روائيات عربيات في مواجهة الاستبداد
إبراهيم الحجري-الدار البيضاء
لا يرى كثيرون أن الإبداع العربي الجديد وخاصة النسوي منه معني بما يستجد في الساحة العربية من تحولات الربيع العربي، وما يؤرق الذات العربية من نكسات ونجاحات، بل إنه ينصرف إلى قضايا اجتماعية وعوالم داخلية تحاكي الجسد ورغباته غير المنتهية، وهو حكم يبدو قاسيا على إصدارات جديدة، شعرا ورواية وقصة.
من خلال تأمل القارئ على الأقل في ثلاثة متون روائية عربية نسائية صدرت قبل الربيع العربي بقليل، وهي “حبل سري” للروائية السورية مها حسن، و”فرسان السعال” للكاتبة الليبية وفاء البوعيسي، و”الجوفار” للروائية المصرية مروة متولي، وكلهن عشن حالات الاضطهاد في أوطانهن، تتجلى رؤية مناهضة للاضطهاد والاستبداد بمعناه السياسي.
الوطن سجن كبير
شيدت رواية “الجوفار”، لمروة متولي أطروحتها على أساس الصراع مع مكان يشبه السجن، مع أنه ليس كذلك، وهو مكان مستعار ذو طبيعة قاسية على الذات يستحيل معه الفرد إلى شيء مجرد من كل هويته وملامحه. والمكان هنا بما يرتكز عليه من عناصر سكانية وجغرافية لا يعدو كونه مجرد رمز للامكان واللازمان العربيين.
فالجوفار، هو أي مكان يقبر المطامح الإنسانية في الوطن العربي، هو المعادل الموضوعي للسجن بالنسبة للسياسي، لكنه هنا يصبح سجنا للكل، وإذا كان الفرد في السجن الأول يعرف ماذا يقترف والمدة التي سيقضيها في هذا السجن، فإن الجوفار سجن لا يعرف المرء متى يخرج منه، ولا ماذا يفعل فيه، ولا ما الذي ينتظر منه “نحمل ثقل كل الزمن الفائت، ننوء بهذا الإرث، ولا تزال فأس الزمن على رقابنا، ولا شيء يقدر أن يخلصنا. خطواتنا لا غد لها. نصطدم أبدا بالباب المختوم إلى أن ينثرنا الزمن طحينا…” كما تقول متولي.
لا تسرد هذه الرواية أحداثا، بل تعري بمرارة واقع حال، ولا تضع بين أيدينا شخوصا عادية، بل ترسم لنا أطياف بشر أبادت إرادتهم السلطة القاهرة بثقافة الإذعان والاستسلام والخضوع، فما عادت سوى دمى لا إرادة لها في تغيير مصيرها على الأرض.
إنها تنفث آهات، وتكشف دواخل مشتتة بين النظر إلى الذات والخوف من مصير لا تعرفه وقبضة فضاء جهنمي قاس. وبين الحلم بالفكاك والضياع في متاهات المكان، يظل الشخوص، وهم كما تقول “ليسوا لا أبطالا ولا شخصيات. هم يعيشون حياة ميتة لا روح لهم ولا معنويات”، تائهون ترهبهم أسوار وهمية لا توجد إلا في مخيلتهم. فتحجب عنهم نور اليقين وشمس الحقيقة. وبدل أن يقصدوا النور الموجود في عقولهم، يسرحون خلف سراب وهمي اسمه الغد المجهول.
وتشكل مادة المحكي برمته، مدار هذا التيه الذي يفصل الرواة في رصد معالمه، وأثره الدفين على نفسية الشخوص ونظرتهم إلى الحياة التي لم تعد في حسبانهم مشابهة حتى لنقيضها الموت. إنها أقسى منه ما دامت تسير وفق ما يرسمه الفضاء المستعار كما تقول “كنت أحاول سحبه نحو الحياة، وأحاول أن أحتفظ به لوقت أطول، إلا أنه اختار حريته التي عادت إليه في تلك اللحظة وتخلص من كل العوائق”.
الجوفار في رواية مروة متولي، هو الفضاء الرمز الذي يُقصد به كل الطواغيت على وجه الأرض. أولئك الذين ينعمون بالشمس ويمنعون الناس منها كي يستمروا على رأس عروشهم الواهية.
ديمقراطية معطوبة
أما رواية “حبل سري” لمها حسن، فتنتقد بشكل مباشر واقع الديمقراطية المصادرة في سوريا، حيث يقول الراوي: “لقد شرح المسؤول الأمني مطولا لباولا، أن سوريا بلد يخطو خطوات جدية نحو الديمقراطية، ولكنه محفوف بالمخاطر، لذلك فهو يسعى إلى ذلك، أي إلى الديمقراطية، بخطوات دقيقة ومدروسة.
وفهمت باولا من خلال تجربتها الصغيرة في هذا البلد، أن النظام فقط هو الذي يدرس هذه الخطوات، ويقرر شكل الديمقراطية، مكان تحققها، الأشخاص الذين يطبقونها. مقاسات الديمقراطية، يجب أن تتلاءم مع مصلحة النظام، أو البلد، كما ادعى المسؤول”.
فهذا المقطع يصرح بكون الديمقراطية تسير بشكل أعرج في البلد، وأن النظام يستشعر الغليان الذي يستشري في الكيان الشعبي، وهو يعد عدته لتطويق الوضع وينقذ ما يمكن إنقاذه، ولو بالعنف وخنق الأنفاس.
جحيم التطرف
في روايتها “فرسان السعال” اجتهدت وفاء البوعيسي كي تجعل خطابها الروائي منسجما سواء من حيث الرؤية الفكرية لشخوصها التي تتطلع كلها إلى عالم بلا إرهاب ولا تطرف، عالم يسوده الأمن والأمان والفن والابتكار. عالم تغمره العدالة والديمقراطية والتسامح بين كل المعتقدات والتعايش بين كل الأديان والقوميات والأقليات.
عالم يقود فيه المسلمون العالم بقيم الإسلام السمحة الداعية إلى العدل والتكافل والسلم والأمن والأمان والحرية والعلم والفكر والفن الجميل، أو من حيث التمظهر الزماني والمكاني الذي يعكس اضطراب النفس الحالة فيه، بحكم أن الشخصيات والرواة، غالبا ما يسقطون صورة أمزجتهم وحالاتهم النفسية على الأشياء والعالم من حولهم.
وبهذا ستتجلى صورة الإسلام البهية، لكن الرواة في هذه الرواية لم يكونوا إطلاقا محايدين. إذ بدا تعاطفهم منذ البدء مع الشخوص وحملوا قضية واحدة منذ البدء. مما جعل الشخوص أيضا تكون متطرفة هي الأخرى في مواقفها، بحكم التضليل القوي الذي مارسته وسائل الإعلام على القضية، حيث نفخ الكثير من الزيت والوقود، وضخمت القضايا ونسبت أشياء لغير أصحابها واختلط الحابل بالنابل.
ولعل هذا التعاطف بين الرواة والشخوص هو ما جعل كثيرين يتحاملون على الرواية وعلى صاحبتها، إذ فهمت خطأ على أنها ضد الإسلام. والواقع ليس كذلك. فهي ترغب في أن تكون للإسلام صورة قوية في الغرب بما أنها تعيش في المهجر.
وتود أن يكون رسالة عالمية لنبذ الظلم والقسوة والطغيان كما أسس له الأولون عكس ما هو حادث الآن حيث فهم الدين خطأ على أنه رمز للتطرف والتقتيل والتعذيب والترهيب والموت ومصادرة الرأي الآخر. هذه الصورة في نظرها أساءت للإسلام والمسلمين، وقدمت هدية للغرب المتحامل في أن يجهز أكبر هجمة إعلامية وعسكرية واقتصادية على هذا الدين الحنيف.
لقد اختلفت الروايات من حيث الصوغ الأدبي وطريقة التعبير واللغة، لكنها كلها تتحد في إعلان السخط القوي الذي استبد بالأنفس والشخوص، ملوحة بشيء عظيم سوف يحدث، وقد تحقق هذا الأمر بنفحات الربيع العربي التي أسقطت أنظمة، وارتجت معها عروش وتبدلت بفضلها حكومات وأهواء ونوازع.
الجزيرة نت