رقة داعش!/ ميشيل كيلو
كان الظن يقود السوريات والسوريين إلى الايمان بان ثورتهم ستأخذهم حتما إلى حرية المواطنة وديمقراطية الدولة والمحتمع . بهذا الايمان قامت الثورة السورية وقدمت ما نعرفه جميعا من تضحيات تجل عن الوصف .
لكن هذا الايمان تزعزع جزئيا بعد ظهور السلاح بايدي الثوار ، ردا على عنف بلا حدود مارسه النظام ضد شعبهم ،ارغمهم على حمل السلاح دفاعا عن وجوده المهدد باكثر الصور خطورة وجدية . ولان السوري العادي لم يكن يريد ثورة عنيفة ، فقد تمسك بسلمية ثورته طيلة أشهر سبعة ، قبل ان ترغمه السلطة على حمل السلاح وتقنعه بالقتل اليومي أنها لن تترك له الفرصة لاحراز انتصار سلمي ، وتتخذ كل ما بوسعها من تدابير وترتيبات لتبيده عن بكرة ابيه ، وتهدم سورية فوق رأس كل فرد منه : ذكرا كان ام انثى .
وبما أن المعارضة الحزبية لم تمد الثورة بخطة سياسية قادرة على تلمس الواقع وتحديد مساره التقريبي وترجمة مطالب الشعب المشروعة والمحقة ، فقد غام التمييز الضروري بين حمل السلاح والعسكرة ، وبين المقاومة كفعل مشروع تحتمه جرائم النظام وعسكرة الحراك الشعبي السلمي الواسع ، الذي إن غير طابعه انحرف عن مقاصده النبيلة وذهب إلى حيث لا يريد الثائرون المدنيون له ان يذهب: إلى ارتباط مصيرهم بالسلاح وحلول حملته محل المناضلين السلميين والمتظاهرين العزل ، الاقوياء بقيم الحرية والعدالة والمساواة ، التي يجب ان توجه البندقية، كي لا تسمح لها بالخروج عن مضامينها النظرية والعملية ، الوطنية والانسانية .
حمل القوم السلاح ، خاصة بعد ان رفض استخدامه في إطار جيش السلطة ضباط وصف ضباط وجنود انشقوا عنه كي لا يقتلوا مواطناتهم ومواطنينهم المسالمين ، ويقصروا أمد الصراع من خلال استعمال سلاحهم لاسقاط النظام . وعلى الرغم من أن انشقاق هؤلاء عن جيش السلطة تزامن مع بداية انزياح الحراك السلمي عن هدف الحرية ، نتيجة لوقوع المجلس الوطني بين ايدي قوى مذهبية ، فإن مسألة العسكرة بما هي بديل للمقاومة لم تطرح بصورة جدية وواضحة وعلى نطاق واسع ، وبقي معارضوها متفرقين وقليلي التأثير ، لذلك تداخل صعودها مع تراجع مطلب الحرية كهدف جامع للسوريين ، ونشأ الخط الذي ما لبث أن ازاح سواه ، وتجلى في عبادة سلاح خدمت مذهبة صراع اراده الشعب مدنيا وديمقراطيا ، وفتحت الباب واسعا امام تشكل وبروز قوى مذهبية جهادية ومتطرفة ، ازاحت تدريجيا القوى السياسية والحزبية التي خالت ان السلاح لن ينتج غير البديل الديمقراطي . وحين تخلت السلطة عن الرقة ، لم يستلمها التيار المدني الشعبي ، بل سقطت في ايدي “احرار الشام” ، الذين اخلوا الساح تدريجيا لتنظيم “جبهة النصرة “، وعندما اعلن عن انضمامها إلى القاعدة ، ظهرت “داعش “، ” الدولة الاسلامية في العراق والشام ” ، التي بدأت تتوسع في المدينة ، ثم في ريفها ، واخيرا في الشمال الشرقي من سورية وصولا إلى ريف اللاذقية ومشارف ادلب ، واحتلت اخيرا مواقع تجعل بالامكان القول : إن سوريا تنقسم اليوم إلى قطاعين: شمالي بيد داعش وجنوبي بيد السلطة ، وبينهما بؤر متفرقة، محاصرة ومجوعة ، يقاوم الجيش الحر فيها من يقاتلونه عن شماله وجنوبه : من داعش الى السلطة ، ويتهالك أمامهما اكثر فأكثر ، مع ما يعنيه ذلك من نتائج مرعبة بالنسبة إلى تنظيمات الحراك السلمي ، التي تكاد تختفي اليوم ، مفسحة المجال لصراع من نمط مغاير تماما لصراع السوريات والسوريين السلمي من اجل الحرية ، الذي عرفته سوريا خلال اشهر حراكها الأولى : صراع بديل حده الأول النظام والثاني الأصولية .
لم يتوقف السوريون عموما عند ما حدث في الرقة ولم يفكروا في معانيه أو يتدارسوا اسبابه ونتائجه ، ويحددوا مواقف عملية منه ومن مسار ثورتهم الاصلية . وظل قطاع واسع منهم يرى في الديمقراطية نتاجا حتميا للثورة لا يسعها انتاجه غيره . لذلك ، اعتبر ما جرى في الرقة ثورة بكل معنى الكلمة . من جانب آخر ، اعتقد قطاع كبير من الرأي العام المناضل أن اسقاط النظام هو معنى الثورة ومدخل الديمقراطية ، وبما أنه سقط في الرقة فإن الثورة انتصرت هناك ، وإن لبست لبوسا مذهبيا متطرفا وشرعت تطارد الثوار وتسلمهم إلى النظام . لم يبارح كثيرون هذا الوهم الشائع، رغم ما قامت به داعش من هجمات طردت خلالها الجيش الحر من مناطق كان قد حررها، ومارسته من اغتيالات استهدفت ضباطه ، وتمسك بعض من استهدفتهم الهجمات الداعشية باولوية التناقض مع النظام ، وتجاهلوا حقيقة ان مذهبة الثورة والقضاء على الجيش الحر يبدل طابع الصراع في سوريا ، ويقلبه إلى ثورة مضادة بدأت طلائعها تتخلق في الرقة ، وتمتد منها إلى الشرق والغرب والجنوب، وتهدد مناطق الثورة الديمقراطية المحاصرة والمعزولة ، الموجودة اليوم في يد الجيش الحر ، وتوالي الخيار الديمقراطي / غير مذهبي .
من نافل القول الزعم بأن الثورة تطحن اليوم بين حجري رحى يعتقد البعض ان عملهما متكامل ، ويجزم البعض الآخر انه يصدر عن مركز واحد . ومن نافل القول أيضا الادعاء بأن الديمقراطية هي المآل الحتمي للحراك السوري في حاله الراهنة . ومن المرعب في الوقت نفسه أن يكون نظام الرقة الذي اقامته داعش واخواتها بديل نظام ضحى السوريون من أجله هو نظام الحرية والعدالة والمساواة . من المرعب ايضا ان لا يقوم احد ببذل اي جهد جدي لاستخلاص العبر من نموذج الرقة وما نجم عنه ، ولا يتخذ الخطوات اللازمة لدحره ولمنع تمدده إلى بقية الارض السورية ، انطلاقا من استعادة رهانات الثورة الأولى ، وبناء موازين قوى لم توجد إلى اليوم : تجعل الحرية ترث النظام والديمراطية تنهض على انقاضه ، ليكون هناك من يقول ذات يوم : لقد قام شعب سورية بثورة لبت مطالبه السامية ، التي انتصرت بما قدمه في سبيلها من تضحيات تليق بطلاب الحرية الحقيقيين !.
المدن