صفحات الثقافة

رقة فرج بيرقدار لم تُـخفتها وحشية السجن


غسان علم الدين

لم يعد في إمكان القارئ مقاربة أعمال الشاعر فرج بيرقدار من خارج التجربة الوحشية التي فرضت عليه في السجون السورية. هو الشاعر ذو الصوت الذائب في عذوبته، الجارح في استرسالات جعلت متلقيه صنواً له، إلى درجة التماهي مع نصه الشعري المشغول بالسعي إلى بلوغ الحرية هرباً من جحيم سلطة جبرية، تتجاور في خستها تلك التي أعدمت لوركا وباتريس لومومبا ومارتن لوثر كينغ وغيرهم. إنه شغل شعري في قلب الشعرية، في نواتها، بل في صميم حياتها. اهتمام يواشج جوانية خريطة بيانية لأسماء كثيرة وكبيرة في المجال الشعري، منها ضارب في القِدم، وبعض آخر حديث لا داعي هنا لاستعادته.

يفتح الشاعر في ديوانه الجديد «تشبه ورداً رجيماً» (دار الغاوون) «جهة الشرق» التي لم تشرق سوى على ممالك وقصور كأنها لا تقام إلا لتُهدم على ملوك وجبارين يتوهمون القدرة الأبدية. ولكن، ووفق بيرقدار، تبدو شعوب هؤلاء وكأنها تستعذب الاستعباد وتعيد ولاءها لهم ببكائها على أنقاضهم وفوق أكوام رمادهم ونفاياتهم.

ثمة لغة استبطانية حيناً، وجهارية حيناً آخر، تتراجع فيها نبرات من مثل الانبهار بالحياة العادية والشغف بتفاصيل العيش التي تفرض نفسها على الإنسان الحديث. إلا أن غالبية ما يفصح عنه ويتعرض له ويتناوله من موضوعات، لا تغيب عنه هذه الحياة المأمولة. إذ، ووفق رولان بارت: «كل ما نحاول التعرض له في النص سلبياً كان أم إيجابياً هو ما نتوخاه له لتستقيم حركته ومضمونه». نصوص بيرقدار، على رقتها وانجراحات وجوهها، تشهد سعة هائلة وكذلك مكراً خالصاً تنصبه تراكيبها البسيطة التي تصطاد ما في إثرها، آخذة إياه إلى أبعد صدفة.

في قصيدة «الطائر» المهداة إلى الشاعر محمود درويش نشعر بأن منفى هذا الأخير الطوعي أم القسري، لا تنفصل مكامنه ومنعطفاته ومحطات إخفاقاته المتعددة عن مرويات الحزن المطبوع بالظلم والتنكيل والبطش الذي واجهه الشاعر في تجربة سجنه المريرة. لعل البحث عن نفسه الذي يقاسيه ويتكبده في نفسه إياها، في جوانية يحاول منع انهيارها وتآكلها كما تتآكل قصعة جوزة الهند، هو الذي يوفر له مساحة تقيه ويحمي بها نفسه حين تحاول الإجهاز عليها اليرقات السامة. البحث هو نفسه الذي مدّه بالحب والأمل والصبر، وهو أيضاً الذي جعل مبتداه منتهاه: «شجر أدنى من الحلم قليلاً/ شجر أدنى من المعنى…/ من أول اليأس».

لا ينتهي من اصطحابك إلى حزن، حتى يدخلك في حزن آخر أشد مضاضة. إلا أن التماعات تحتوي عليها قصائده سرعان ما تبدد وحشة الصور وغرائبية المشاهد والمقاصد التي يسعى إلى وضعها أمامك وأنت تسعى في أثره المتناثر المشظى في ظلمات السجون. صور تنفجر مثل كشافات ضوئية تنير الدروب التي حوّلها جلادوه إلى أنفاق لا يرى الواحد فيها بياض روحه، الدروب التي صارت شوكتها وردتها، والوردة صارت هي الشوكة. وعلى رغم الجو القاتم الحزين المسيطر على قصائد المجموعة يتجلى فرح كامن في روح الشاعر يدعونا إلى تعقبه، على رغم يقيننا بأننا سنحبط معه لا محالة: «أحلامي بيضاء/ وكم يؤلمني أن أكتبها في آخر الليل بالحبر الأسود».

لا يمكن تجاهل الحزن والنقمة المسيطرين على الشعرية التي حيكت بها النصوص، ولكن – من دون شك – ثمة عبثية الشاعر وغبطة أبالسته لا تسمحان بانتهاك مكريته القابضة على كل مفصل من مفاصل جسد النصوص، على كل لفتة، وفي كل نظرة، حتى وفي كل تنهيدة. الحزن الذي أراد له جلاده أن يكون ملاذاً وفضاء أخيراً لم ينتهِ هذا الأخير إليه بل حوّله إلى حقول فيزيائية، يصنّف ويفكك على أرضها مواد هذا الجلاد، ومن أي طينة قامت وانبعثت منها جبلته، بل إلى أرض من كيمياء لا نوع ولا جنس فيها سوى الرماد، وهي أعلى مرامي كل شاعر، بل كل مبدع إذا ما قرر الانتقام لنفسه ولأبناء طينته.

تكتظ أسئلة بيرقدار وتحتشد تعريفات آلامه وأوصافها، وتختلط رسائله الموجهة إلى نفسه، إلى جلاده، إلى أمه، وحتى إلى ديدنه، وتشكّل حزمة من سيوف لا تشهر إلا في وجوه الظالمين. سيوف الكلام الذي قيل عن قوته ومدى فاعليته الكثير، فكيف بنا والحال مع الشعر، الذي هو معين أوحد يتقنه؟

يشغلك بيرقدار، يشدك إليه مفتوناً بثنائيات أساليب تعبيره، بل ربما أكثر من ذلك يدكّ بين يديك جدر المدارس والأنماط الكتابية. فمرة ينشد مؤطراً، ومرة تراه متخففاً متفلتاً إلا من هم الكلمة وشرقطة حضورها، الذي تكاد تحسه وسط زحام لواعجه واندياحاته وكأنه يترنح أو ربما أفلت ولم يعد يطيق الأحزان وحداءاتها المدرارة. لكنه هكذا وبخفة الشاطر المتمرّس يعاود امتطاء صهوة جواده كالفارس البارع ذي البأس الشديد. الشاعر الذي قال بالنقمة والثورة والرفض سلاماً داخلياً كثيراً، مخاطباً الأم التي هي قدس الابن وسر أسراره الدفين: «العاشق أم هذا الطغيان/ أيهما أقوى يا أماه/ تصمت أمي/ تنأى / تمسح بضع سماوات بالحزن/ وتدنو/ ثم تضيف يا ولدي لا تسألني/ حسبك أنت/ وأنت العاشق».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى