رفيق شامي ورواية “الثورات”/ عارف حمزة
كباقي الكتّاب السورييّن المُقيمين في خارج سوريّة منذ ما قبل اندلاع الأحداث في سوريّة، والذين لهم حضور ثقافيّ أو أدبيّ، تعرّض الكاتب السوريّ، المُقيم في ألمانيا منذ عام 1971، رفيق شامي لمُساءلة كبيرة أيضاً حول موقفه من الذي يجري في سوريّة منذ عام 2011 وحتى الآن، خاصّة أنّ بعض الكتاب السورييّن، المعروفين بولائهم للثورة السوريّة، يعتبرون موقف الشامي ضبابيّاً وغير واضح. ويشعرون بخسارة صوت مثل صوت الشامي المعروف في الإعلام الغربيّ؛ بعد ترجمة أعماله لأكثر من عشرين لغة أجنبيّة، ونيله العديد من الجوائز، وبأنّ أبواب الصحف ووسائل الإعلام الأخرى مفتوحة على مصراعيها أمامه.
الانتفاضة شيء والثورة شيء آخر
يأخذ الكثيرون على شامي قوله، في حوار أجرته معه مها شهية لصالح موقع “هافينغتون بوست عربي” بتاريخ 7 أيلول من عام 2016، في توصيف ما يجري في سوريّة، بعد 5 سنوات من انطلاقها تقريباً، بأنّها انتفاضة وليست ثورة، وبرّر ذلك بقوله: “نحن العرب صرنا محترفي كلام. لا نعجز عن الابتكار لتمويه هزائمنا. صمود، تحدٍّ، مقاومة، ممانعة، مقاطعة. نسمي الانقلابات ثورة، والسفاحين الذين ركعوا أمام دولة صغيرة كإسرائيل نسميهم أبطالاً. هناك عدد ضئيل جداً على مستوى العالم بأسره من الثورات؛ منها مثلا الثورة الفرنسية والروسية والصينية والكوبية”.
ويوضّح الشامي فكرته حول الثورات بقوله: “الثورات تتميز بتنظيم مركزي متين لعدد قليل من المحترفين الأذكياء والمغامرين الذين يرون أن لحظة تاريخية ما صارت مناسبة، فينقضون بتنظيم شديد على نظام مهترئ. وقد ينجحون أو يفشلون. هذا التنظيم شديد الانضباط (الحزب، الفصيل، القوة المسلحة.. إلخ) إذا تم له النجاح يحول هذه الفئة إلى نخبة متعالية تقوّض أهداف الثورة وتقلبها إلى عكسها، وتحول الحلم بالحرية والعدالة إلى كابوس ديكتاتورية فتية قوية ومنظمة. هكذا انتهت الثورة الفرنسية وهكذا أدت تضحيات الشعب الروسي والصيني إلى ماوتسي تونغ وستالين، الذي أتى من أصول متواضعة ليصبح إلها يصلي له ملايين الفقراء. وهكذا كوبا أيضاً. الثورة هناك أطاحت بالديكتاتور المهترئ باتيستا الذي حول كوبا لماخور للأميركيين. وما الذي أنتجته الثورة؟ أنتجت نظاماً حديدياً عديم الرحمة تسيطر عليه عائلة كاسترو الغنية. وهل هي مصادفة أن عائلة كاسترو وقفت حتى آخر يوم مع صدام حسين وتقف اليوم مع الأسد؟”.
ويُكمل الشامي شرحه بالقول: “أما الانتفاضة فهي صرخة تاريخية عفوية ضد ظلم طاغية سواء كان مستعمراً أم من ذات الوطن. وهي على الأغلب صادقة في بدايتها وتوجهها نحو الكرامة والحرية والديمقراطية والاستقلال والعدالة..إلخ، لكن موطن ضعفها أنها غير منظمة ولا تحمل مشروعاً واضحاً لما بعد سقوط الديكتاتور. والمثال هنا الانتفاضات العربية”.
روايات الثورات سخيفة
في ذات الحوار، بمناسبة صدور روايته “صوفيا”، والتي حقّقت مبيعات هائلة في ألمانيا، والتي تحضر فيها السياسة وقضايا اللجوء، يصف الشامي روايات الثورات بأنّها روايات سخيفة ولا يُريد قراءتها، ويُفهم من ذلك ابتعاده عن قراءة كلّ رواية سوريّة تتحدّث عن ذلك. يقول الشامي: “.. رفضت كل دعوات الأصدقاء لكتابة رواية الثورة السورية، فروايات الثورات سخيفة على الأغلب، وتمجد الأبطال كآلهة، وتحقر الأعداء بشكل يقارب العنصرية. فلم أقرأ رواية ثورة واحدة مقنعة. الثورات ساعة الصحافيين وليس الروائيين، فالروائي يحتاج لوقت لا تمهله الثورة إياه”.
الديكتاتور والطاغية
على طول الخط كان الشامي يرى الأسد الأب طاغية؛ حيث يراه ديكتاتوراً و”كائناً متوحّشاً افترس الأخضر واليابس”. وينسى أولئك الذين يُهاجمون الشامي أنّه ينعت الأسد الإبن كذلك بنفس الصفات؛ ففي أيلول/سبتمبر من العام الماضي حضرتُ شخصياً ترويجه وتوقيعه لروايته المذكورة “صوفيا”، حيث رحب بالسوريين القلائل الحاضرين أمام الجمهور الألماني، وقال بأنّ هؤلاء خرجوا من سوريّة بسبب ديكتاتوريّة نظام الأسد القمعيّ لكل نفس يُنادي بالحريّة. وهذا ما نجده كذلك في حوار أسبق مع الشامي، أجرته معه دويتشه فيليه بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 2015، حيث قال الشامي: “ما زلت واثقاً من أن الحرية والديمقراطية هي أول الخطوات التي يحتاجها شعبنا لبناء مستقبله. لا يوجد ثمة مستقبل تحت سلطة نظام قاتل أو (داعش) أو أي اتجاه سلفي. التعددية هي أساس الديمقراطية. يغمرني حزن شديد عبر متابعة الأحداث وما يحز بقلبي هم الأطفال، فهم بالتأكيد الخاسرون في كل حرب. لقد قضى النظام وبمساندة العالم على ثورة سلمية بشّرت بالخير وهذه الثورة نتجت عن أزمة مميتة لهذا الوطن، وكانت مخرجها التاريخي الصحيح”.
ويُكمل رؤيته ورأيه عن التدخل الخارجيّ في سوريّة، وإمعان الجيش السوريّ في قتل الناس، بقوله: “نُكِسَت الثورة بالدم وتحت أبصار العالم. للأسف ظل الجيش خانعاً للنظام ولم يخرج عن ذلك إلا بعض أفراد. وتحول الصراع في غياب قيادة حكيمة للمعارضة شيئاً فشيئاً إلى صراع مسلح، وليس إلى حرب أهلية كما يحلو للبعض تسميته. إنه صراع بين قوى تغولت ومُدَّت بمساعدات سخية ليصبحوا أداتها لتهديم البلد. من يُرِدْ إقناعي بأن لبنان يتجرأ على السماح لحزب الله باجتياز حدوده وقتل سوريين دون موافقة الولايات المتحدة وفرنسا، هو طفل سياسي رضيع”.
ثمّ يُحدّد الشامي المسؤول الأوّل عن الذي يجري في سوريّة بقوله: “النظام بمخابراته الدموية هو المسؤول أولاً وأخيراً عن هذا التطور. ونحن الآن أمام مزيج رهيب لكل ما سبق وصفه. الشعب السوري فقط يقف عاجزاً عن الحراك، هذا الشعب الذي بدأ بشجاعة لا مثيل لها، بات اليوم مشلول القوة، جائعاً، مهدداً”.
سامي وحلم الحريّة
نفهم هذا الالتباس الكبير حول الروائي السوري الشهير رفيق شامي، المولود باسم سهيل فاضل، وهو اسمه الحقيقيّ، في دمشق يوم 23 حزيران/يونيو 1946، من خلال روايته الجديدة “سامي وحلم الحريّة” الصادرة حديثاً في شهر أغسطس/آب الماضي عن دار بيلتز الألمانيّة؛ حيث كتب الشامي رسالة يتم توزيعها مع الرواية ذاتها، ويحكي للقراء سبب عدم كتابته سابقاً لرواية، أو روايات، عن الثورات العربيّة، أو عن الثورة السوريّة بالتحديد، كونه هرب من الديكتاتوريّة وانقلاب الأسد في عام 1970، وكتابته ونشره قبل ذلك وهو في دمشق باسم مستعار. يكتب الشامي في أول سطر من تلك الرسالة أنّه لا يكتب عن الثورات، وله رأيه الخاص في ذلك: “أنا لا أكتب روايةً عن الثورات! وهذا ما خيّب آمال بعض الأصدقاء، فجميع هذه الروايات مملة بالنسبة لي، فالأبطال نبلاءٌ ومُؤثرون، وأعداؤهم جبناء وفاسدون”. ثمّ يُكمل الشامي بأنه “ما يثيرُ اهتمامي دائماً هُمُ الناس البسطاء، بكل ما لديهم من أخطاء وعوَز، والفقراءُ وما يمتلكون من سخاء وفكاهة رغم أكوام المشكلات التي يعانونها، والذين لا يفقدون إنسانيتهم أبدا وبذلك هم قادرون على الحب دائماً”.
وضوح الرؤية
هي المرّة الأولى التي يقوم بها الشامي شخصيّاً بتوضيح الالتباس الذي يُلصقه به الآخرون، سواء من زملائه الكتّاب السورييّن أو من القرّاء السورييّن الذين يُطالبونه بموقف واضح من الأحداث التي دمّرت البلاد، وجعلت أعداداً هائلة منهم يسكنون في الدولة التي يسكن فيها. يقول الشامي في رسالته تلك: “وددتُ أنْ أنتظر حتى تتضح لي صور وخلفيات الأحداث في سورية، فظهر لي حينها (شريف) كهدية من السماء. فأخبرني اللاجئ الشاب كيف استطاع الحب أن ينقذه، فأصغيتُ السمع له لثلاثة أشهر. فالذي عاناه شريف في حياته يمكن أن تُملأ به رفوف من الكتب، ولكنه قصّ عليّ باختصار لأنه كان على عجلة من أمره”.
ندوب التعذيب والحب
ننشر هنا الترجمة العربيّة الكاملة، من ترجمة الصديق عبيد اليوسف، للرسالة التي كتبها رفيق شامي بالألمانيّة، وهو الذي يكتب رواياته بالألمانيّة مباشرة، حيث يشرح ظروف الكتابة وشخصيّات الرواية التي ستتحدّث للمرّة الأولى عن أجزاء مهمة مما يجري في سوريّة من قتل وتدمير وتهجير … وكذلك عن الحبّ الذي يجعل “سامي” ينجو، وتمّحي ندبات التعذيب تلك بسبب ندبة الحبّ.
“أنا لا أكتب روايةً عن الثورات. وهذا ما خيّب آمال بعض الأصدقاء، فجميع هذه الروايات مملة بالنسبة لي، فالأبطال نبلاءٌ ومُؤثرون، وأعداؤهم جبناء وفاسدون.
ما يثيرُ اهتمامي دائماً هُمُ الناس البسطاء، بكل ما لديهم من أخطاء وعوَز، والفقراءُ وما يمتلكون من سخاء وفكاهة رغم أكوام المشكلات التي يعانونها، والذين لا يفقدون إنسانيتهم أبدا وبذلك هم قادرون على الحب دائماً.
ولذلك وددتُ أنْ أنتظر حتى تتضح لي صور وخلفيات الأحداث في سورية، فظهر لي حينها (شريف) كهدية من السماء. فأخبرني اللاجئ الشاب كيف استطاع الحب أن ينقذه، فأصغيتُ السمع له لثلاثة أشهر. فالذي عاناه شريف في حياته يمكن أن تُملأ به رفوف من الكتب، ولكنه قصّ عليّ باختصار لأنه كان على عجلة من أمره.
في محور أحداث قصصه يرِدُ ذِكْرُ صديقه المقرّب (سامي)، شابٌ شجاعٌ مدهش، يخاطر بحياته في سبيل نيل رضا حبيبته (جوزفين). ويحملُ سامي في جسده العديد من الندبات، وكل ندبة تحتفظ بقصة معينة، أفضل مما يمكن لأي كمبيوتر حفظه.
ويعرفُ كل من يصغي إليه أنّ كلّ ندبة هي إفصاح عن الحب، وحتى الندبة التي تسمى (حلوى السفرجل) ما هيَ إلا برهان على قوة هذا الحب.
هذه الرواية هي مغامرة من ألفها إلى يائها، فأبطالها ليسوا بالملائكة ولا هُمْ بأنصاف الآلهة المعصومين، ولكنهم شبّان بسطاء حالمون بالحرية. وكما أخبر شريف، فليس صدفة أن من بدأ الاحتجاجات كانوا أطفالاً.
وما هو مدهش بشكل خاص هو ساعي البريد (إيليا) الذي يرافق هذين الشابين، رجل عجوز فقير لكنه حكيم، والذي يصف مهنته على النحو التالي: (أطرق الباب، فتظهر أمامي خشبة مسرح، هو إما باب إلى الجحيم أو نافذة إلى الجنة. إنها أشبه بمسلسل مشوّق بدون نهاية… وفي بعض الأحيان يُعكّر هذا الصفو بواسطة حذاء طائر أو كلب متوحش يأمل أن تكون ساقي وجبة طعام فاخرة له).
وعن مثل هذه الحكايات كنت دائماً أبحث”…رفيق شامي
ضفة ثالثة