صفحات المستقبل

رقصنا القاتل/ مضر حمكو

 

 

يخيّل إلي وأنا أعود بذاكرتي، حين أستطيع إلى ذلك سبيلا، حين يتاح لي أن أتخفف من حمولتي البصرية والذهنية والنفسية، من أهوال العالم وثقله المشهدي والوقائعي، الماضي والحاضر، الراهن والمستقبل، ويمر الزمن خلال روحي ضيفا أو عابر سبيل له ملمح الطيف.

وأنتقل بوجودي من المشخص إلى المجرد، من الجزئي إلى الكلي، من الواقعي إلى المتخيل وتبدأ رحلة العودة بالزمن، حينها أقول: أهوج ومختل كل من يرى أن التاريخ حركة نحو الأمام، بل هو رقصة حدثت في الخلف، في الماضي، لماذا لا يكون كذلك، أو في التقدير الأقل لماذا لا يكون الماضي هو أجمل التاريخ؟

يخيّل إليّ وأنا أعود بالزمن نحو ثلاث سنوات خلت وما قبلها، أن السوريين كلهم قد قرأوا “زوربا اليوناني” الرواية، وقد أحبو زوربا البطل واستبطنوه، كأنهم كانوا يدخرونه ليومهم الأجمل، يوم سيصطفون أَنساقاً، تملأ الساحات والشوارع ليمارسوا الاحتجاج والثورة، ليقترفوا الثورة على شكل (دبكة) أي فن، والفن على شكل احتجاج وثورة، ويقولون إننا متورطون بالجمال، بالحب والغناء والموسيقا، وها نحن نستثمر منجزنا الحضاري ونكثف استثمارنا هذا بالذهاب مذهباً من طينة الفن، إلى الكرامة والعدل والحرية.

نريد أن نرقص كي يزول الظلم والطغيان والقهر، كي تتفكك ممالك الرعب في بلادنا، نريد أن نذهب بحب إلى ذواتنا المنهوبة، ككل الكرامات والحقوق والثروات، نريد أن نقول بكل أشكال التعبير: ارحلوا يا حراس الخراب، أو كما يقول السوريون (طلعنا عالحرية).

ما أجمل وقع تلك الأغنية التي ترددها فتاة سورية (حانن للحرية حانن)، وما أجمل مرورها في الروح، معها يصير الزمن متخيّلا وتكسر الروح إيقاع الذات والموضوع، لتصير بالصوت والغناء والموسيقا ذاتاً وموضوعاً، وتعاود الانطباق مع ذاتها وقد صار العالم بكل ما فيه ملك يديها، صار كونا للرقص، رقصا للكون، أضحى العالم رقصة.

كيف تأتّى للسوريين أن يقدموا نموذجهم الثوري للعالم بوصفه نموذجا للرقص والفرح ومحبة الذات، حينما تظاهروا من أجل الثورة والتغيير أعادوا اللون إلى جدران البلاد عبر الرسم والخط، وملأوا الأزقة والحواري بالأناشيد والأغنيات، هم قالوا أنهم شعب متورط بالجمال والخيال، لكن المجرم رد عليهم باستئصال حنجرة بلبلهم (القاشوش)!

خلال الليل ينتشر السوريون لتأمين المواد اللازمة للوحاتهم ولافتاتهم من قماش وألوان، ثم يختارون عباراتهم وشعاراتهم بأناقة عريس يريد الدخول إلى عروسه (الحرية).

يخرج البخاخون إلى ليل المدينة كي يلونوا الجدران، فتأتي طيور الظلام في الصباح لتمسح ما خطه الرجل البخاخ.

في النهار وبعد أن يتموا صلواتهم أو قبل ذلك، يعدّون أجسادهم لرقص طويل يفرش النهار بضوء من فرح ويغسل سكون العالم، لكن المجرمين يغسلون الرقص برصاصة أو قذيفة أو شيطان رجيم.

في الماضي السحيق حوّل الأجداد الصرخة والإشارة والصوت إلى علامة لغوية، إلى كلمة وقدموا للبشرية أبجديتهم لتخطو على حروفها طفولة الحضارة خطوة على دروب التاريخ.

وفي الأمس القريب حاول الأحفاد أن يقدموا درسا جديدا في أنسنة الثورات، بالرقص والحب والغناء، لكن البشرية رشقتهم بالدم والفناء، كما رشق الإسرائيلي الطفل الفلسطيني بالنار.

كم يتشابه أحفاد الكنعانيين، فهم كما أجدادهم يحتفون بالحياة حتى وهم يحتجون على الموت المادي والرمزي، يبجلون الوجود بالرقص، (بالدبكة)، بالأهازيج، يقولون نحن نحوّل العالم ليصير أسطورتنا.

بالأمس القريب، في الاحتجاجات على الممارسات الإسرائيلية كان الشاب الفلسطيني يرمي حجره على المحتل ثم يعود ليمارس رقصته الشعبية، هو يقول ببساطة إن هذه هي أسطورتي، أنا أرى العالم بوصفه رقصة، أهزوجة، وأنتم ترونه بحجم رصاصة، فتباً لما ترون وتفعلون.

في يوم من أيام التظاهرات الأولى، تجمع المئات من شباب مدينتي في أحد أحيائها، وكعادتهم حملوا ما تيسر من أغانيهم وأعدوا العدة للرقص وبدأوا يوما جديدا من أيام عرسهم الثوري وبعد شوط من الفرح كان لا بد من إتمام الطقس، حيث يتعين على المتظاهرين إسقاط أحد أكبر أصنام المدينة، هكذا تقدموا بالغناء والتكبير واعتلى بعضهم صهوة الصنم، وبدأ ينادي تقدموا (الله أكبر.. حرية)، أخذ عناصر الأمن المدججون بالموت ينهمرون كالغبار، بدا الموت في هذه اللحظة وكأنه لعبة في حضرة العروس (الحرية)، كأن فرسانا شرعوا يتسابقون في عرس القبيلة، حوصر المتظاهرون بالرصاص من كل الجهات وصعد بعضهم نحو السماء.

كأن الجموع كانت تردد مع درويش (أيها المارون بين الكلمات العابرة، اجمعوا أسماءكم وانصرفوا.. منكم السيف ومنا لحمنا، خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا، آن أن تنصرفوا).

حين أعود بذاكرتي إلى ذلك المشهد، أستمع صوت العالم يقول لنا: نحن جرفكم العالي يا معشر البطاريق، تهيأوا ليكون رقصكم الأول هو الأخير، تهيأوا لرقصكم القاتل.

(سورية)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى