رضوان:ضد النظام مع الجيش
حوار: راشد عيسى
حظي مسلسل “الولادة من الخاصرة”، بجزئه الثالث “منبر الموتى” بمتابعة كبيرة إثر عرضه أخيراً على غير قناة عربية. قلما يجد مسلسل هذا الجدل، والخلاف حول كل ما فيه، بدءاً من وجهته السياسية، إلى شخصياته، ومن هي في الواقع، وصولاً إلى سويته الفنية، وعلاقة المسلسل بالواقع السوري الراهن وأين يقف منه. غير أن هذا الخلاف، بلغ حد الانقسام هذه المرة ضمن فريق العمل نفسه، حيث المخرج في وادٍ، والكاتب في وادٍ آخر. كذلك الأمر بالنسبة إلى الممثلين الذين أعلن بعضهم انسحابه وتنصله من العمل. هنا مقابلة مع مؤلف العمل، يأخذ فيها على المخرج حذفه للكثير من المشاهد، وانحيازه لجهة النظام السوري.
– كيف تفسر تنصل مخرج “الولادة من الخاصرة” (منبر الموتى) من تبني المسلسل، وكذلك تنصل ممثلين؟
الممثلون تابعون في النهاية لما يقوله النص ولطريقة المخرج في تنفيذه، ولهم الحق في اختيار ما يرونه مناسباً للتشخيص. أما المخرج فهو شريك بنية نصية وحكائية ودلالية بالضرورة، فلا يستوي الطرفان في معيار قيمي واحد. المخرج أعلن، في أكثر من حوار وبرنامج تلفزيوني، أنه أحب النص وتبناه بالكامل، وفي هذا تسجيل موثق قبل البدء بعرضه، إلا أن الهياج الذي أحدثه العمل في صفوف مسعوري الشارع الموالي، في الحلقات الأولى، أشعره أنه لا بد من التراجع عن مبدأ في الأساس لا ينتمي إليه، بل يقف ضده، وقد أعلن ذلك في أكثر من حوار شتّام في بداية الأزمة، وفي حواراته الخاصة مع بعض الزملاء حول المتظاهرين والتحريض على دعسهم. ومن المؤكد أن أوامر صدرت من قبل جهات أمنية حرضت على هذه الانسحابات. وإلا كيف نفسر طول مدة الصمت عن هذه المواقف الانسحابية البلهاء؟!
-هل توافق على أن العمل في النهاية، كما ظهر على الشاشة، يكرس رواية النظام حول ما يجري في سوريا، حتى لو لم تقصد أنت ذلك؟
أبداً. على الإطلاق، ولي في هذا ألف دليل وحجة أستطيع أن أناقش فيها من يحب. النص يقول إن النظام السوري عبارة عن تحالف مشبوه بين قوى برجوازية غير وطنية ومنظومة أمنية قاهرة، وكل مؤسسات الدولة تابعة لهذا التحالف بما فيها وسائل الإعلام، وصناعة الذهنية الموالية له عبر المصالح والشعارات الوطنية المفرغة من أي محمول. لحظة الانتفاضة على هذا الظلم صدرت الأوامر بإطلاق النار على الناس بلا رحمة بعدما هيأت أفرع الأمن نفسها لفرضية إرهاب المدن، استناداً إلى تجربة سابقة مرت بها سوريا ونجحت في حينه، فهل هذه رواية النظام؟
ثم قال المسلسل، وبشكل صريح، إن المخابرات قامت بتجنيد مجموعة من البشر للإساءة لسلمية الحراك وتشويهه بالتضحية ببعض عناصرها من خلال شخصية مهران (لعبها بشكل لافت الفنان غطفان غنوم) التي قتلت عناصر الأمن واتضح في الحلقات التالية أنه مرتبط بمسؤولين كبار في الدولة. كما ظهر أن حاملي السلاح ليسوا نسيجاً واحداً، فهناك من اضطر لحمله، رغم عدم موافقتي ككاتب على أي مظهر مسلح، لكن هذا لا يمنعني من تشخيص الأسباب وتقديمها كوثيقة من خلال شخصية عزام الذي اضطر لترك خدمته العسكرية مدفوعاً بإذلاله من قبل رئيسه، وقتل أخيه الصغير في إحدى التظاهرات وتحوله إلى مطلوب للجهات الأمنية، إضافة إلى اختيار المنظومة المخابراتية لضباط لهم ملفات جرمية وتسليمهم قطاعات التظاهر كي يتم حرقها بما يمتلكون من قدرة على البطش، وبضوء أخضر واضح من أعلى قيادة أمنية، فعن أي رواية نظام تتحدث!
-من أين جاء هذااللغط إذاً برأيك؟
اللغط حدث عندما لم أدن مؤسسة الجيش، وهذا ما لا أستطيعه ولا يستطيعه أي مواطن سوري يؤمن بضرورة استمرار سوريا كبلد. هذه المؤسسة هي أخي وأخوك، هي المؤسسة الوحيدة التي ينبغي أن تبقى موجودة تحت أي ظرف، ولي في هذا رأي صارم؛ عدائي مع من أعطى الأمر له، وهذا لا ينطبق على المؤسسة الأمنية التي تستند في بنيتها إلى كتلة بشرية من نوع مهيأ لقبول غسيل الدماغ، بل تحلم بإذلال الآخر وإرهابه، هي المؤسسة التي طالبنا منذ البدء بتفكيكها، أما مؤسسة الجيش فلنا معها سيناريو آخر يقوم على إعادة هيكلتها، مع محاسبة قياداتها التي أعطت أوامر بالقتل والتدمير. في النهاية، ككاتب، أسعي إلى رسالة سورية، تقفز عن التفاصيل وتقوم بخطوات لا بد منها للخروج من السواد: عقاب القيادات، النسيان، الغفران، ومحاولة إنتاج مفهوم التعايش، حتى وإن كانت الإمكانات معدومة الآن لعيش مثل هكذا مصطلحات، لكن لا بد لي من ذكرها كنوع من الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني.
هنا لا بد من الوقوف عند مفهوم بائد يعود إلى الظهور بقوة، وهو مفهوم أدلجة الفن والأدب، بحيث تصبح وظيفته التحريض، كما كان يجري في إطار مدرسة الواقعية الاشتراكية، ولعل العيون في سجل الأدب الملتزم تقدم لنا رواية مثل “عائد الى حيفا” لغسان كنفاني ومسرحية مثل “الاغتصاب” لسعد الله ونوس، تثبتان لحظة هامة وهي إبراز إنسانية الآخر، العدو، كي تنتقل المعركة من حيز التحريض إلى الحيز الأخلاقي، وما فعلته لا يبتعد عن محاولة استنطاق الآخر، من أجل هذه القيمة الأخلاقية.
-أي مفاجآت حملتها إليك انطباعات المتلقين وردود أفعالهم على العمل؟
*رغم كل هذه النقد الموجه للعمل من مختلف التيارات والتوجهات، إلا أنه حظي بأعلى نسبة مشاهدة، ليس في سوريا وحسب كي نقول بين موال ومعارض، إنما في غالبية بلدان الوطن العربي. وهذا ينبئ عن نجاح كنت أتوقع جزءاً منه. أما ملاحظات البعض التي لا أعتبرها قليلة فقد كانت متوقعة من قبلي، فهم أرادوا أن أكون صارماً إلى درجة تحويل العمل الدرامي إلى بيان سياسي، وهذه ليست مهنتي، أنا مع إعادة إنتاج التوافق رغم كل ما حدث من جرائم. سوريا بالنهاية للوسطيين.
-ما سرّ ترك المخرجة رشا شربتجي لإخراج العمل بعدما صورت منه مشاهد بالفعل؟
*أصدرت السيدة رشا بياناً وضحت فيه سبب انسحابها من متابعة إخراج العمل، وأظن أن جواب هذا السؤال يحال إلى ذلك البيان. أما إذا كان هناك ما هو خارج سياق البيان المذكور فتُسأل هي فيه.
-هل لاعتقالك من قبل النظام السوري علاقة بهذا المسلسل؟ لماذا يعتقل كاتب العمل فيما لا يمس مخرجه والممثلون؟
*يدرك النظام جيداً أن النص هو المنطلق الفكري والدلالي لأي عمل درامي، وهو الحامل للمقولة وللبنية الحكائية وللرسائل الفكرية، وربما تكون لاحظت مثلي أن كل الحملات المسعورة طالت النص أولاً وأخيراً، باستثناء بعض الأصوات التي طالبت باعتقال نجوم العمل، ولم يدخل أحدهم الأراضي السورية كي نتأكد من هذه الفرضية، رغم ميلي الشديد إلى أن مشكلتهم معي شخصياً لم تبدأ مع “منبر الموتى”، بل ظهرت تباشيرها منذ مسلسلي الأول “لعنة الطين” الذي منعت على إثره من السفر خارج البلد، وسُويت المسألة بتدخل من أصدقاء كثر. أما المخرج الشريك فالكثيرون يعلمون مدى ارتباطه بعدد من القيادات الأمنية والعسكرية التي يمكن أن تحميه وتحيل القضية برمتها إلى صاحب النص ومما يعزز هذا الكلام طريقة إخراجه التي هرب فيها مما هو مكتوب
ويمكن أن نقول: هناك أسماء مغضوب عليها سلفاً شاركت في المسلسل، كما سُجلت حالات اعتقال لبعض الممثلين، لا أدري إن كانت على أرضية المسلسل أم لا، كما أن هناك ممثلين معتقلين قبل العمل، وبعده لم يعد في إمكانهم العودة إلى سوريا.
-تحدثت من قبل عن مشاهد حذفها المخرج من سيناريو المسلسل، ما أبرز تلك المشاهد؟
*حذف المشاهد التي تورطه من وجهة نظره مع السلطة. فرؤوف يستصدر أمراً بإطلاق المحكومين الجنائيين بالقتل والسرقة ويستخدمهم كجنود له عبر مشاهد متعاقبة. حذف مشهد انتقام أهل القرية المسعورين الذين وبخوا الأستاذ حاتم، الذي لعب دوره المخرج نفسه، حين قاموا بقتل مجموعة كبيرة من الناس غير المشاركين بأي حدث، وإلقاء جثثهم في ساحة القرية كتعبير عن انتقامهم لدم ابن قريتهم. هكذا ظهر أن لا معنى لمشهد يحاولون فيه ضربه ويتوعدون بالقصاص لدم رامي عنصر الأمن الذي قتله مهران. كذلك حذف مشهد اغتيال الدكتور مع مجموعة إدارة الأزمة، وسط ابتسامة من رئيس جهاز الأمن وواجهات الصحف تطلق مانشيتات من قبيل “اغتيال رمز من رموز البلد، محاولة استهداف ناجحة لأحد أكبر المسؤولين السوريين، سوريا تودع علماً من أعلام الوطنية والكرامة”. إلى مشهد إعطاء الأوامر بإطلاق النار، وعندما يسأل الضابط يقول علانية هذه أوامر السلطة العليا. إلى ما هنالك من مشاهد.
المدن