روسيا أعلَمُ من الجميع بانهيار معنويات النظام السوري
وسام سعادة
ما تريده السياسة الروسية في الأزمة السوريّة هو أن تكون موسكو شريكة أساسيّة في إنتاج الحل، وأن يكون هذا الحل نموذجاً بديلاً من النموذجين العراقي والليبيّ، خصوصاً في البلدان التي كانت تدور في الفلك السوفياتيّ في يوم من الأيّام، أو كانت على علاقة وثيقة بهذا الفلك.
معنى ذلك أنّه ليسَ للسياسة الروسيّة أدنى شكّ لجهة استفحال أزمة النظام السوريّ واحتضاره، بل أنّ موسكو اليوم هي الأعلم بأزمة “الجهاز العصبيّ” لهذا النظام، وإقترابه من لحظة إنهيار المعنويّات. وفي الأساس، ليسَ عند السياسة الروسيّة أدنى شكّ من أنّ “الدور الإقليميّ الحيويّ” الذي كانت تؤدّيه دمشق في العقود الأربعة الماضية هو الآن في خبر كان، وسيترتّب على سوريا قضاء سنوات عدة قبل أن تعيد صياغة دورها الإقليميّ الجديد، أيّاً كان نوع الحل الذي سيخرجها من الأزمة. ومعنى هذا أنّه لا مصلحة لروسيا في “سوريا ضعيفة جدّاً” وتنزف بهذا الشكل، حتى لو دارت في فلكها أكثر من ذي قبل. وتعلم روسيا جيّداً كما يعلم القاصي والداني أن سوريا بشّار الأسد كان اختل فيها التوازن بشكل سريع في العلاقات السوريّة – الإيرانيّة لمصلحة نوع من هيمنة إيرانيّة بالشكل الذي لا يعبّر عن أقصى ما تتطلّع إليه السياسة الروسيّة في المنطقة.
ثم أنّ روسيا، مثلها في هذا مثل تركيا، تحاول وراثة النفوذ الإيرانيّ في لحظة انحساره. تركيا قامت بذلك حيال حركة “حماس”، ونجحت إلى حدّ كبير، ولا نقول إلى حدّ كامل. وروسيا تحاول ذلك في سوريا، إنّما تقوم بذلك في وضع أكثر تعقيداً بكثير، وحتى الآن لا تبدو أنّها قادرة على النجاح، طالما هي لم تستطع، على الأقل، انتقاء الحدّ الأدنى من الكلمات المناسبة، واقعياً وسياسيّاً، لتسمية الأمور بأسمائها في سوريا، وعدم الإصطدام رأساً بالقضية الوطنيّة للشعب السوريّ في ثورته على النظام البعثيّ. لكن المشكلة الأساسية مع روسيا ليست هنا، بل كما هي الحال دائماً مع الروس، في حسن تقدير الزمن، وليس في حسن تقدير الإستراتيجيا، فهذه بالشكل الذي أوجزناه تبقى أكثر من مبرّرة إن استطاعت التماشي مع تطوّر اللحظة السياسية السوريّة، داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً.
قصارى القول إذاً أنّ روسيا تناوئ أي حلّ للثورة السوريّة لا يتّسع، وبشكل أساسي لرؤيتها للحل، نظراً قناعتها بأنّها الطرف الدوليّ الذي يمتلك رؤية للحلّ، وقدرة على تنفيذه، ومصلحة فيه، كما أنّه الطرف الدوليّ الذي يتطلّع إلى هذا الحلّ كنموذج يؤسّس عليه إذا ما حدثت حالات مناسبة في المستقبل في أحد البلدان التي “تعني” موسكو. وروسيا في هذا الإطار تنطلق من رؤيتين. واحدة أكثر من مرتابة من تعاقب وقوع أحجار الدومينو، كما حدث في ربيع الشعوب الأوروبية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وكما كاد يحدث في ربيع الشعوب السوفياتية السابقة في بداية هذه الألفية، بل يتعاطى “الجهاز” الروسيّ مع هذه الثورات كتطبيقات أو مجالات لـ”الحروب الإستخبارية”. أمّا الرؤية الثانية، فهي تتكامل بشكل عكسيّ مع الأولى، لكنها تأتي بنتيجة مخالفة: أنّ كل مجتمع يصيبه “ربيع” يصير فيه بحكم الأمر المقضيّ أن يتبدّل فيه الطاقم الذي عمّر في السلطة طويلاً.
فإذا كان النظام السوريّ “يعوّل” على روسيا كما يتباهى، فإن روسيا لا تعوّل عليه، بل تعوّل على دورها في إنتاج بديل من هذا النظام، تكون هي شريكة في صياغته من بين شركاء آخرين على الصعيد الدوليّ، ويؤمّن على الصعيد الداخليّ تسوية يكون حدّها الأدنى انتهاء حكم آل الأسد، و”حزب البعث”، وانقضاء عهد الهيمنة الفئوية المذهبية، و”فك الإرتباط” عن إيران، لكنها تسوية تجمع بين تعريف الأزمة بشكل مزدوج، كأزمة نظام ينهار أمام ثورة شعبية عاتية، وأزمة كيان عمرها من عمر الكيان السوريّ نفسه.
وإذا كانت روسيا، مثلها في ذلك مثل تركيا وسائر الدول المعنية بالملف السوريّ، تتخوّف بشكل قويّ من إمتداد التوتّرات المذهبية والإثنية إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط، لكن أحداً لا يعر إهتماماً لـ”الدسائس” البعثية في هذا الموضوع، التي تنسب إلى آل الأسد قدرة سحرية على تحريك “علويي تركيا” مثلاً، وقد فاتهم أن هؤلاء هم في الحد الأدنى من طائفة أخرى مختلفة كثيراً عن الطائفة العلويّة النصيريّة في سوريا، وإذا كان “الأليفي” و”البكتاشية” و”المولوية الشمسية” في تركيا، – إما ترك أو كرد أو تركمان – يمثّلون نحو ربع سكّان البلاد، فإنّ وجود النصيريّة في تركيا يقتصر على المناطق المتاخمة لسوريا فقط، علماً أنّه وبمجرد تتبّع منطق الحركة التجاريّة والإقتصاديّة يظهر أنّ هنا أيضاً لتركيا تأثيراً حيويّاً ضمن النسيج الإجتماعيّ السوريّ، ليس فقط من جهة الأكثريّة المذهبية، بل أيضاً من جهة الأقليّة.
المستقبل