رغيد الططري مثالاً/ فايز سارة
يسعى سوريون في واحدة من حملاتهم لدى منظمات حقوق الإنسان من أجل إطلاق سراح أقدم سجناء الرأي في سجون نظام الأسد، وهو رغيد الططري الذي يقف اليوم عند بوابة العام الستين من العمر، وقد قضى أكثر من نصف عمره معتقلا في سجون الأسد الأب قبل أن ينتقل بالوراثة إلى سجون الأسد الابن، وقد برهن الأخير أنه ليس أقل وحشية ودموية من أبيه.
رغيد الططري من مواليد دمشق عام 1955، اعتقل قبل 33 عاما، والسبب تقديمه طلب لجوء في مقر الأمم المتحدة بالقاهرة التي كان يزورها عام 1981، بعد أن قامت الحكومة السورية بفصله من عمله كضابط في الجيش وطيار حربي، ولم يعد له مورد للعيش مع عائلته، فاضطر إلى طلب لجوء.
عندما عاد الططري إلى دمشق من القاهرة أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 1981، جرى اعتقاله في مطار دمشق الدولي، ومثل كل المعتقلين تم تعذيبه بصورة وحشية، وجرى انتزاع أقواله بالإكراه في سجن المخابرات العامة ثم في سجن المزة العسكري، ولم توجه له أي تهمة، قبل أن يعرض لدقائق على محكمة استثنائية عسكرية في عام 1982، هي المحكمة الميدانية الثانية بدمشق، التي أصدرت الحكم بالمذكرة رقم 433 /2، دون الإعلان عنه أو نشره أو إبلاغه لصاحب العلاقة.
بعد رحلة عذاب أولى في أقبية فروع المخابرات وصولا إلى سجن المزة العسكري، بدأت رحلة القسوة الفظيعة التي ما تزال ممتدة حتى اللحظة، حيث انتقل الططري إلى سجن تدمر الصحراوي الرهيب في عام 1982، وبقي هناك 21 عاما، ثم نقل بعدها إلى سجن صيدنايا العسكري، ليمضي هناك عشر سنوات كانت الأصعب في تاريخ السجن وفيها حدثت عمليات تمرد السجناء الذين تمت مواجهتهم بأقصى درجات الوحشية، ونقل بعدها في عام 2011 إلى سجن دمشق المركزي في عدرا الخاضع لوزارة الداخلية، حيث ما زال هناك معتقلا محتجز الحرية، ومعزولا لا يسمح بزيارته من أهله وأصدقائه بسبب تعسف الإدارة وعدم السماح له بمقابلة الزوار إلا بشروط خاصة بعد ثلث قرن من اعتقال تعسفي، ووسط أسوأ الظروف والأمكنة والظلم والقهر النفسي والأوضاع الصحية الصعبة.
حكاية رغيد الططري، مجرد مثال على ما أصاب ويصيب سجناء الرأي في سوريا من ظلم وقهر، وهي مثال لحالات عشرات ومئات آلاف اعتقلوا بسبب آرائهم، التي لا تشكل خطرا على الدولة والمجتمع ولا على الأمن القومي في سوريا، بل هي مجرد أفكار وآراء، وفي حالات أخرى رغبات ومبادرات هدفها خروج سلمي وهادئ من الحياة النمطية التي فرضها نظام الاستبداد على السوريين منذ مجيء الأسد الأب إلى السلطة في عام 1970، وأصابت مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية وصولا إلى الأشخاص بمن فيهم شخصيات في النخبة السورية من رجال السياسة والاقتصاد والثقافة في المجتمع، بل إن أشخاصا من رفاق الأسد الأب الذين كانوا على رأس السلطة قبل عام 1970، قضوا نحو 25 عاما من حياتهم في الاعتقال دون ذنب ودون أن توجه لهم تهمة محددة، وبعضهم مات داخل معتقل المزة الرهيب.
وسياسة القتل والإخضاع وصولا إلى التصفية الجسدية عبر الاعتقال، التي كانت صفة ملازمة لعهد حافظ الأسد، وامتدت 30 عاما، جرى تعميمها وتوسيعها في عهد الأسد الابن، ولعل مجريات الأعوام الثلاثة الماضية هي التعبير الأقوى عن هذا التحول في مسار القمع والإرهاب ضد السوريين، فقد جرى اعتقال مئات آلاف الأشخاص ليس فقط بسبب آرائهم السلمية المناهضة للنظام، وإنما بشكل عشوائي تختلط فيه دواعي العقاب مع التخويف والإذلال والابتزاز المادي من جانب الأجهزة الأمنية وعناصرها، إضافة إلى ما قامت به الميليشيات التابعة للنظام وتلك التي تقاتل معه مثل ميليشيات حزب الله اللبناني ومثيلاتها العراقية.
وإذا كان من البديهي ترافق الاعتقال مع التعذيب، فقد ترافقت معهما أوضاع معيشية وصحية أسوأ بكثير مما يتوقع أو يقدر له أن يحدث، انطلاقا من فكرة أن «المعتقلين أعداء وإرهابيون وعملاء للخارج» وغير ذلك من تهم، لا تبرر اضطهادهم بصورة غير إنسانية فقط، إنما تبرر قتلهم سواء بالإعدام الكيفي المباشر أو تحت الإهمال المتعمد للمرضى والمصابين بفعل التعذيب الشديد، وطبقا لتقارير مصورة فإن 11 ألفا تم توثيق موتهم تحت التعذيب في أحد مراكز الأمن التابعة لنظام بشار الأسد.
حالات الاعتقال في سوريا في مجرياتها ونتائجها، واحدة من أكثر الحالات وحشية ربما في التاريخ الإنساني، ليس بسبب أرقامها الكبيرة فقط، ولا فيما يعقبها من عمليات تعذيب تخلط ما بين الطرق القديمة شديدة الهمجية وأدوات التعذيب بتقنياتها الأكثر ضررا بالإنسان، بل بنتائجها وما تتركه على المعتقلين أولا من آثار قد يكون الموت أرحمها، وبما تتركه من حسرة على أسر المعتقلين وأهلهم وأصدقائهم وعلى المجتمع بصورة عامة، وكلها تفاصيل تجعل من حالات الاعتقال سببا في ضرورة وضع حد لنظام الأسد، واستبدال نظام من طبيعة إنسانية مختلفة يوقف هذا الجور الفظيع الواقع على السوريين به.
الشرق الأوسط