رواية ربيع جابر «دروز بلغراد» تنقذ «البوكر» الخامسة من مؤاخذات جديدة
أبو ظبي – معن البياري
لم تفلح كاميرات التصوير الكثيرة في حفل الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، أول من أمس في أبو ظبي، في أخذ لقطات للروائي اللبناني، الزميل في «الحياة» ربيع جابر (من مواليد 1972)، تبدو فيها عيناه واضحتين، وشاخصتين إلى الحضور، لا في المرة الأولى التي تسلم فيها، على منصة الحفل، براءة عبور روايته «دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب» (المركز الثقافي العربي) إلى القائمة القصيرة ذات الروايات الست، ولا في الثانية، عندما أعلن رئيس لجنة التحكيم، جورج طرابيشي، اسمه فائزاً بالجائزة الأولى «البوكر» في دورتها الخامسة، لما صعد إلى المنصة، بعد أن داهمته في مقعده تلك الكاميرات، ثم أخذت تحاول، في أثناء وقفته إلى جانب رئيس هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان، تصوير التفاتة منه إليها وإلى الحضور، وهو المعروف بشدة تحسسه من الأضواء.
وكان جمهور حفل الجائزة الأهم للرواية العربية قد خبر هذا الأمر لدى ربيع جابر في وقفته الأولى أمامهم في الدورة الثالثة (2010)، لما كانت روايته «أميركا» في القائمة القصيرة في ذلك العام. ولم يفلح زملاء في صحف وفضائيات في الحصول من جابر، بعد فوزه، على إجابات عن أسئلتهم المرتجلة، وكانت، في أغلبها، عن شعوره بهذا الفوز الذي كان الإجماع كبيراً بين كتاب وناشرين وقراء عديدين في ردهات فندق «روكو فورتيه»، في أبوظبي، على أحقية روايته الجديدة بالفوز، بل القول إنه فوز ينقذ دورة «البوكر» هذه من ضعف كثير شابها. والرواية هي الـ 16 له، منذ الأولى «سيد العتمة» التي فازت في 1992 بجائزة «الناقد» للرواية.
واكتفى حضور المؤتمر الصحافي الذي أعقب حفل «البوكر»، من ربيع جابر، وقد شارك فيه على غير رغبة منه، بما بدا تلميحاً منه إلى تحبيذه فوز «أميركا» بالجائزة قبل عامين، لكن حنا يعقوب، بطل روايته الجديدة، محظوظ أكثر، كما قال.
معايير وخيارات
شارك في المؤتمر الصحافي رئيس لجنة التحكيم، جورج طرابيشي، وقال إن أعمالاً من الروايات الـ 101 من 15 بلداً تنافست على الجائزة حضر فيها ما هو قائم من أجواء في الأقطار العربية، تسوّغ الثورات التي قامت، غير أن لجنة التحكيم لم تقع، أبداً، تحت تأثير «الربيع العربي» في انتخابها الروايات الثلاث عشرة في القائمة الطويلة، ثم الست في القصيرة. وأوضح أن عدم اشتمال القائمة الطويلة على 16 رواية، كما المعهود في دورات «البوكر» الماضية، يعود إلى حرص اللجنة على صدقية اختياراتها، إذ لم تجد تحققاً لمنسوب من الجودة يبرر إدخال ثلاث روايات أخريات. وتضم اللجنة، إضافةً إلى طرابيشي، المستعرب الإسباني غونزالو فرناندز، والصحافية اللبنانية مودي بيطار، والقاصة القطرية حاملة الدكتوراه في الفيزياء النووية هدى النعيمي، والناشطة النسوية أستاذة الأدب الإنكليزي المصرية الدكتورة هدى الصدة. وكانت الإجابة عن سؤال عن عدم صعود عمل لروائية إلى القائمة الطويلة، مع عضوية ثلاث نساء في لجنة التحكيم، أن اللجنة، في مهمتها غير المستحيلة وغير السهلة معاً، بتعبير طرابيشي لدى إعلان روايات القائمة القصيرة في القاهرة، لم تلتفت إلا إلى النصوص نفسها، ولم تعتن بجنس الكاتب، ذكراً أو أنثى، وبجنسيات أصحاب الروايات المتنافسة، وبأهوائهم السياسية.
وكان الســـؤال الدائم في دورات «البوكر» عن معايير اخــــتيار الرواية الــفائزة وشــــقيقاتها الخمس في القائمة القصيرة، حاضراً، فأوضح طرابيشي أنه لم تكن هناك مـــعايير مطـــلقة، فليـــس ثمة معادلة رياضية يحتكم إليها في هذا الخصوص، غير أن عضو اللجنة، مـــودي بيطار، ذكرت أن من أهم ما نظر إليه في قراءة النصوص المرشحة هو الاعتماد على الذائقة، ومدى حضور شخصيات مقنعة وصلبة ولغة فنية فيها.
وبدت إشارة طرابيشي إلى اختلاف أذواق أعضاء اللجنة دالةً في أن الوصول إلى فوز «دروز بلغراد» بجائزة «البوكر» تم بالأغلبية في تصويت عليها، وليس بالإجماع. وأورد بيان صحافي أن اللجنة أثنت على هذه الرواية «لتصويرها القوي هشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق فترة تاريخية ماضية في لعبة عالية الحساسية».
وذكرت مودي بيطار أن مما يميز ربيع جابر بحثه العميق في موضوع روايته، وتمكنه في تصوير الخلفيات الثقافية لشخصيات عمله الذي يتناول فصلاً من الحروب في تاريخ لبنان. ومعلوم أن «دروز بلغراد» تذهب إلى ما بعد حرب 1860 الأهلية في لبنان، وتنشغل بحكاية مسيحي من بيروت اسمه حنا يعقوب، يعمل بائع بيض، ساقته مقادير سوداء إلى أن يكون بين 500 درزي تم نفيهم إلى قلعة بلغراد عند تخوم الامبراطورية العثمانية، بديلاً عن واحد من هؤلاء دفع والده رشوةً إلى الضابط العثماني. وتمضي الرواية في ارتحال شائق وشديد الصعوبة وكثير العذابات مع يعقوب الذي يحاول البقاء على قيد الحياة في أهوال البلقان، وتسرد بلغة حارة وفي تفاصيل متنوعة معاناته وبقية السجناء الدروز طوال اثني عشر عاماً.
نجاح خامس
تتويج رواية ربيع جابر بـ (البوكر) الخامسة جاء مقنعاً لكثيرين من متابعي الجائزة، لا سيما من أبدوا مقادير واسعةً من الاستهجان على سوية بعض الروايات الست، وقبلها بعض الروايات الثلاث عشرة، مع استبعاد أعمال وصفت بأنها أكثر أهميةً وجماليةً وقيمةً إبداعية، ترشحت في المنافسة، ولم تختر لجنة التحكيم أياً منها، ما جعل إشاعةً تروج عن عدم قراءة اللجنة كل الروايات المتقدمة، وهو أمر يصعب التثبت منه، وربما يندرج ضمن الصخب السنوي التقليدي في كل واحدة من دورات «البوكر»، والتي يحرص روائيون عرب على نشر تصريحات عن إزورارهم عن الجائزة، وعدم تقديم أعمالهم للتنافس عليها، صدوراً عن منظورهم الذي غالباً ما لا يرى أهليةً في تقييم النصوص لدى أعضاء في لجان التحكيم التي يختارها مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية تبعاً لحيثيات تأخذ في الاعتبار تنوع مشاغلهم البحثية والإبداعية، إذ ليس شرطاً مستقراً أن يكونوا جميعهم من النقاد المحترفين، بل يستحب أن يكون منهم أهل اشتغال بالاجتماع والإعلام والعمل العام، من أصحاب ذائقة لا تنتسب إلى الاختصاص في قراءة الرواية. وعلى وفرة مؤاخذات سنوية في هذا الجدل، وفي تفاصيله، لا سيما مع إعلان روايات القائمة الطويلة كل عام، إلا أن جائزة «البوكر» استطاعت أن تحافظ على جاذبيتها الواسعة، وتمكنت في سنتها الخامسة من حماية مكانتها الخاصة بين جمهرة قراء الرواية العربية وناشريها، وكذا في الصحافة الثقافية العربية. وتبدى، أول من أمس، أن موسمها هذا العام لم يتأثر قليلاً أو كثيراً بأي ملاحظات، محقةً أو غير محقة، في شأنها عموماً، وبما تم تداوله كثيراً من تساؤلات تخدش في روايات وصلت إلى القائمتين، وأخرى تنوّه بروايات تم استبعادها.
تمويل جديد
حرص القائمون على حفل أول من أمس، والذي أداره عضو مجلس أمناء الجائزة الكاتب خالد الحروب، على إبراز أنه «احتفاء بخمس سنوات على مكافأة التميز في الأدب»، كما كتب على شاشة واسعة أمام جمهور الحفل، ما يؤشر إلى مسار ناجح للجائزة العالمية للرواية العربية، وبدا في محطة عيدها الخامس وكأنه عبور إلى انعطافة في هذا المسار، غير أن أحداً لم يشر إلى شيء من ذلك، واكتفى رئيس مجلس الأمناء، جوناثان تايلور، بالقول، في كلمته في الحفل، إن العام الحالي «مهم في تاريخ الجائزة» وإنه «لمصدر فخر لنا أننا استطعنا على مدى السنوات الخمس الماضية أن نكفل التقدير المعنوي والمكافأة المادية معاً (10 آلاف دولار لكل روائي من الستة، إضافة إلى 50 ألف دولار للفائز الأول) للفن الروائي الأدبي المتميز في اللغة العربية».
وقالت رئيسة برنامج الفنون والثقافة في «مؤسسة الإمارات للنفع الاجتماعي»، سلوى المقدادي، إن «المؤسسة فخورة بأنها الجهة الممولة للجائزة، وواحدة من المؤسسات التي سعت إلى إطلاقها في سماء الأدب العربي». وقد تمسكت المؤسسة، طوال السنوات الخمس الماضية، بدعم «البوكر» وتمويلها، من دون أي تدخل منها في آليات عمل الجائزة العتيدة التي تدار بالشراكة مع «مؤسسة جائزة بوكر» في لندن، وفي اختيار لجان التحكيم، حرصاً على الاستقلالية التامة للجائزة وحياديتها، غير أن حديثاً راج عن تخلي «مؤسسة الإمارات» عن التمويل والدعم والرعاية بعد الدورة الخامسة، وهو ما لم ينفه نائب رئيس هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، زكي نسيبة، في المؤتمر الصحافي، رداً على سؤال لـ «الحياة» في هذا الخصوص، غير أنه أكد وجود توجه إلى تغيير في مصدر تمويل الجائزة، مع إبقائه من دولة الإمارات واحتفاظ أبوظبي بإسنادها الجائزة، وبقائها مدينة الاحتفال السنوي بالفائزين. وقال نسيبة إن لدى مجلس أمناء «البوكر» التأكيد على أن دعم أبوظبي الجائزة سوف يستمر، وبالآلية نفسها، وإن بياناً تفصيلياً في هذا الأمر سيصدر قريباً، ويحدد آلية الدعم والجهة التي سوف تقدم الدعم.
وتعمل «مؤسسة الإمارات للنفع العام»، والتي أطلقت في 2005، على تعزيز الشراكة بين مؤسسات القطاعين العام والخاص، والاستفادة منها في تطوير مشاريع ومبادرات غير ربحية في دولة الإمارات. ويأتي تمويل المؤسسة من مساهمات لدعم برامجها، وصندوق احتياطي رأسمالي مدعوم من حكومة أبوظبي وشركات القطاع الخاص. وكانت أوضحت في بيان مقتضب أنها «تمر حالياً بمرحلة إعادة هيكلها التنظيمي، وذلك يتضمن إعادة النظر في أهدافها ورسالتها، ما يترتب عليها إجراء مراجعة شاملة للمشروعات والبرامج المختلفة التي تعمل لتنفيذها». ويبقى مهماً، هنا، التأكيد على استمرارية «البوكر» مع انتقالها إلى مرحلة جديدة تتعلق بتمويلها، ويبقى مهماً، أيضاً، أن فوز رواية ربيع جابر «دروز بلغراد، حكاية حنا يعقوب» بالجائزة في عيدها الخامس أنقذها، على الأغلب، من سهام غير قليلة كانت ستتوجه إليها من كثيرين لم يستحسنوا كثيراً من روايات الموسم الذي انقضى، وسيركز أضواء وفيرة على هذا الروائي اللبناني الشاب والدؤوب، والمنقطع إلى الكتابة الروائية بعيداً من الأضواء.
الحياة
«بوكــر» ربيــع جابــر
من التجريب الثقافي إلى البُعد الشعبي
عباس بيضون
ليس في مقدورنا أن نعرف شيئاً عن ربيع جابر سوى عمله الروائي وهو عمل يجوز أن نقول إنه ضخم. فمن العام 1992 الذي ظهرت فيه أولى روايات جابر «سيد العتمة» لا يزال ربيع جابر يتبع الرواية بالرواية. وإذا كانت روايته الثانية ظهرت بعد عامين من صدور الأولى فإنه أصدر في العام 1997 روايتي «كنت أميراً» و«رالف رزق الله في المرآة» كما نشر في العام 2005 «تقرير ميليس» والجزء الثاني من رواية مسلسله صدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء ولم تكتمل هي «بيروت مدينة العالم» وتوافق صدور «ليبرتيوس مدينة تحت الأرض» تقريباً مع صدور الجزء الثالث من «بيروت مدينة العالم»، كما أن ربيع جابر بلغ من ملحمته الروائية «بيروت مدينة العالم» أجزاء ثلاثة لكنه قبل أن يكملها أصدر روايات من بينها دروز بلغراد التي نال عليها جائزة بوكر و«طيور الهوليداي إن» آخر أعماله.
لا يسعنا أن نعرف شيئاً عن ربيع جابر سوى عمله الروائي فهذا الكاتب لا يخرج من مؤلفه ولا يغادره، لا يقبل الأحاديث الصحفية ولا يخوض سجالات نقدية، ولا يتحدث عن نفسه ولا يعمم حتى صوره الفوتوغرافية، وإذا وجدت هذه فهي لا توجد بإذنه. الصورة التي يريد ربيع جابر أن تكون له لا تتصل، من قريب أو بعيد، بسيرته الخاصة أو خياراته الشخصية، أو مزاجه بل هي لا تتصل حتى بملامحه الجسدية. الصورة التي يعممها ربيع جابر عن نفسه هي صورة مؤلف ورقي. ليس سوى الكاتب والمؤلف وهو موجود في كتبه، ما عدا ذلك ليس سوى تفاصيل يريد أن تبقى له. بينه وبين الناس كتبه وما سوى ذلك فله وحده، كتبه غزيرة فإذا كان جابر ضنينا بملامحه الشخصية فهو ليس ضنينا بالكتابة، إنه يغرف من بحر بيد أننا إذا حاولنا أن نستشف حياته وصفاته ومزاجه من كتابته لن ننجح. فالروائي ربيع جابر قلما يقترب من الشخص الذي هو، وقلما يضمن رواياته شيئا من شخصه أو سيرته أو حياته. وإذا فعل ذلك فبقدر من التحايل والتستير. من يبحث عن الشخص في المؤلف الروائي يعود بخفي حنين، ولن يجد في العمل الروائي ما يسعفه. رواية ربيع جابر رواية أولا وشخصيات رواياته أبطال روايات في الأساس. ليس في رواياته أي رسالة مقصودة وليس في أبطال رواياته ما يمكن نمذجته أو تعميمه. ليس في هذه وهؤلاء سوى اللعب والتفنن، ليس سوى الاختراع. وإذا جاز لنا أن نصف أشخاص وأبطال روايات ربيع جابر قلنا إنهم ممن نجدهم في الروايات واننا نجد أمثلة لهم في الروايات. ليس في هذه الروايات فلسفة خاصة وان تلبّس الأشخاص أحياناً فلسفات فهذا قد يكون من قبيل الرواية، ولنا في الروايات الذائعة شخصيات لها فلسفاتها ولها مواقف من الوجود والعدم، بل إن ثمة جانباً من الرواية العالمية يتماهى مع الفلسفة ويتبنى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مواقف من الوجود والعالم. ليس ربيع جابر من هذا الجناح، إذا فكر أبطاله فلأن هذا جزء من اللعبة، وإذا سلفت منهم آراء وتأملات فلأن هذا من الرواية، وليست الرواية نفسها محدودة بهذه اللعبة، وليس لها ذلك المغزى الفكري وليست لها غاية سوى الوفاء بشروطها هي، شروط اللعب وشروط الفن، ولنقل إن المراس الروائي هو غرض ربيع جابر من الرواية، وأنه يريد من اللعبة أن تكون وافية ومن الشخصيات أن تكون نابضة، وما غير ذلك ليس سوى من لبوس الفن ومن عدته ومن مظاهره، ليست الأفكار ولا العواطف ولا المواقف هي عمدة الرواية. إن مرت الأفكار أو المواقف أو المشاعر فكما تمر في الروايات. ليست غاية بحد ذاتها ولا تحمل رسالة خاصة، وإنما يتوخى منها أن تكسو الأحداث وتكسو الأشخاص هيئة وصورة وجسما وحبكة.
ربيع جابر لا يختار فحسب أن يكون روائيا وإنما يبقى طموحه وشاغله ومقاصده روائية، بل انه بهذا الطموح جعل من رواياته الواحدة تلو الأخرى تجارب روائية. ففي كل رواية من روايات ربيع جابر نتذكر نمطا عالميا. كأن الروائي في تجاربه الروائية يحول الرواية إلى مباراة يقتحمها ويخوضها شوطا بعد شوط، بل انه جرب في جملة ما جرب «الرواية الفكرية» نفسها على أنها هذه المرة نمط فحسب. هكذا نراه يجرّب الرواية الريبورتاج في «رالف رزق الله في المرآة» التي هي عبارة عن ريبورتاج حقيقي أو متخيل بعد انتحار رالف رزق الله، ويكتب في «البيت الأخير» رواية عن مارون بغدادي ثم يكتب في «كنت أميراً» رواية من روايات، رواية ثقافية مبنية من إعادة صياغة قصة للأطفال ممزوجة مع كتاب علوم احياء عن الضفادع. ثم انه في نظرة أخيرة على «كين ساي» يخترع من خلال مطالعات في التاريخ الصيني رواية عن الصين ومدينة صينية. الأمر نفسه في «أميركا» التي هي في نتاجه الأخير، إذ انه هو الذي لم يدس بقدميه أميركا يكتب رواية عن أميركا تجوب في مدن وأماكن أميركية، وإذا كان كافكا سبقه إلى رواية عن أميركا بدون أن يراها، فإن رواية ربيع جابر لا تتناول أميركا كرمز وكعالم جديد بل تتناولها أولا كمكان وتنتقل فيها من مدينة إلى مدينة ومن مطرح إلى مطرح.
إذا كنا ذكرنا كافكا عرضا في معرض الكلام عن الطموح الروائي لربيع جابر فإن الرواية العالمية بالنسبة لجابر مدرسة كبيرة، ولا شك أن نفسه تحدثه دائماً بأن يباريها، وأن يتنكب وعورها وأن يجاري كبارها، فليست تجارب ربيع جابر الروائية والأنماط التي مارسها منها بعيدة عنها. وإذا كان أزرا باوند وت. س. إليوت ضمنا الشعر رموزا من مطالعات وكتب معروفة، فإن ربيع جابر يفعل مثيل ذلك في الرواية، بل نحن نقرأ في «بيروت مدينة العالم» مشهد صراع مع الأسد مستقى من رواية شعبية قد تكون عنترة، كما نجد قتالا بين الأخوين، اللذين غابا عن بعضهما ولم يتعرف أحدهما على الآخر، له مثيل ونظير في شاهنامة الفردوسي. وإذا كانت «بيرتيوس مدينة تحت الأرض» رواية فانتازية كافكاوية فإننا نستطيع أن نعتبر «بيروت مدينة العالم» بأجزائها الثلاثة رواية تولستوية بل انها رؤية لبنانية للحرب والسلام، ففي كل من أجزاء الثلاثية (حتى الآن) جرب ابتداء بالحرب الأهلية اللبنانية انتهاء بحرب القرم، وليست هذه حروبا بويلاتها ومآسيها وقبائحها وإنما هي حروب كحروب السينما بفنها الحربي ووقائعها. لنقل إن طموح ربيع جابر هو أن يضمن روايته كل ما يغويه في الفن الروائي، بكل ما يراه جديرا بأن يتمثله ويباريه، كل ما يدعوه إلى أن يجربه ويعيد إنتاجه. هكذا أضاف ربيع جابر قاصدا أم غير قاصد أنماطا أخرى إلى الرواية العربية. أضاف رواية الريبورتاج (الوثائقية)، أضاف الرواية الثقافية التي تصدر عن قراءات وتتولد من اختبار ثقافي. لم يكن الأول الذي أرسى الرواية الفانتازية لكن بيريتوس عمل قوي، بل هي أحد أقوى أعمال ربيع جابر، ثم أن رواية «دروز بلغراد» هي أيضا رواية سجون ومغامرة سجون، بينما نجد في بيروت مدينة العالم رواية ملحمية.
على أن هذه الروايات إذا جارت الرواية العالمية فإنها تجاري أعمالا لها محل في الذاكرة بل لها نصيب من الإمتاع والتسلية تكاد معه أن تكون روايات شعبية. في النصف الثاني من عمل ربيع جابر روائي خرج عن الرواية التجريبية، ولم تعد هذه الروايات، التي ليس لها من القراءة والقراء الحظ الذي لروايات ذائعة، تغويه. خرج ربيع جابر عن الروايات «الثقافية» واختار عليها الروايات الكبيرة المشهورة، بل الروايات التي تتواتر قراءتها وتجد جمهورا بين المثقفين وغير المثقفين ذلك يعني أن ربيع جابر الذي حرر روايته من أغراض أدبية وفكرية احتفظ لها بقدرة على الإمتاع والتشويق، لم تتجنب هذه الرواية المغامرة والحروب والتاريخ والحوادث المتتالية والأخبار والأبطال الحقيقيين والغراميات الغنية وحتى المفاجآت وشبه الخوارق، أي أنها رواية تصالح الجمهور ولا تخاصمه. من هنا كانت رواية ربيع جابر، في النصف الثاني من عمله الروائي، مزيجاً من التجريب المدروس وفنا روائيا لا يخالف عامة القراء ولا يجابههم. أي أن ربيع جابر اقترب في ذلك من كتابة نص له جمهوره وقراؤه، نص يسلي ويمتع، وتتلاحق أثناء قراءته الأنفاس، وينقل مطالعيه من سجن إلى حرب إلى رحلة إلى حب وكفاح، إلى صناعة مدينة وصناعة تاريخ. أي أن ربيع جابر كان يقترب هنا من أدب شعبي، من «بست سلرز» ومن رواية تُجاري المسلسل التلفزيوني بدون أن تنزل عن مرجعها الثقافي الذي كان هذه المرة التاريخ.
في رواية «بيروت مدينة العالم» يسرد ربيع جابر سلسلة من المراجع التي طالعها حول تاريخ تلك المرحلة. لا نجد في هذه الثلاثية (إلى الآن) نهوض وإعمار مدينة بيروت فحسب، بل نجد فيها (كما نجد في روايته عن أميركا وروايته عن الصين) وصفا دقيقا لهيكل المدينة في أول عمارها. هكذا لا نجد أنفسنا في التاريخ الذي تقود إليه لائحة المراجع التي سردها بل نجد أنفسنا أيضا في الجغرافيا. الجغرافيا هي موهبة ربيع جابر الأولى فبالاطلاع على خرائط وعلى ذكر في الكتب يستطيع ربيع جابر أن يعيد خلق المكان، وأن يرسمه بكل تخطيطاته ومتعرجاته ومساحاته وممراته وعطفاته وزواريبه وأسواقه وحاراته ومساجده وسراياه، بل ويستطيع ربيع جابر أن يرصد تحولاته وما زال وما بقي منه وما تهدم وما ترمم وما تغيرت صورته. رواية ربيع جابر عن بيروت كما روايته عن الصين وأميركا هي سير وئيد داخل خارطة حية ومجسمة. أما التاريخ فربيع جابر يعرف التاريخ بقدر ما يخترعه. إنه يكتب كمؤرخ للدرجة التي ألهمت كمال الصليبي الراحل كتيبا عنه. يعرف التاريخ بقدر ما يخترعه، فكل هذا التاريخ الذي نجده في روايته هو عبارة عن قطعة صحيحة جنب قطعة مصنوعة ومتخيلة، لكن للمتخيل والمصنوع ذات صنعة الحقيقي. يعمل ربيع جابر في ذلك كما يعمل مزورو الآثار، أي أنهم يعيدون اختراع الآثار كذلك يعيد ربيع جابر اختراع التاريخ. لكن روايات ربيع جابر التاريخية لا تعاند التاريخ ولا تبدو وكأنها تصارعه أو تقوّله ما تريد، أو تلويه كما تجب. رواياته التاريخية تبدو في صلح مع التاريخ وكأنها مكتوبة بحبره. نضيع بين الروائي والمؤرخ. تلك بالطبع خدعة الكاتب. ربيع جابر يحول التاريخ إلى قصة مشوقة فنضيع نحن بين التاريخ والرواية، ونصدق تاريخ ربيع جابر أكثر مما نصدق التاريخ. ذلك أن سرد ربيع يجعل التاريخ حقيقيا وحيا أكثر مما هو في كتبه الأصلية.
هل كان ربيع جابر في روايته عن بيروت «بيروت مدينة العالم» يوجه رسالة ما. هل كان في هذه الرواية وطنية لا تجافي العالم ولا تنكر المصادر العديدة للشخصية الوطنية. لا نستطيع أن ننكر ذلك ولا أن نثبته. ففيما يتعلق بالأفكار فإن ربيع جابر لا يمانع بأن يتبنى في روايته عددا من الأفكار، شرط أن تكون هذه الأفكار سائغة ومقبولة وذات رعف شعبي. روايته عن بيروت فيها حب لبيروت وفيها تبن للبنان العالمي المتعدد. ثم أنه في روايته ذاتها يروي تمازجا إسلاميا ـ مسيحيا وزواجا بين مسلمين ومسيحيين. تلك أفكار فحسب لكن ربيع جابر لا يكسر أدمغتنا بها. لا يقولها بصوت مجادل رنان وخطابي، لا يناظر بها ولا يقدمها كأفكار أساسا. إنه يأخذها بكل رعفها العاطفي ويضمنها بكل دفئها المحسوب. إنها أفكار سائغة كذلك شخصيات ربيع جابر، ليس فيها شطح ولا تشويه ولا قبح جسدي أو نفسي. إنها شخصيات محببة في الغالب دافئة وبهذا المعنى هي ذات نكهة شعبية، وإذا كان لي أن أقارن روايات ربيع جابر بشيء فإني أقارنها بالساغا العائلية أو العربية التي نراها في المسلسلات الغربية أو أفلام السينما. فن ربيع جابر استفاد بالتأكيد من ذلك كله. هذا ما نلمسه فوراً فإن غياب الشخصيات وحضورها، وتخالطها وافتراقها، واحتجابها وظهورها وتحركها أشبه ما يكون بمتوالية سينمائية.
ربيع جابر الذي صدر عن رواية ثقافية بالأساس وتجريب روائي متعدد الحلقات، قد استطاع أن يضيف إلى هذه الرواية بُعداً شعبياً أو أن يفتحها على بُعد شعبي، عمله من هذه الناحية أصيل وفريد وإذا كان هذا وحده سببا فإنه يكفي لجائزة بوكر. وربيع جابر بالتأكيد يستحقها.
السفير