صفحات المستقبل

رعشة الكشف… الغريب الذي أنا/ أحمد الشمام

 

 

في المعتقل لا ضوء لنرى، إذ لا فراغ ليدخله ضوء أو نسمة هواء، السجون ليست أشخاصاً محاطين بأسوار، السجون مكعبات إسمنتية مصمتة تتألف من جدران إسمنتية متراصة تماماً، بينها ملاط لاصق من لحم ودم، ولا ممر سوى لهامش حياة كفيل بإيلامك لتلقّي التعذيب والاعتراف على أشخاص بتهم حقيقية أو كاذبة.

تمر بلحظات تتلمس جسدك، تبني علاقة حميمة معه، لتشعر بأنك حي، وبحكمة قائد بارع توزع جيش حواسك إلى جبهات متعددة، لئلا يسقط في هزيمة تامة، إذ سرعان ما تحاول نسيان جسدك اللامس، وتتمنى لو تهدئ جبهة الحرب في ساحة حاسة اللمس، لأن ألم التعذيب الجسدي يعتمد على خاصرتك الرخوة هذه كي ينفذ المحقق إلى روحك، فتلجأ إلى التفتق بحاسة أخرى تستنفر طاقاتك التي وزعتها على سائر أنحاء جسدك وتتفقد تغيراته بالنظر بعين تبرق وتنتمي لما بعد الأسوار.

يقال إن الذين يتعرضون لبتر أحد أطرافهم ينسون فقدانها فيؤتون بحركة اليد أو القدم المبتورة لأنهم لم يفقدوا إحساسهم بها، هنا الذين لم يعودوا يحتملون التعذيب كانوا يتمنون فقد أطرافهم وحواسهم، الصامدون تفيض أرواحهم بأطراف زائدة، كنت أكره لعبة تجميع أجزاء صغيرة من رسم ما أو صورة، لكن هنا تعلمت أن أرى جزءا صغيرا وأكمل اللوحة، تستحيل عيني يدا ثالثة مشلولة أحاول رفعها عبثا أن يثقلني النظر للحياة من خلال مرآة؛ تتشظى- الحياة كمرآة مكسورة عندما تحاول أن تستخدم قصاصة الأظافر الملساء واللامعة لتعرف جزءا من وجهك في لحظات تسرب الضوء في حملة تفتيش مثلا، جزء من عين، بقعة في وجه تحمل ندبة ضربة مفاجئة، حاجبك الغليظ، سنك المكسور، وجزء من شفتك المشققة.

تقتنص الفرصة مثل أنثى تتفقد جسدها بعد عناق أو أب يخرج للتو من بيت محترق فيتفقد أبناءه إن نقصوا واحدا أو أكثر، إن هناك عمرا آخر للحظة لا يقاس بالوقت ولا بمقاييسنا الاعتيادية هو بعد العمق والألم وفضاء التساؤلات وهوتها السحيقة التي تفضي إلى إشعال العدم فيك ولغة بوح خارج الأبجديات المنحوتة من حجر مصمت وكل شيء يومض بنقيضه والصرخة لفظة الصوت البكر، الصرخة أعلى من كل الأبجديات.

بعد عامين تم ترحيلي لمدينة أخرى في الطريق إلى إخلاء السبيل، بدأت روحي تتحسس نفسها في جسدي الذي تحول من قطعة خشب جافة صالحة للحرق إلى عمود مندق في الأرض يهجي ترابها بالجذور ويشهق للهواء بالعلو، يتحرش بالسماء ويتلفت يهمس ببراعم خضراء نحو أفق الشمس، جسدي أصبح شجرة وبفرحة فزاعة الحقل المهملة إذ تتشجر بالجذور الحية وبالاخضرار والعصافير بدأ فصل جديد.

وقفت أمام مغسلة كي أزيح عن وجهي تعب الرحلة القميئة، أمامها رأيت نافذة مربعة الشكل تطل على ممر وغرف ورجال شرطة هي نافذة تفضي إلى فضاء يشبه المكان الذي أنا فيه رأيت شخصا بشعر خفيف محلوق ورموش متساقطة وحلاقة سيئة وبنية هزيلة، كما جميع أحوال السجناء رمقته بعيني فرمقني وشعرت أن نقطة معتمة في الوسط تشتعل بالتقاء عيوننا وتستدرج أرواحنا لها حاولت أن أنفذ إلى عمقه بطريقة ما، لوهلة تحولت نظرتي يدا تتقدم نحوه لتلامس يد عينه، أيضا تلامست راحتا كفينا مثل كفي عاشقين خفيفي الظل في لمسة أولى ثم تتحول الكف الخفيفة اللامسة إلى قوة تتقدم لجسد من هو قبالتي لكن كفه تقاوم وتضغط هي الأخرى، وتساءلت هل هو سجين يحاول أن يتعرفني أو يريد أن يهمس لي برسالة أو إشارة كي أوصلها لأهله، من الصعب أن تقرر حركة ما قبالة شخص يأخذك أو يذهلك، روحك هي التي تتحرك حينها، حركت رأسي لليمين فحرك رأسه لليسار وعيناه بعيني وبومضة كسريان رعشة في أرجاء جسد انتصر علي، نفذ إلى داخلي تلمست فيه ملامح كنت أعرفها نبشت في تراب ذاكرتي الضحل ثم تسعفني حركة أقوم بها لأخرج من ألق الصدفة في الحركات المتشابهة إلى الغرق في ضياء منبعها؛ لأغمر فجأة بإحساس أن الذي يظهر أمامي هو أنا.

لحظة الحياد مع صورتك وملامحك تنفذ لداخلك وتزلزل ذاتك وأنت تنظر وتقول هذا الشكل غريب، لحظة إحساسك برؤية ملامحك تتحول من غريبة إلى محايدة ثم مألوفة، لتكتشف أنها لك تشعل حميمية متقدة تجتاحك تعرش على روحك تحتلها تتوحد بها تنتمي لها؛ هي سفر يحتاج أدوات وحواس أخرى تنتمي لعالم الأرواح يحكي بعدا آخر للحظات تلك كانت صورتي قبالة نافذة تطل على مرآة مغسلة غرفة التوقيف بعد عامين ما كان مني إلا أن ناديت سجينا مرافقا لي وعانقته أمام المرآة متأملا صورتنا… عانقت الإنسان صاحب الجسد لا الروح التي كنت تلاشيت فيها ونسيت جسدي، هي ولادة الشخص الغريب الذي هو أنا.

(سورية)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى