول ما هي التهم الموجّهة إلينا: “إرهابية أم عادية؟”.
تراجعت قليلاً إلى الوراء وأخذت نفساً عميقاً، وقلت بنبرة جدّية: “أنا جاسوس”. وقد استمتعت كثيراً برد فعل السائل الذي ظهرت على وجهه علامات الذهول ممزوجةً بالإعجاب.
لكن لو سألوني ما هو البلد الذي أتجسّس لمصلحته، لما عرفت بماذا سأجيب. لو كنت أعلم، لطلبت مبادلتي بجاسوس من ذلك البلد على جسر ما، لكنهم لم يقولوا لي اسم البلد.
أسوأ من ذلك، ليس بحوزتي إثبات لأريهم أنني جاسوس. قال القاضي في الحكم الصادر عنه إنني بادرت على الفور إلى نشر الوثيقة التي حصلت عليها، في الصفحة الأولى من الصحيفة (أنا، على أي حال، مبتدئ في التجسس). وبالطبع قبض عليّ القاضي متلبّساً…
هذا هو الإثبات الوحيد…
وبما أن النظام القضائي التركي يعمل ببطء إلى حد ما، تحرّك القاضي بعد ستة أشهر… وعلى غرار والد عنيف في المنزل يقول لابنه: “أنتظر رحيل الضيوف، ومن ثم حسابك معي”، انتظر القاضي انتهاء قمة مجموعة العشرين.
وفور مغادرة الضيوف، قرّر توقيفي كي لا أتمكّن من العبث بالأدلة.
لقد طُبِعت مئة ألف نسخة من الصحيفة في ذلك اليوم، ما يعني أن هناك مئة ألف إثبات. علي أن أعمد سريعاً إلى العبث بها.
وضعت خطة في الليلة الأولى؛ كتبت رسالة لعصابتنا التجسسية: “اعثروا فوراً على هذه النسخ واشطبوا كل العناوين الرئيسة بقلم أسود عريض”.
كتبت هذه الجملة ووضعت الورقة في رافعة وأرسلتها نحو السماء. لكن بما أنني مجرد مبتدئ، علقت رسالتي في السياج.
والآن أنا على يقين من أن حكماً آخر سيصدر بحقي بتهمة “محاولة العبث بالأدلة” بسبب تلك الورقة التي علقت في السلك الشائك في سجن سيليفري.
حسناً، حتى لو لم تعلق الرسالة في السلك الشائك، ونجحت بالوصول إلى الصحيفة، ربما كانوا ليعجزوا عن قراءة تعليماتي لأن خطي سيئ جداً.
كتبت في الرسالة الأولى التي بعثتها: “أرسلوا إلي القلم الأحمر الذي أحب”، لكن بسبب خطي غير المقروء، طُبِعت على الورقة عبارة “الحقيبة الحمراء” بدلاً من “القلم الأحمر”. ومنذ ذلك الوقت، يبحثون عن حقيبة حمراء في غرفتي ظناً منهم أنني بعثت “رسالة مشفّرة”.
في اليوم الثاني، أُرسِلت إلى طبيب نفسي كي يقوم بـ”إصلاحي”. كان هذا أمراً مألوفاً. وقد طرحوا علي أسئلة يطرحونها على الجميع. فقد سألتني شابة أنيقة ومعها فريق المستطلعين: “من شجّعك على ارتكاب جريمة؟”
أجبت: “والدتي. بدأت تقرأ لي الكتب عندما كنت طفلاً صغيراً. وكذلك معلّمتي في المدرسة الابتدائية… علّمتني كيف أكتب”.
سألوني: “هل ستستمر في ارتكاب الجرائم بعد إطلاق سراحك؟” أجبت: “يبدو أنني سأفعل. انظروا، حتى إنني أكتب أثناء وجودي هنا”.
أعتقد أنهم كانوا قد وضعوا تشخيصاً لحالتي عندما علموا أنني طلبت كتاب “دون كيشوت” من المكتبة.
وفيما كنت أقف في رواق قاعة المحكمة بانتظار صدور الحكم، أعطاني سجينان مخضرمان يدعيان جلال دوغان وجلال الدين جان، درساً مختصراً عن تسريع الوتيرة وتبطيئها في المشي. فقد قال لي جلال الدين: “عليك اعتماد إيقاع معيّن عند المشي. المبدأ المعتمد هو عدم الاصطدام بسجين آخر يقترب نحوك من الاتجاه المعاكس”.
والآن في الباحة الصغيرة على مقربة من زنزانتي في سيليفري، أمشي وحيداً وأقول في نفسي وأنا أتذكّر تعليمات جلال الدين: “ليس هناك أحد يقترب من الاتجاه المعاكس”.
لأن السجون المكتظة المصممة على طريقة المهاجع حيث يسير السجناء كتفاً على كتف، استُبدِلت بزنزانات منعزلة ذات إجراءات أمنية مشدّدة.
هنا تكون وحيداً حتى في نزهاتك. لحسن الحظ، ثمة فتحة في وسط الباحة. إذا صرخت في الفتحة، يمكن أن يصل صوتك إلى المدينة من طريق أنابيب الصرف الصحي. وبما أنني جاسوس مبتدئ، قمت بمحاولتي الأولى لدى اكتشافي الفتحة في اليوم الثاني من وجودي في السجن. انحنيت نحوها وهمست: “آذان ميداس… عفواً، شاحنات تابعة لجهاز الاستخبارات الوطني تنقل أسلحة”.
كان معكم الجاسوس في تقرير من سيليفري.
بأي حال، يكفي تجسساً. لا أملك قدراً كافياً من الورق. القصاصات التي أعطوني إياها لأضع قائمة بالأشياء التي أحتاج إليها على وشك أن تنفد. علي أن أحدّد احتياجاتي على القصاصة المتبقّية وأن أطلبها من المخزن.
أحتاج إلى دلو صغير لأستخدمه مرحاضاً على الطريقة التركية، وأحزمة عازلة لسد الفتحات في الباب استعداداً لفصل الشتاء، وممسحة لتنظيف الأرض… ترى أي مسحوق سائل هو الأفضل للتنظيف؟
إذاً كدسة الورق نفسها التي كتبت عليها مخاطباً 28 قائداً أوروبياً بينهم أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند، أستخدمها الآن لأدوّن عليها أنني أريد مضخة للمرحاض؛ تخبئ لك الحياة أشياء غريبة…
التجسّس عمل شاق، لكنني أعتقد أنه أفضل من أن يكون المرء لصاً.
مع فائق الحب من سيليفري…
رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” التركية
(نشرت الرسالة في 2 كانون الأول الجاري في صحيفة “حريت” التركية – الترجمة لنسرين ناضر)
النهار