روحُ جيلٍ روائيّ عربيّ متوثِّب خارج لعبة قديمة
غسان الحلبي
مسألة البوكر العربيّة وجائزتها تمرّ عبر فعل القراءة، بالطبع، لا عبر الأسماء ولا عبر الأمزجة ولا خصوصاً عبر الانطباعات المسبقة أو المعقودة على اطّلاع شبه خاطف على صفحة من هنا وفقرة من هناك. ليس أكثر سهولة من الشكّ بعيدا عن مقوّماته الحقيقيّة في قلب الموضوع عينه. الأسوأ أن ينكفئ المرءُ عن مشاق الاكتشاف اتّكاءً على فذلكة اعتباطيّة منشورة. هذا لا يعني أنَّ اللجنة المولجة تدبير المنح وسياقاته مثالية في أداء أدبي فريد، ولكن يعني أن لا نكتفي بإثارة الغبار لمجرّد وهمنا أنّنا في ساحة المعركة. ويعني أن نرى وفق قواعد اللعبة من دون استحضار “فاولات” مباريات السنوات المنصرمة.
“أنا، هي والأخريات”
البداية شبه الفرويدوية لـ”أنا، هي والأخريات” لجنى فوّاز الحسن (المؤسسة العربية للعلوم، ناشرون)، صافعة، تنبئ فوراً بحسٍّ روائيّ لا يستعرض أنثوياً عقد الجندر، بل تباشر حركة شبه سيبوكوية (ميشيميّة) حين تنقض الكلمات كسيف في قلب الذات: “هذه الأنا التي تعيش فعلا، تقابلها أنا أخرى تراقب الأحداث وتسجّلها. كنت في حالة انتظار دائمة لذاتي…”. هكذا، في الداخل المحموم فوراً. اللعبة لا تفذلك الكلام، بل توغل في “جرح ساخن ملتهب”، يواكبها السرد “بلا شفقة” لهذه الأنَوات، ظاهرها وباطنها وتضادّاتها بل واحتكاكاتها القاسية في ما بينها، وسياق تشريحي متعرّج كشّاف بكلّ أطياف الهشاشة البشريَّة التي تمثّلها أنثى قرَّرت الكلام من دون هوادة، ولكن في عمق المعنى، سواء أكان الضعف أم القسوة أم الخيبة أم الخنوع أم الخيانة أم التواطؤ المسترسل في حياة متهافتة تلتمع فيها رغبات الدنيا مثل مفرقعات ليليّة تحكي الحسن بريقها ورمادها بالسويّة ذاتها.
هذا الاستبطان البائح يصير منظوراً لرؤية البيئة، من العائلة إلى المجتمع إلى المدينة، بقوَّة الكشف الذي يجعله الألمُ طبيعةَ الحال. تحضر الشخصيات كأطياف داخل هذا المدى الجوّاني لامرأةٍ لها لغتها داخل جسدها وخارجه لتكون عصبَ كتابةٍ متوتّرة إنّما باسترسال يجعل من العمق بُعداً من أبعاد كلمة شجاعة. نلقى الأب في قوقعة خيبته. الشيوعي الذي بدّد أحلامَه دويُّ سقوط جدار برلين وتركه بقيةً مهمَلةً من إنسانٍ مهزوم لا يجد أمامه للمضيّ في حياةٍ رتيبة إلا اجترار الكلمات. عائلته أمرٌ يبدو أنّه حدث على هامش “اغترابه” الثقافيّ في مدينةٍ تجدِّد “سلفيَّتها” في عصر “الحرب على الإرهاب”. والأمّ عود حطب أمام كومة رماد. ما عادت قرينة الرجل المثقّف اليساريّ المنغمس في لغة الكتب، جعَلَتها الأيامُ أسيرةَ قرين صار بقايا وهْم بائد في ركن منزل بصيغةِ زوج في قيْد الحياة. والإبنةُ أصداء متردِّدة بين هزيمتَين مغايرتَين. ولأنَّها، بقوَّة الحياة، استشعرت ما يمكن أن تكونَ عليه الأنثى، بل الكائن الإنسانيّ، من “حاجةٍ للوجود”، لاستغراق الذات في الوجود تحقّقاً لمآربها، لم تجد أمامها إلا هزيمة أخرى تحاصرها الهزائم. لكنَّ صوت الألم هنا لم يغُر في صمتٍ معزول، بل في اللغة، لا ليتَّكئ عليها سبيلاً إلى البوح، بل لتكونه مثل جسده.
هذه رواية جسد الألم عابراً مثل مركب هشّ في أعالي بحرٍ عكِر هائج ومخيف. يدعو دائماً إلى الركون إلى اليأس، ولكن يثير في صاحبه أحياناً القوَّة والهمَّة للوصول إلى ضفافٍ آمنة. عاصفة عواطف وأحاسيس ومشاعر امرأة واعية في قلب بيئة مأخوذة بالمواضعات من كلّ جانب. مواضعات صمّاء بكماء عمياء وفق الأداء الفردي والعائلي والاجتماعي والسياسي. إنه غوص في عمق سرائر امرأة قرَّرت أن تحكي من داخلها.
“مولانا”
يتدفّق السرد في “مولانا” لابرهيم عيسى، بسلاسة لا تفوتها العذوبة. بإيقاع متواصل لا يهدأ، بل يتشابك كتداخل الصوَر التي نتلقاها من شاشة. العقدة تتكوّن من تراكم التداخلات بوتيرة تصاعديَّة حتى آخر النصّ الروائي. يلتقط الاستطراد الطويل، في نقطة ما، حلقة من حلقات السرد، ويفتح النّص اللاهث على أبعاد زمنيَّة، ليعود إلى النقطة السابقة وقد توضّحت الأمور لينطلق مجدّداً إلى أمام. عبر هذا كلّه، تتوالى المشاهد التي صارت يوميّات شعوب. الأفق حرّ يحكي بلا استبطاء ظواهر اجتماعيّة “ضاربة”. شيوخ الفضاء (الأقنية). العلاقات المتشابكة مع الواقع السياسي بما فيه من زيف ودجل وصلات مشبوهة. رجال الدين الخائضون في المصالح والرزق والكسب عبر مراءاة الحاكم وشبكات سلطته… وشخصيّة حاتم (مولانا) ممتازة لانعقاد السرد حول محور “المهزلة” برمَّتها. عوّاد قديم. خطيب. مفتٍ. واعظ. خبِرَ البلاهة السائدة. أدرك الفرق الشاسع بين الدين والتديُّن، ومع هذا يخوض في عباب الدجل على وعيٍ بالمفارقة الدراميَّة بين حقيقة الدين وباطل وعيه الاجتماعي العام.
المكان الحقيقي في “مولانا” هو البلاتو حيث أن الملايين يستمعون بسهولة إلى “دعاة التلفزيون الجدُد” الذين يختارهم أرباب اللعبة الذين يتصرّفون “كأيّ وكيل فنّانين محترف”. الملايين ذوو “ضعف وهشاشة أمام السلطة والنفوذ والمال… وقد سحب الله من معظمهم أيّ نباهة وذكاوة من العقل… تديّنهم بلا دين، فهم لا يدركون الجوهر العميق، لكنَّهم متمسّكون بالطقوس والشعائر”.
مولانا يعي اللعبة التي هو في خضمّها البرّاق، “أنا أبحث عن رزق وراحة بال، أنا في مركز الوعظ وليس في العِلم، في الفتوى لا في الفقه، مهتمّ بالدّعاية لا بالهداية… شخصيّاً كسبت من الدين فلوساً أكثر من التي كسبها الخلفاء الراشدون والبخاري ومسلم وابن كثير…”. شخصيّة “مولانا” ذريعة ممتازة ليس فقط لكشف كواليس اللعبة الباهرة من خارج، وتقاطعاتها الرهيبة مع سلطان الإعلام ومن ورائه سطوة الحُكم والمخابرات والتحكّم بعقول الناس الغائبة في الصورة المتدفّقة في أبصارهم وبصائرهم ليل نهار، بل أيضاً ليُحكى المخبّأ، بذريعة السرد الروائي أيضاً، بطريقةٍ تستثمر الشكل الروائي، لكنَّها نابضة بمعايشة الإيقاع الأخوت للفضائيَّات، ومشبَعة بحسّ المتابعة، ليس فقط بما يظهر تحت الضوء، ولكن بما يدور أيضاً في غرف التحكُّم، من مقدِّم البرنامج، إلى رؤساء شعب الأمن القومي، إلى أقبية السجون المظلمة. مولانا لاعب تحت الأضواء يعي أنّ “رجال الدين هم الكارثة التي حلَّت على الدين”. ويعرف ابرهيم عيسى ذو الخبرة والاحتكاك في ميادين البرامج والفضاء، أن يرمي داخل نصّه مداخل إلى الفجوات السوداء في التاريخ الاسلامي بين الحين والآخر ليطرح وجهات نظر “عقلانيَّة مستنيرة” نائية عن عصبيَّة التقليد الدوغمائي. ولا تبدو هذه المداخلات مقحمة في هذه المناسبة، بل من نسيج السرد المندفع بلا هوادة في الكلام كأنه تماماً تحت أضواء كاشفة لبلاتو آخر هو الفنّ الروائي هذه المرَّة. يحكي المعروف والمخبَّأ بلا تحفّظات عن مشكلات التنصير والعنَت الأصوليّ والتشيُّع والملابسات التاريخيّة في شأنه والمعتزلة كتيّار عقلانيّ وآليّات الدعوة المحدثة، واختلاط مشهد الوعظ بخلفيّات الأمن القومي… هكذا، من دون تعسُّف وإقحام نافر، بل في صُلب النَّفَس السردي باللغة الممتازة لـ”مولانا” التي تندفع بتلقائيَّة تجد توازنها المحبَّب بين عفويَّة الحكي المباشر (على طريقة خيري شبلي، ولكن المعولمة) بالمحافظة تماماً على استخدام المصطلحات المألوفة في أيّ بحث أصوليّ في هذه الموضوعات، ودائماً على حدّ صيغة نصّ روائيّ في إمكان القارئ أن يتابعه بنهم من دون الوقوع بأيّ مطبّاتٍ تقلِق إيقاع الرواية لضعف تدبير.
تنتهي الرواية في قلب فجوة سوداء لا عمق لها من الشكّ والخيبة والرعب. لقد دخلت “مولانا” حقل الألغام بذكاء واطّلاع ومعرفة لا تنحو منحى الاسترسال عمقاً، بل تمضي بقوَّة لسان الحال الكاشف في السرد ملقية الأضواء ذاتها على “عالم” هو ما يدور حولنا الآن، وما يمور في كواليسه من مؤامرات وأخطار وإرادات التحكُّم بغرائز السواد الأعظم، وردود الفعل. ويحتدم النصّ مع تقدّمه في الممرّات السوداء الفتنويَّة التي تشهد سفكاً للدماء بتفجير كنيسة حيث يقحمنا عيسى في مآلات مشهديّة هوجاء لا يستقرّ فيها العقل هنا وهناك على صراط مستقيم، كأن اللعبة المجنونة محكومة بمصائر مأسويَّة باتت للأسف وقائع مفجعة في أوضاع بلادنا الراهنة.
“القندس”
القندس حيوان مائي قارض يقطِّع أخشاب الأشجار بأسنانه الحادة ويراكمها سدّاً في مجرى النهر ليكون له بيت تحتها وسط طمي ماء النهر. غالب “مسافر ضال”، يفترش بساطاً على ضفّةِ نهر في مدينة بورتلاند بواية أوريغون، ويأكل تمراً، حين اقترب منه قندس صاعد من النهر، تأمَّله، ثمّ اكتشف انه رمز الولاية، فأمضى بعض الوقت في مكتبةٍ باحثاً عن المعلومات، ليصل إلى نتيجةٍ ليست بالقليلة: “كان جدّنا الأكبر قندساً ولا شكّ… كان عليَّ أن أنتظر أكثر من أربعين سنة حتّى أفهم عائلتي وأنا أصيد السمك على ضفّة ويلامت وأقتسم التمر مع قندس… كيف أثق بعائلةٍ من القنادس في مدينة ليس فيها نهر أصلاً”. مدينته – يا لها من قصَّة – هي الرّياض.
يقسو محمّد علوان الروائي (دار الساقي) بلسان غالب الراوي على نفسه أوَّلا كأنّه ليسوِّغ القسوة التي سيفكِّك فيها مناخاً عائليّاً تحكمه “السدود” و”برودة العلاقات الإنسانيّة”، ولا شيء يجمع بين الأخوة فيه “المنفرطين من رَحْمَين”. عائلة يعتمد أفرادها على ضخامة الذات وعلوّ الأسوار، وجوههم “صفيقة لا يحبّها أهل الحيّ”، وكلّ فردٍ يفترض طبيعة الآخَر افتراضا من دون أن يسأله.
شيئا فشيئا، تتبدَّى نزوات هذا الشاب، السارب في متاهات، عن قصدٍ مفخَّخ كأنَّه ليبعثر حطب السدود نافذاً إلى قلب المأوى ليحكيه في ضوء النهار. يحدث أن سياق السرد لا يبقى على سطح المزاج العائليّ، بل يتوغَّل ليطال هنا وهناك المجتمع والمدينة والحال الإنسانيّ البائس الملتبس بأسربة صحارى من رمال ساخنة. غرائز الصيد الذكوريّة في عروق الشباب، وآباء شاخت أرواحهم النزقة وانشغلوا بالأطفال والرواتب والأسهم، والحياة بينهم مثل مَن “فاجأته عاصفة رمليَّة فقرَّر أن يتجه إلى أيّ وجهة يمكنه أن يتنفَّس فيها بعمق ثمَّ يفكِّر بعدها في مكانه… متمعّناً في غمرة الخراب الجميل الذي يخفِّف الخيبات”. أمامه مدن العالم، وقصَّة عشق يستبيحها السفر ويخفيها المكان حيث “اغتلنا الحبّ معاً ثمّ رقصنا على جثّته في كلّ المدن”. ثمَّ، هذه الحقيقة الجارحة القاتلة: “هذه المدن المحايدة أكثر أماناً على قلوبنا من مدن الشجن المزايد والقلق الأبديّ”، حتَّى أن الأمّ حين تهاتفه طالبة منه الرجوع من سفر “ما منّو خير” يجيبها: “وش عندكم يستاهل الرجعة؟ حرّ وغبار ومشاكل وضيقة خلق”.
تبدو “القندس” في مسارها الافتتاحي، بعد لأي، تهويمات حالة ضياع كامل لشابّ ذي مزاج مستفرد. تتماوج الانطباعات آنذاك كأنّها مزاج الراوي ذاته، ولكن يشدّها إلى المتابعة لغة بارقة بين حين وآخر كاشفة عن تعبير يتكشّف مثل غاية في متاه. ويُفلِح علوان (الروائي) في إحكام مزالق الورطة التي يقحمنا فيها مستشعرين تداعيات إخفاق روح شبه كامل لحياةٍ عابرة حاصرها الجدبُ من كلّ جهة. غالب (الراوي)، يُشبك في نسيج “طفرات” مزاجه التي بها كُتِب النصّ ما يكفي لننتبه إلى أنه أراد الحياة سويَّة عبر فرصة العمل مع أبيه الناجحة، ورعايته لأخته المشبعة بعاطفة الأخ التائق إلى الألفة، وتصوّره المتألّق لموضوع بحث جامعيّ أكاديميّ ذي رؤية متعلّقة بروح المدينة التي ولِد فيها (الرياض). لكنّه لم يجد، لا في الأب الفظّ، ولا في الأخت المأخوذة بظواهر الأمور، ولا في عائلة “القنادس”، ولا في العشيقة المتهافتة أخيراً كمسحوق جاف، ولا في مدينة الرمال والاسمنت إلا الصدّ الذي ليس له من مسوِّغ إلا طبيعة الحياة ذاتها، حياتهم بالتحديد. كلّ هذا تبدّد في سراب، ومشروع البحث تمّ رفضه، والسيّارة التي كان يقودها غالب انقلبت به مرّات حيث شعر وهو يتحرّك “في الحيّز البرزخي داخل السيّارة المتقلّبة بأنها لا تتقلّب بدافع قوى الجذب والطرد والقصور الذاتي، بل لأنَّ الرياض قد تحوّلت إلى مارد هائل وراحت تركل سيّارتي بعنف”. تتفتّق رواية “القندس”، كلّما تقدّم سياقُ السرد المشبوك بلغةٍ مشدودة، عن رؤية نقديّة راديكاليّة لمجتمع غارق تحت سيول المال والرمال. وأفلح علوان في رمي النتيجة أمامنا: إنه لم يتكيّف كقندس، بل تآخى مع كلّ إخفاقاته بشراكة لغةٍ تعينه في “خرابه” لتكون عصب سردٍ يضرب الإخفاق بصيغةٍ تكشف ظلماته تحت ضوء الكتابة الحرَّة.
“يا مريم”
الراوي في رواية “يا مريم” (سنان أنطون، دار الجمل)، ثمانيني، يدعى يوسف، يتلقّى في مستهلّ السرد عبارة تنمّ عن صوتٍ مستَفَزّ لشابّة من أقاربه معبِّرةً عن تناقض أساسي بين رؤيتين لواقع مسيحيّي العراق اليوم: “إنت عيِّش بالماضي عمّو”. يلوذ يوسف بصمته، برقاده في كِنِّه المنزليّ الذي هو في المناسبة بيت قديم في حيّ بغدادي صُمّم ليسع العائلة بأكملها في المستقبل أيضا. يستثير النقاش الذي انتهى بتلك العبارة الحادَّة الذكريات، فيعود في اليوم التالي إلى الصور القديمة، وإلى تمشاء مستحضراً مسار الزمن، يحرِّك أشجانه مشهد “العائلة بكاملها”. وتمتثل أمامه الذكرى السابعة لوفاة أخته حِنَّة، المؤمنة المتشبّثة بتقاليد الصلاة الكلدانيَّة (الكاثوليكيَّة) وطقوسها، وتراتيلها بالآراميَّة أو السّريانيَّة، إلى حدّ أنَّها حجَّت إلى روما، ولاحقاً إلى القدس، ونثرت الذخائر والصور التي أتت بها في أنحاء البيت. يستعرض مصائر أشقائه وحيواتهم وانطباعات غائرة في عمق الزمن. هكذا، يُدخلنا السرد في قلب مشهد مسيحيّي العراق عبر هذه النواة العائليَّة التي منها من عرف الإيمان، ومنها من عرف الشتات، ومنها من كابد الحياة في وطنه بآمال جميلة. ولكن ثمّة الجرح النازف الذي تتشكّل به الرواية ومسارها الداخل في المكان الحميميّ لـ”نسمع” الحكاية، ولنقرأها، ولنرى نكبات زمننا الراهن ووجعه الإنسانيّ. والأصداء المعاصرة قويَّة بأصوات قصف بغداد، وخراب العراق، وضياع البلد “بين إيران والعربان والأميركان”. نحن هنا لسنا أمام شاشة تستعرض القوَّة الأميركيَّة وجموحها الغاشم، إنّما داخل أرض الأشلاء والتهافت وانهيار أوهام الاستقلال والتحرّر، ودائما محمولين فوق صوت إنسانيّ مجروح يتمسَّك بكلمات الأمل وسط تصدُّع كلّ شيء وسقوطه الرهيب.
المفاجأة هي في بنية الرواية إذ ينزاح صوت الراوي بالكلِّيّة إلى الضفَّة الأخرى في الثلث الأخير، إلى مها، الصبيَّة صاحبة عبارة الاستهلال. هنا شابَّة جامعيَّة تحت وابل النفور من الواقع اليومي الطائفي والعبارات والإشارات وانفعالات الحاضر وقلقه ورعبه وارتجاجه واستحالة الشعور بالأمل الذي لا يزال يسكن قلب يوسف بكآبة من دون التخلّي عنه. الانطباعات الهادئة ذوات الجذور من تربية قديمة تقابل مرآتها المضادَّة في هذا الشطر من الرواية الذي يخلخل الإيقاع، ويشدّ عصب السرد إذ يكشف الفجوة المرعبة التي يعمّقها الحاضر بين جيل غلبت عليه آمال الوطنيَّة والمشاركة، وجيل يعي الحياة على حدّ التعصّب والقتل والإرهاب فوق ركام مفزع لعالم قديم. تعبِّر مها بحرقة عن هذا الانفصام بين رؤيتين: “شعرتُ بالذنب لأنّي انفجرتُ كبركان بوجه يوسف، لكنّني لم أعد أطيق تفلسفه وتبسيطه للأمور وطيبة قلبه التي تضيع الحدود بينها وبين السذاجة… سأعتذر، حتّى وإن اختلفنا على موضوع مصيرنا في العراق والطائفيّة المستشرية”.
يسابق هذا الاعتذار، ويسبقه بشراسة، تفجير الكنيسة أثناء القداس الذي كان يقام لذكرى حنّة. فوق الركام والأشلاء تتركنا الرواية بذهول وسط أصداء عميقة للقلق الوجودي المصيري عند أقلّية ذات عمق تاريخي لا يقرأه الإرهاب. يكتب سنان انطون ذاكرة الألم، وحاضر الوقوع في هاوية. النصّ يلتقط الهشاشة الإنسانيَّة وصلاتها الحميمة بالحياة والذاكرة، وسقوط ذلك كله بقوَّة مهبّ ريح قاتلة في أتون النار والموت. نشعر في “يا مريم” بالفسيفساء العراقيّة الجميلة الثريَّة الثمينة المثقلة بمعنى الحضارة واقعةً تحت وطأة التفتّت والتصدُّع والضياع. يطوف بنا النصّ محلّقاً بأنفاس بشريَّة ضعيفة فوق خرائب البلاد ومآسيها وثقوبها الرّهيبة التي يختلط فيها التعصّب والنفاق والجهل والقتل بذلك اللهاث الإنساني الذي يبدو متمسِّكاً بأطياف حياة مفتقدة لدلائلها. إنها رواية تشبه الشاهد على لوعةٍ ونواح وخسارة لها دويّ الفاجعة.
“ساق البامبو”
يشاء سعود السنعوسي صاحب رواية “ساق البامبو” أن يضعنا في أرجوحة ضياع منذ بداية الطريق، فهو ينأى بنفسه وبراويه أيضا عن سياق السرد بوضعه غلافاً داخليّاً يخبرنا بأن الروائي هو هوزيه ميندوزا، ومترجمه إلى العربية هو ابراهيم سلام، كأنّ السنعوسي التقط في شباكه البحرية زجاجة تحوي النص، قذفها بحر الفيليبين إلى شاطئ الكويت. يحكي هوزيه الذي هو أيضاً جوزيه الملفوظ بالعربيّة خوسيه في حين أن اسمه في الكويت عيسى حكايته. اختصاراً، يتبيّن أنَّ هوزيه هو ابن راشد عيسى الطاروف الكويتي الذي دخل على الخادمة الفيليبينيّة لتنجب له ما سوف يبقى الذّكَر الوحيد في عائلته. يخبرنا الراوي أن أبناء الفيليبينيّات من آباء كويتيين وخليجيّين كثر. أبناء بلا آباء، “فالفتيات هناك يتحوّلن إلى مناديل ورقيَّة يتمخَّط بها الرِّجال الغرباء. يرمونها أرضاً، ويرحلون. ثمَّ تنبت في تلك المناديل كائنات مجهولة الآباء”. استلحق راشد فعلته بإجراء عقد زواج من دون إشهار، لكنَّ والدته المتصلّبة رفضت الأمر الواقع بغضب شديد، ولم تهدأ إلا بإزالة “اللعنة” بترحيل جوزافين الخادمة وابنها الوليد إلى بلدها الفيليبين.
هكذا، تتشكَّل بنية السَّرد، حيث تُروى حكاية جوزافين في بلدها، وظروف العيش الصعبة التي تجعل الرحيل من أجل العمل كخادمة حلماً من شأنه فتح نافذة في جدار البؤس. يحكي هوزيه نشأته في الفيليبين حاملاً ذلك الأمل الغامض بأنه كويتيّ، وبأنَّ راشد والده لا بد مستعيده ولو بعد حين. لكنَّه التيه. نشأة بلا هويَّة. أُهملت تربيته وفق كاثوليكيّة فيليبينيّة على يقين أن الإسلام ينتظره مستقبلاً، فلا كان هذه ولا ذاك. الرواية تتأرجح إذاً في متاه الضياع: “لو انَّهما اتّفقا على شيء واحد، بدلاً من أن يتركاني وحيداً أتخبَّط في طريق طويلة باحثاً عن هويَّة واضحة الملامح. اسم واحد التفت لمن يناديني به. وطن واحد أولد به، أحفظ نشيده، وأرسم أشجاره وشوارعه ذكرياتي قبل أن أرقد مطمئناً في ترابه. دين واحد أؤمن به بدلاً من تنصيب نفسي نبيّا لدين لا يخصّ أحدًا سواي.” غسان صديق راشد يتَّصل بهم بعد سنوات: راشد مات، وأوصاني بولده عيسى (أي هوزيه) قبل موته. إذاً، عودة إلى الكويت، التيه الثاني، كما هو عنوان الجزء في الرواية ذاتها. مأساة الرفض والإنكار والتبرّؤ وضياع الحقيقة تبقى قدر عيسى فيما يُفترَض أن يكون بلده الأصل. إنَّها حكاية الإنسان بلا جذور. حكاية النزوات العارضة حين يُبتلى بها مجتمعٌ قائمٌ على صوريّة الحقوق الإنسانيَّة، لا سيّما حين يجعل السنعوسي (هوزيه إذا شاء) من غسَّان ذلك النوع الجديد والفريد من البشر، من فصيلة نادرة أغرب من قبائل الأمازون هي “البدون” في الكويت. وهم أناس “ينتمون إلى مكان لا ينتمون إليه، أو، أناس لا ينتمون إلى مكان ينتمون إليه…” أرجوحة الضياع إيّاها.
النصّ الروائي إذلً يمعن في الفجوات السوداء لمجتمع تتعمَّق فيه إشكالات الهويَّة وتتفرّع بصيغة أناس هم كساق البامبو وهي الشجرة التي لا تحتاج إلى جذور ضاربة في عمق الأرض كي تنمو، يكفي “اقتطاع جزء من ساقها وغرسه بلا جذور، في أيّ أرض، كي ينمو من جديد… بلا ماض، بلا ذاكرة…”
“سعادته… السيّد الوزير”
يقول الباحث التونسي شكري المبخوت إنَّ حسين الواد (صاحب الرواية) “كتب روايته هذه قبل الثورة التونسية بسنوات. وإنه استلهم زمن كتابتها من بعض ما كان يتداول من أخبار عن دولة الفساد والسرّاق وفضائح وزرائها وزعيمهم وعائلته المالكة. وإنَّ الرواية تحكي قصّة عثور احدهم على مخطوط مجهول بالمكتبة الوطنيّة، وبعد أن فشل في العثور على صاحبه، دفعه إلى النشر، منتظراً ان يتعرّف على كاتبه. الرواية هي سيرة انحطاط القيمة أمام سطوة المال. تتوغّل في سراديب السياسة من دون أن تغفل عن واقع الفساد الأخلاقي الذي تحتضنه دولة الحزب الواحد، عبر مظاهر متعدِّدة. تنهض المرأة كأحد ميكانيزمات اشتغال ذلك الفساد وإدارته من السكرتيرة إلى السياسة إلى صاحبة الجلالة الملكية…” (لم أحظَ بالحصول على نسخة من هذه الرواية التي لم توزّع في لبنان حتى الآن حدّ علمي).
¶¶¶
الروايات المحمولة على اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية هي نصوص تغتذي من جروح نازفة في مجتمعاتنا. روايات متفاوتة في بنياتها وصيغ سردها ومقارباتها، لكنّها من دون شكّ تُسمعنا أصواتاً صاعدة من ثقوب عميقة في الروح والمجتمع والحياة التي نعرفها في زمننا الراهن. روايات تندفع بقوّة متحرّرة من ضغوط قديمة كبّلت روح السرد، وحمّلته فوق أساليب مواربة تجنّباً لمواجهة الطغاة والتابوات والسلطات الغاشمة. كأنّها فاتحة ربيع روائي هذه اللائحة. من يجرؤ على كتابة روائية بعد الآن من دون المغامرة خارج لعبة قديمة تجاوزتها هذه النصوص، على الأقل بشجاعتها المتوثبة في كلّ اتجاه؟