رهانات المرحلة الانتقالية بعد الاستبداد: سوريا مثالاً
نائلة منصور – سوريا
البناء بطيء والتهديم سريع”، هذه المقولة المستقاة من الحس العام (السليم) تكاد تكون هاجسي الحالي، أنا نائلة منصور، امرأة سورية منحدرة من الأقليات الدينية الموجودة في هذا البلد المشرقي المعقد. “السرعة” مفهوم يتضمن الكثير من العنف الرمزي والتنافسية والذكورية وسيطرة القوي على الضعيف. السلاح سريع، أسرع من العقل، والثأر سريع، أسرع من السلم الأهلي ومن بناء المواطنة وترسيخ المساواة والعدل والقانون وإطلاق الحريات العامة وترسيخها كتقليد تراكمي لا يمكن التفريط فيه كمكتسب، وقد يكون بناء المجتمع المدني الحق والاقتصاد المتحرر من هيمنة السلطة ومن المنظومة الريعية، كأحد عتبات الدولة الديموقراطية التشاركية، أبطأ من فرض فكر شمولي جديد. يرتبط الأمر في حالتنا السورية بشعور الاستلاب وعدم القدرة على تملك زمام الحياة، وبأن أقدار الملايين من البشر ومصائرهم صودرت من دون أن يشعروا، وكأن المصادرة تمت سريعاً.
الراصد للمجتمعات ومن بينها مجتمعاتنا في زمننا الحالي، يرى أن أزمة “صبر” كبيرة تسم الأجيال الشابة وانشراط كبير بالسرعة وخصوصاً في العصر الرقمي: صناعة الرأي العام تصل لحظياً إلى الشريحة المستهدفة، فبابا الفاتيكان أصبح يغرد على حسابه على “تويتر” وأضحت تغريدات السياسيين المصريين مثل البرادعي مادة تناقلتها وسائل الإعلام الرسمية عشية الاستفتاء على الدستور. في هذا السياق وفي ظل انفتاح الأجيال الشابة على التجارب الديموقراطية للشعوب الأخرى، يبدو الجميع كأنهم يتعلقون بغلال الدولة الحداثية ومخرجاتها حصراً، يريدون حرق “الخوارزمية” الديموقراطية ومراحلها الطويلة للوصول إلى “الحالة” الديموقراطية. يذكر المفكر المغربي عبد السلام شدادي في مقال له حول تقبل المجتمعات الإسلامية الحداثة والانفتاح جملة لافتة، في ما يأتي ترجمتي لها: “قلائل هم الذين فهموا، حتى أيامنا هذه، أن الحداثة كل لا يتجزأ، وأنه كي نحافظ على الجوهر لا يمكننا أن نتفادى فترة خسارة كلية وإعادة بناء”، ويحيل في هذا الموضوع على مثال اليابان التي تواضعت بعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية وتعلمت عن قرب من المثال الأوروبي في الحداثة حتى تصل إلى ما وصلت إليه. إلا أن أي مراقب علمي وجدّي لا يمكنه أن يقسر هذا الاتجاه اللجوج بالقول “اصبروا، الثورة الفرنسية استمرت مئة عام!”. من المهم اعتبار هذا الانشراط بالسرعة سمة أساسية لعصور ما بعد الحداثة وأنه لا بد سيغير من طبيعة آليات الانتقال الديموقراطي، سلباً أو إيجاباً.
لذلك وبسبب المفارقات الآنفة الذكر لـ”السرعة” سيكون هذا المفهوم ناظماً ضمنياً لمناقشتي الأسئلة المطروحة في الملف: كيف يمكن الشعوب المنتفضة والثائرة أن تتجنب الوقوع في فخاخ ديكتاتوريات بديلة، بخطوات متينة وثابتة (حتى لا أقول سريعة)؟ وكيف يمكن فعل المثقفين أن يكون مؤثراً وناجعاً في مواجهة تسارع الأحداث؟ أما لماذا نتحدث عن المرحلة الانتقالية، فهل لا يزال هناك من يتساءل إن كان النظام الأسدي زائلاً؟ النظام ساقط ونحن في انتظار الإعلان الرسمي لهذا السقوط، وعلى كل إنسان سوري أن يفكر حالياً في ما بعد الأسد.
المساحة المتاحة لي في هذا المنبر وعدم معرفتي العميقة بـ”انطولوجيات” الحركات الإسلامية المعتدلة منها أو المتشددة، المرشحة الأكثر حظاً لإعادة إنتاج استبداد من نوع جديد، يدفعانني إلى تبني بعض الفرضيات، توافق حدسي وخبراتي كمواطنة تعيش في بلد مشرقي، الهوية الإسلامية بارزة فيه، وسأعتبر هذه الفرضيات مسلّمات (ظرفية) دعونا نقول إنها تفيد المحاججة هنا وحسب.
بدءاً، كلنا يعرف ولسنا في حاجة إلى مختصين حول هذه النقطة، أن الإسلام السياسي كان أحد ضحايا الاستبداد السياسي خلال النصف الثاني للقرن الماضي، ومشروعه السياسي بقي افتراضياً دون الدخول إلى حقل المشاركة السياسية الفعلية. والإسلام السياسي أقرب إلى عموم الشعب، ليس في الضرورة ببرنامجه السياسي ولكن على الأقل بمرجعيته الدينية وقربه الاجتماعي. من جهة أخرى المقولة الأساسية عند التيار الإسلامي: “السيادة والملك لله” هي طوق نحو كسر احتكار السلطة على طغمة قليلة من الأفراد. تالياً، فالمطالبة بالسيادة الإلهية لا تجد أساسها في الإسلام الكتاب ولكن في الظروف الاجتماعية السياسية التي عاشها محكومون أصبحوا يرفضون خصخصة الحكم، سيادة وشرع الله هما برنامج جامع لعموم الشعب، وعموم الشعب يريد مضامين جامعة بمعنى العدل وتوزيع الثروات والإنصاف. في ظل القحط السياسي المديد وفي ظل فشل أنظمة الحكم العلمانية التقدمية والاشتراكية في الطرح العملي والحقيقي لهذه المعاني، لا يعود من المستغرب والحال هذه أن يرجع الناس إلى ما يعرفونه مما يرضي هذه الآمال، أي الدين. تالياً، شعار “الملك لله” لا يشبه في دلالته الشعار الذي رفعته الكنيسة في أوروبا قبل قرون لتقصي السلطة الزمنية ولتظل السلطة الروحية محتكرة للسلطة. على العكس تماماً، الشاب السوري النمطي الذي ينادي بشرع الله هو شاب عانى من خصخصة السلطة ويريد تشاركية أوسع وفي منظوره ومرجعايته الحق الأعلى، المطلق هو الضامن الوحيد لتلك التشاركية لأن أقرانه ومواطنيه يتقاسمون معه تلك المرجعية.
انتهت مسلّماتي. الإسلام السياسي لم يشارك بعد بالسياسة في عصرنا المشرقي الحديث، والنزوع نحو المراجع الدينية هو تعبير عفوي وطبيعي عن الاضطهاد المديد واحتكار السلطة بيد قلة من الأفراد حيث لا يمكن المشاركة. وبعد، هل لا يزال هناك مكان للهلع والرهاب من مشاركة الإسلاميين في السياسة، تالياً احتمال وصولهم إلى السلطة؟ هذا واقع قبلناه أم لم نقبله.
ينبغي أن نوجه توجسنا حالياً إلى كيفية الحد (السريع نسبياً) من خطر مصادرة الأحزاب الإسلامية للحريات العامة ومن خطر تحول المشاركة السياسية إلى “تسلطية” جديدة حتى لا نقول شمولية. يبدو هنا أن المعركة الأولى والأساسية هي الدستور وهذا ما تعلمنا إياه الأحداث المصرية الجارية. الدستور كوثيقة اتفاق وطني عليا يتم شبه إجماع على مضمونها. الدستور الناظم لشكل الحكم لمدة طويلة والمؤسس لجمهورية جديدة هو فرصة لا تتكرر قبل تعاقب القرون ولا تطرح إلا بعد أحداث عظمى وعميقة كما هي حال الثورة السورية اليوم. فهل يمكن أن نفوّت هذه اللحظة التاريخية؟ لست قانونية في محكمة دستورية ولكن كمواطنة عادية أرى من المهم أن يتم إقرار الدستور قبل أن تُفرز القوى السياسية، عبر جمعية تأسيسية تحقق أكبر قدر من التمثيلية لمكوّنات الشعب السوري على تنوعها وللمرأة السورية. وأن يضمن الدستور حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن جنسهم أو انتماءاتهم. الترقب والرصد المثابر لإنجاز هذه الوثيقة الوطنية بما يناسب الهوية السورية ومبادئها الجديدة، يقعان على عاتق القانونيين، ولكن من الملحّ كذلك أن تضطلع النخب المثقفة بمهمة النقد والرقابة ومناهضة البوادر الأولى لكل اختراق أو تعسف. السؤال المطروح هنا: هل يمكن أن يتضمن الدستور بشكل صريح وعلني فصل الدين عن الدولة وحصر الدين وممارسة المعتقدات في الفضاء الفردي؟ في الواقع، الاقتناع بأن “السيادة للإنسان” وأنه المنتهى الأسمى هو نتيجة سيرورة طويلة تتعلق بظروف كل بلد وليست قطعاً حدياً مع ما سبق الثورة. مع ذلك من المهم أن تتضمن معركة الدستور هذا الجهد الذاتي المسرّع لنضج الظروف الموضوعية، لتثبيت هذه النقطة. من المفيد للسوريين أن يتابعوا السيرورة الدستورية في مصر وأن يجتهد القانونيون لإمكان إقرار مواد الدستور بعيداً من تأثير التجاذبات السياسية، وأن يدرسوا إمكان أن يتم الاستفتاء على الدستور بعد انتخاب للجمعية التأسيسية وليس تكليف، ولم لا يتم الاستفتاء على كل مادة من مواد الدستور؟ في ما يتعلق بالنقد المجتهد غير المهاود، فالأمر لا يقتصر على الناقدين المثقفين ومادة النقد لا تقتصر على النصوص والمادة الإعلامية والسلوك السياسي للنخب السياسية المنتخبة. بعيد انتخاب “حزب النهضة” في تونس، لفتني أن أحد أشكال فعل المجتمع المدني، عدا الحراك النقابي والتظاهرات المدنية المناهضة لمصادرة الحريات وحرية المرأة، تمثل في إنشاء مراصد لمراقبة الحريات وأن واقعة بسيطة كقرار فصل الإناث عن الذكور في صالة رياضية في العاصمة تونس كانت محط نقاش طويل وإدانة وتفاعل عبر الشبكات الاجتماعية التونسية. المجتمع المدني السوري لم يكن موجوداً في ظل نظام البعث وهو الآن في طور الولادة وسيطول أمد اشتداد عوده ليشكل حصانة لدولة الديموقراطية، إلا أن هذا لا يمنع أن يستقي السوريون من تجارب الدول التي سبقتهم في مخاض الانتقال الديموقراطي، ليدعّموا قوتهم في مواجهة أخطار محتملة.
معركة أخرى ستكون شديدة الأهمية في رأيي، هي تمثيل المرأة ومشاركتها في صنع القرار وحضورها بين النخب السياسية. لا يمكن في الوقت الحالي أن يكون هناك بديل من نظام “الكوتا” النسائية للبدء بترسيخ هذه المشاركة، وكل كلام آخر (للأسف يأتي أحياناً من النساء أنفسهن) عن ضرورة تمتع المرأة بالكفاءات المطلوبة كمتطلب أولي للترشح ما هو إلا رومنطيقيات أو تكريس لظاهرة “السقف الزجاجي” في مجال السلطة، السقف الذي يسد طريق السلطة بشكل شبه حتمي أمام المرأة. كأن كل المرشحين الرجال متمتعون بكامل الخصائص المنصوص عليها في دفتر مواصفات الترشيح!
حاولت أن أورد بعضاً من التحديات اللحظية والطارئة التي تجب علينا مواجهتها إسعافياً حتى لا يغدر بنا الزمن مرة أخرى. سيكون للمثقفين أو على الأقل هذا ما نتمناه، دور كبير في شحذ الأدوات الفكرية للنقد واستخدام الأدوات المتاحة في العصر الرقمي من صحافة الكترونية وتقانات اتصال متطورة وشبكات اجتماعية لا ينبغي أن نستخف بها مطلقاً، يمكنها أن تصنع رأياً عاماً ويمكنها أن تعيد تشكيل ذكاء جمعي وأن تكون نواة لفضاء عام تُقام فيه السجالات السياسية والاجتماعية، إن أُحسن استخدامها وامتنعنا عن الوقوع في الحلقة المفرغة لرفض الآخر والبحث الحصري عن أشباهنا. خلال سنتين من رصدي للشبكات الاجتماعية السورية المعارضة، لاحظتُ إلى أيّ حد حررت هذه الأداة التعبير عند المرأة، على سبيل المثال. أقول التعبير ولا أقول اللغة، فلا تزال المرأة تتحفظ عن مناقشة الجيواستراتيجيا أو التاريخ السياسي أو الاقتصاد الصرف أو الحيثيات العسكرية، إلا أن التعبير أصبح أكثر حرية حيث المقيّدات الاجتماعية الجندرية والمقاطعة الحثيثة لكلامها في محادثة واقعية غير افتراضية تزول إلى حد ما في الشبكة العنكبوتية. نحن بعيدون عن أن تكون الانترنت أداة للديموقراطية المباشرة، لكنها أداة متاحة لمثقفينا في تفاعل مباشر مع عموم الناس، عليهم أمثلتها وعدم التقليل من شأنها.
هذا عن التعبئة في مواجهة رهان السرعة الذي سيرافق المرحلة الأولى، ولكن يبقى أن العمل الأساسي في ترسيخ الدولة الديموقراطية الحديثة هو العمل الطويل الدؤوب، تكريس المؤسسات الحكومية الضامنة لإرساء القانون، تمكين المجتمع المدني وتكريس الحريات العامة وضمانها وعدم المساس بها، ترقين القيم المجتمعية المرتبطة بالاستبداد وفرز قيم جديدة. هذا الشق الأخير يتم في جزء منه عبر إصلاح المضامين التعليمية، لكن العبء الأكبر فيه يقع على عاتق المثقفين. المجتمع ينتظر من المثقف، عدا النقد، تفكيك رموز الثقافة الاستبدادية وإشاراتها على المستويات كافة في المجتمع، وتدوينها في أدبيات تخص تاريخنا وهويتنا. من دون تفكيك هذه المعقدات التي دخلت في النفس الجمعية للسوريين لا يمكننا أن نخطو نحو تأسيس مرحلة جديدة منعتقين من مخلفات جحيم استمرت أربعة عقود.
كل ذلك ليس أحلاماً وردية تحمّل الديموقراطية ما لا تحتمله. كل ذلك يصبح ممكناً بعد زوال الاستبداد. حتى مواجهة الإسلام المتشدد يصبح ممكناً لأن الشرط السياسي اللازم لمواجهة كهذه تحقق، وهذا ما يثبته الحراك الحالي في كل من مصر وتونس. عدا الظرف السياسي الموضوعي، فإن الإنسان في شعوبنا المشرقية تمثل تصورات عن الاستبداد وتبعاته، نتيجة خبرته وخبرة الأقدمين الموروثة، لن ينساها وسيتيقظ لمواجهة إرهاصات استبداد جديد. نرى في المثال السوري أنه على الرغم من تعقيد الثورة السورية وعسكرتها المقلقة، فإن من انخرط فيها ودفع أثمانها الخيالية لن يتوانى عن مناهضة أي جهة أخرى تريد مصادرة حريته.
هل استطعتُ أن أتخفف من هاجس السرعة والتسارع؟ ربما عليّ أن أستبدل مقولة “البناء بطيء والتهديم سريع” بمقولة أكثر حداثة: “الشعب السوري عارف طريقه”. طريقه طويل وعسير. ولكن ما الجديد؟
النهار