رغدة حسن في رحاب “الانبياء الجدد”/ رئيفة المصري
لن نكون عادلين حين يتحول الرعب والدم إلى كلمات نكتبها على لوحة مفاتيح الكومبيوتر بينما نتابع، سطراً إثر سطر، ملحمة الحياة اليومية لامرأة تعيش حلم التغيير.
في رواية رغدة حسن ‘الأنبياء الجدد’، ثمة هذا السرد السلس الذي يتاخم حدود الألم في بنيان روائي قد لا تبدو أدواته الشكلانية بالغة الابتكار، لأن ذروة هذا البنيان تكمن في التفاصيل الشجية، والالتقاطات الشعرية، والانزياحات، والومضات التي تحفل بها الرواية في كل سطر من سطورها، ما يذكِّرنا بـ ‘شرق المتوسط’ لعبد الرحمن منيف، و’الخبز الحافي’ لمحمد شكري، اللتين يتشكّل إبداعهما الشكلاني في تفاصيلهما بالغة الواقعية والفجاجة، حتى انّ هذه الواقعية توصل إلينا رائحة وطعم الأمكنة، في نشيد ملحميّ وإنسانيّ قلَّ نظيره في الرواية العربية اليوم.
هاهنا يحضر الشعر والمجاز والتاريخ وعذابات النفس البشرية في دروب بلد عالم ثالثوي ينشد حلم الحرية في أفئدة شباب متحمسين متسلحين فقط بضمائرهم الحية وبالشعر أيضا. ‘كيف يستطيعون قتلي مرتين؟’ ‘انا من قاتل لاسترجاع زهوة ألوان الربيع، من أجل اغنية ترندحها حناجر الطفولة المغتصبة’ ‘ياوطني المصلوب بالعار ودخان الهزائم والألقاب كيف لي أن احميك…’ رائحة الدم المتخثر والخوف من رجال الأمن، الجلادون والأقبية، الحب والشعر، مفردات تلخص رواية شرق أوسطية بامتياز، عملاقة بكافة المعايير، من حيث رشاقة السرد وحيويته، ومن حيث شعريتها في مواطن عديدة، وكذلك الإحكام والسيطرة على مفاصل العمل بكل دراية وحنكة. الحوار دافئ وحميم حيث تدعو الحميمية، ومبتسر دون حشو أو ترهّل. خيوط العمل، روائياً، مشغولة بذكاء ودقّة على حبل السرد والحوار. بقي أن هناك بعض إنشاء قلّما يخلو منه أيّ عمل روائي.
إذاً، ما بين (شرق متوسط) جديد، و(خبزٍ حافٍ) يتجدد، تلهث وراء سرد رغدة حسن الآسر لروايتها ـ السيرة ‘الأنبياء الجدد’، وتقضم أظافرك بينما أنت جالس على كرسيٍّ وأمامك القهوة الصباحية، ليصيبك الدوار أحياناً، والخزي أحياناً أخرى لأنك (هنا) ولستَ (هناك)، في التشرّد والإذلال والأقبية، في ‘هذا العالم الذي يسمح أن تتحكم هذه المسوخ به’.
الحكايات ذاتها للمطارَدِ في وطنه، ثم المطرود، ثم النكوص إلى الحلم ‘لأنني لا أملك شيئاً إلاه. أنا مثل كل المقهورين في بلاد غابت عنها الاتجاهات ومعابر الضوء’. هي الحكايات ذاتها، ولكن حين يكون السجين أنثى، فإن الضحية هي الحياة بما (الحياة) هي الأنثى.
يبدأ درب آلام فرح منذ القبض على حاتم، ثم موته تحت التعذيب ‘صرخت بملء أوردتها .. وركضت لا تعرف أين تتجه .. غابت عن ضجيج الحياة وغرقت في حروف تلك الجملة .. التي ظلت تتردد لفترة طويلة في ذهنها .. حاتم مات تحت التعذيب؟’. ثم يستمر بعد القبض عليها، وحفلات التعذيب والتنكيل، ‘كبلوها بالأصفاد، وقادوها بعيداً عن الشمس التي لطالما لاحقتها واحتمت بدفئها. كان ذلك في عام 1991. …’، و’جاء الجلاد الذي كان يعرف واجبه جيداً، فقام به على أكمل وجه، وراح يتفنن بتعذيبها باستخدام الكابل الرباعي مع الكرسي الألماني – الكرسي أداة تعذيب مستوردة من سراديب النازية – كانوا يتقنون العمل عليها بحيث يصل المعتقل لدرجة الإغماء من شدة الألم المركّز في الظهر والطرفين السفليين حدّ الإحساس بالشلل، لكن إتقانهم لعملهم كان يحول دون حدوث ذلك’.
سنوات السجن، أم جوزيف، سيرينا، السجين الذي لا يعرفها والذي درج على دسّ البرتقال والسجائر والمناديل من تحت الباب، وبعد ذلك الحب الذي ولد مع فلسطيني رسم صورتها في خياله، هو عامر حداد، عامر الفدائي، ودّع على درب النضال الكثير من الرفاق الأشداء الاستثنائيين، مما أكّد إصراره على تحقيق هدفه في العودة وتحرير كامل التراب، لكن المؤامرة كانت أسرع في وضع حد لمسيرة نضاله… وتم اعتقاله’، عامر الذي ‘كان يحلم كل يوم وهو يراقب مرورها عبر نفق الموت الأصفر صاعدةً كانت أم هابطة من حفلات التعذيب اليومي وهم يحملونها … بأن يحظى بفرصة ليسمع صوتها وأن يعرفها ويتعرف عليها، لقد افترض .. وأراد أن يكون افتراضه حقيقة .. أنه يعرفها.’ ـ هو عامر الذي لم يك يملك إلا أن ينزوي ويبكي بصمت و يتمنى لو أن حواسه معطلة حتى لا يتمكن من مشاهدة وسماع ما يحدث معها.. ثم وباللاوعي يذهب إلى ألوانه فتستسلم له ريشته وتبكي معه صوراً تفوق المفردات دقة في التصوير، عامر المنفي والثائر والرسام الذي خرج من قلب الجرح..’، ‘كان لوجود عامر في المعتقل فعل السحر على فرح، فمنذ أن علمت بوجوده تملكها شعور هائل بالقوة، أحست أنها قادرة أن تواجه جيوشاً، تحول إحساسها إلى حقيقة تماهت مع واقعها، مما جعل روحها المتمردة المبدعة، تعود للتحليق في تلك الفسحات القليلة التي ولدت بنبض ألوانه… لم تكن بحاجة في معظم الأوقات، أن تخبر سيرينا بما تفكر به، أو بما يجول في خاطرها، فكان يكفي أن تنظر إليها حتى تعرف كل شيء، وتجيب دون أن تسأل، لأنها من الأشخاص النادرين الذين يدخلون حياتنا فلا نستطيع نسيانهم أو تناسيهم ما طال الزمن!!
ولعلّ أجمل المشاهد في الرواية وأكثرها أثراً في القارئ، كان مشهد مغادرة عامر للسجن: ‘يا حبيبي لا تذهب.. خذني معك.. احتويني كما كنا نفعل كل ليل…. خذني معك… أستطيع أن أتحول إلى ورقة.. خيط في قميصك.. خذني معك.. كانت تضرب باب الحديد بقوة هائلة، و تصرخ في الجدران، لم يجرؤ أحد من الحراس أن يتدخل ويوقف بكاءها.. لم يكن بكاءً.. كان انهياراً.. موتاً حقيقياً… عامر في الممر واقفاً مسمّراً يرفض الرحيل، يبكي ألماً و حقداً. اجتمع كل القيمين على إدارة السجن محاولين إقناعه بالخروج، لكنه تحول إلى صخرة لا تتزحزح. وهي داخل الجدران، خلف أسوار الحديد تصرخ كمن فقدت وليدها.. يا حبي الغالي لا تذهب.. ابق معي.. خذني إليك. صار صوتها يضعف.. يضعف. ثم غابت’.
تسرد رغدة حسن أيام السجن وحفلات التعذيب واقتلاع الأظافر، ثم نقلها إلى المشفى وإعادتها إلى السجن من جديد، وهناك تماثلت فرح للشفاء خلال شهر من اهتمام أم جوزيف وسيرينا ، واستطاعت أن تتحرك بحرية بعد أن تعافت أظافرها من التقيح وبدأت تلتئم لتنمو الأظافر من جديد ،كانت تمارس بعض التمارين الرياضية برفقة سيرينا ‘التي لم تتخل عن حركاتها التهريجية’ لتعيد الحياة لنهايات أعصابها التي لحق بها التلف، لكن الهالات تحت العينين تحولت إلى اللون الأسود.. وجروح الظهر والقدمين ماتزال تنز دماً.. أما تورم الرأس فقد خفّ لدرجة كبيرة بفضل رعاية أم جوزيف وسيرينا والدواء الذي وصفه طبيب المشفى العسكري.
من الساحل السوري، دمشق، لبنان، ثم فرنسا، يكتمل هذا النشيد الروائي العذب أحياناً، والقارس أحياناً أخرى، بل والصّادم حدّ الجرح في أكثر الأحيان، لأيقونة روائية عاليةٍ لا تقلّ روعةً وأسراً عن (شرق المتوسط)، بل لعلها تجاوزتها بحميمية الأمكنة، بالجلد والدم اللذين اقتلعتهما السياط، بالدمع والحلم، بالتّوق لأزمنةٍ أجمل لا تزال رغدة حسن تتلمّسُ أفياءه حين تمسح شعر ابنها، وتسرح عيناها في البعيد.. العيد.
أنا آخر الأنبياء .. وأجمل الشعراء ..
لأنني بقصائدي .. أدعو سر الحياة ..
أن يقترب من العلن ..
أمنح الجنيات رموزه ..
ليخبرن صيادي الشمس .. لغز الآلهة ..
ذو النون يتعالى على آلامنا ..
لكن حسرات الأمواج ..
صاغت من بياض الملح ..
شاهدة قبر .. على مدائن العتمة.
‘ كاتبة من سورية
القدس العربي