صفحات العالم

رهائن الصراعات الدولية


سليمان تقي الدين

لا يسلّم الغرب بنتائج جولة واحدة خسرها مع روسيا والصين. هناك أكثر من مواجهة سياسية حصلت في مطلع الألفية الثالثة وجد الغرب بدائل لا تقوده إلى الإقرار بالتعددية القطبية. حتى الآن لم تحسم مسألة النظام المالي العالمي ومرجعيته الجديدة برغم الأزمة العارمة. لم تحسم أيضاً مسألة الانتشار الأمني الأميركي عبر القواعد والدروع الصاروخية التي بدأت من بولندا ثم جورجيا وانتهت في تركيا. لا يذهب الغرب إلى الاصطدام العسكري ولا يتخلّى في الوقت نفسه عن استثمار الانكفاء الروسي السابق وتحوّل معظم دول العالم الى مناطق نفوذ سياسي واقتصادي غربي والخروج من منطق الحرب الباردة والمعسكرات السابقة.

في الشرق الأوسط يواجه الغرب محاولة إيران فرض شراكتها القوية في النظام الإقليمي وهي تستفيد من ظهيرها الروسي الصيني وتقاطع مصالحها مع هاتين الدولتين. يدرك الغرب بعد الحرب والاحتلال المباشر لأفغانستان والعراق أن النجاح العسكري ليس شرطاً كافياً للنجاح السياسي والاقتصادي. فشلت أميركا في جعل أفغانستان والعراق قاعدتين عسكريتين آمنتين لإحكام السيطرة في وسط آسيا. لكنها استطاعت ان تحوّل الخليج العربي كله إلى نظام أمني لها وعززت من دور تركيا العسكري وأغرتها بدور محدود في الشراكة ما قد يزيد أهميتها في المواجهة المقبلة. لم ينجح المعسكر الغربي في أن يجعل الأزمة الوطنية السورية مطيّة لاحتواء سوريا ووضع اليد عليها. لكن من المكابرة ومن الخفّة عدم رؤية ما أنجزه الغرب على صعيد تجويف الموقع السوري، حيث لا يستطيع أي دعم دولي مقابل أن يعالجه. في حساب الجغرافيا خرج الأميركيون عسكرياً من العراق بعد تدميره ونهبه وتفكيك دولته حاصدين اتفاقات تضمن جزءاً مهماً من مصالحهم الاقتصادية والأمنية. لكن بذريعة العراق وبذريعة الدور الإيراني استطاعوا أن يحولوا الخليج العربي إلى محميات ويقيموا فيه نظام انتداب أمنياً وان يعتصروا ثرواته وأن يستخدموه قوة تدخل سياسي ومالي وعسكري أحياناً لكي يغيّروا معطيات النظام العربي كله. تعطل الدور العربي الآن من مصر إلى شمالي إفريقيا في ظل الأوضاع الانتقالية، فشكل الخليج وتركيا جبهة واحدة تتولى تصفية الحساب مع سوريا وإيران. في هذا التوازن الإقليمي الجديد ليست الأولوية للتصادم العسكري بل لإنتاج التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية. هكذا تتم المواجهة الآن على أرض المحور السوري الإيراني وداخل مكوناته ويتم استنزافه بكل ما يعتبر عناصر قوته. الشعب في سوريا يريد في الحد الأدنى تغييراً وإصلاحاً سياسياً واقتصادياً وحريات وديموقراطية وشراكة. والشعب في سوريا لم يعد يجد في نظامه مرجعية الأمن والاستقرار ولا إمكان لاستئناف ذاك الدور الإقليمي السابق. سحب الغرب وحلفاؤه العرب من سوريا ما شكل تاريخياً شرعية نظامها. خرجت سوريا من لبنان ولم تعد قادرة على احتوائه. وخرجت قيادة الشعب الفلسطيني من سوريا ومن نفوذ سوريا بمصالحة لجناحي قيادة الشعب الفلسطيني وأعطيت مرجعية القضية لمحور الخليج في مشهد دراماتيكي. وسقطت شرعية النظام الأمنية في الداخل بوصفه قوة الاستقرار وتهشّمت صورة الدولة المدنية السورية أمام الفوضى الأهلية ونشوء تعددية سياسية واقعية فيها ملامح طائفية واضحة وصريحة. كما أفرزت الأزمة واستجابة النظام لها بالحل الأمني سجلاً حافلاً من هدر الدم والقمع والتصادم مع فئات شعبية واسعة وتكونت صورة عالمية للنظام كقوة منفصلة عن شعبه. أما مضاعفات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فهي إسقاط المناعة الشعبية التي يتم التعامل معها الآن بالمساعدات الإنسانية حيناً وبتمويل انتقالها إلى ممارسة العنف المسلح وإغراءات المناطق العازلة تحت الحماية الخارجية.

هذه وقائع تدعمها قرارات الغرب والمعسكر الإقليمي المرتبط به في إنشاء تحالف ما يسمّى «أصدقاء سوريا» واتخاذ خطوات تبدأ من التدخل لأسباب إنسانية ولا تنتهي عند مشروع حماية المناطق الحدودية وتقديم السلاح لدفاع المحتجين المعارضين عن أرواحهم وممتلكاتهم. هكذا استثمر النظام في سوريا التوازن الدولي وذريعة المواجهة مع الخارج لكي يتورط أكثر ويتوغّل في تعميق أزمته بدلاً من المبادرة إلى حلّها. في مكان ما يصحّ القول: ماذا يفيد سوريا لو ربحت العالم وخسرت نفسها؟ أطلق النظام منذ اللحظة الأولى للأزمة شعار توازي الحسم الأمني مع إجراءات الإصلاح السياسي. في الأمن لم يقصّر أبداً وهو يستدعي العنف بالعنف شبه الأعمى، لكنه جعل من الإصلاح وعوداً مؤجلة لأنه لا يتحدث لغة واحدة مع شعبه في فهم ما هو الإصلاح المطلوب. هناك أزمة تاريخية في سوريا راكمت مشكلات على مشكلات فلا يمكن اختصارها أو فصل عناصر. المسألة الاجتماعية الموروثة عن سياسات اقتصادية مشوّهة في التنمية انتهت إلى انقلاب ليبرالي زاد من حدّتها. المسألة الديموقراطية ببعديها: المشاركة السياسية ووطأة النظام الأمني من جهة، والاختلال الفعلي في مكوّنات السلطة وما يعنيه من امتيازات وحرمانه معطوفاً على إجراءات عمّقت مشاعر الغبن والتهميش والإقصاء من جهة ثانية. هذه المشكلات الداخلية ضاعفت من الشعور بضعف المردود والجدوى من سياسة النظام الخارجية حتى لو ساهمت في إكسابه شرعية عدم التسليم للضغوط ولبعض التحديات الخارجية.

لكن الداخل السوري ليس وحده ما يدفع باتجاه الأزمة. فقد وقع زلزال سياسي في النظام العربي والإقليمي لم يلتقط النظام تردّداته ولا هو عرف كيف يتعامل معه سلباً وإيجاباً. فلا هو ساهم في الانضمام إلى مشهد التغيير العربي الذي يصبّ إيجاباً في إضعاف مواقع الغرب. ولا هو بادر للانفتاح على موجة الإسلام السياسي بكل ما تعنيه لكي يتقي شبهة أنه يتموضع في موقع آخر في الداخل والخارج. هذا المشهد يجعل من المرحلة الجديدة التي أعقبت الفيتو الروسي الصيني ومن نشوء معسكرين دوليين مرحلة حاسمة. فهي قد تضع سوريا وما حولها في دائرة الصراع الدولي على ضعف غير مسبوق في مناعتها الداخلية، أو قد تضع سوريا في بداية طريق تأسيسي لبناء الاستقلال الوطني على نظام شعبي يوائم بين الخيار السياسي الخارجي وبين أشكال فعلية من الديموقراطية. حتى هذه اللحظة الحرجة من «تحرير» و«تطهير» هذه او تلك من المحافظات بالنار، حيث لا إطفائية سياسية جدية، سوريا والمنطقة رهينتا الصراعات الدولية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى