روسيا تغيب عن المشهد/ سلامة كيلة
الحرارة تتصاعد في العراق وسوريا بعد أن أفضى الحراك في العراق، وتصدّر داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، إلى أن يتقدم باراك أوباما بإستراتيجية جديدة تقوم على التدخل عبر استخدام القوة الجوية.
ويظهر الآن أن لا دور لروسيا، ولا فاعلية، وربما تكون في وضع الذهول. حيث يظهر أنها ستخسر سوريا بعد أن خسرت أوكرانيا (رغم ضمها لجزيرة القرم). فقد تقدمت أميركا في لحظة تعتقد أنها تحقق لها “تغييرا إستراتيجيا” بأقل التدخل بعد أن دخلت المنطقة من إيران إلى لبنان في حالة فوضى واستعصاء وعجز عن الحسم، وباتت النظم فيها مربكة وعاجزة عن مقاومة التيار الذي ينهض من الشعب، رغم كل العنف الذي تستخدمه، ورغم اللعب بالقوى الأصولية (داعش خصوصا) التي كانت المدخل لممارسة أقصى العنف ضد الثورة.
أميركا تتقدم الآن لتغيير طبيعة السلطة التي فرضتها السلطة في إيران، ولتغيير طبيعة الهيمنة على هذه السلطة لمصلحة قوى تدعمها. وربما يحدث الأمر ذاته في سوريا عبر تحقيق مبادئ جنيف1 دون روسيا وبإضعاف السيطرة الإيرانية. بهذا تكون روسيا قد خسرت احتمال تطوير العلاقة مع العراق، وكل المصالح التي جنتها من خلال دعمها السلطة السوريا ضد الثورة، والتي كان يجب أن تتحقق في جنيف2 عبر تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحية يكون لها فيها عنصر التحكم.
وربما كان ما حدث في أوكرانيا قد أربك روسيا، وجعلها تغرق في مشكلة لها الأولوية، وذات حساسية عالية فيما يخص اقتصادها ووضعها العالمي، ودورها الأوروبي. لكن كان يظهر منذ سنة 2012 أن روسيا لا تمتلك التقدير المناسب للوضع السوري، وأنها تدعم خطوات لا تقود سوى إلى زيادة ارتباك الوضع وتعقده.
لهذا ظهر أنها تتعامل بغباء مفرط، وتعتقد أن السلطة السورية يمكن أن تستمر، أو أن الخطر القادم من جانب المسلحين كبير بما يفرض أن تبقى السلطة متماسكة، وألا يجري تغيير بنيتها. ومن ثم فإن “سحق الثورة” هو أمر ممكن بعد أن باتت تكرر خطاب السلطة حول المسلحين والإرهاب والأصولية، والمؤامرة.
بعد أقل من عام على الثورة، وقبل أن تعلن الإدارة الأميركية ضرورة تنحية بشار الأسد، طلب باراك أوباما من الروس رعاية مرحلة انتقالية، حينها رأى الروس أنه من غير الممكن نقل السلطة في وضع يمكن أن يؤدي إلى “سيطرة المسلحين على المدن” كما صرّح لافروف وزير الخارجية وهو يلتقي الجامعة العربية. لهذا دعموا سياسة السلطة لسحق “الإرهابيين” من خلال السعي للسيطرة على حمص وتدمير بابا عمرو، ومن ثم “ملاحقة الإرهابيين”.
لكن العمل المسلح توسّع أكثر ضد السلطة بدل أن يُسحق، واضطرت السلطة إلى سحب قواتها من الشمال والشرق السوريين بعد أن ارتبك وضع الجيش وباتت على شفير التمرّد. لهذا أصدرت روسيا وأميركا (ومجموعة العمل الخاصة بسوريا) بيان جنيف الذي بات يسمى مبادئ جنيف1، لكنها دخلت في نقاش عقيم حول أن البيان لا ينص على إزاحة بشار الأسد رغم أنه ينص على تشكيل “هيئة كاملة الصلاحيات التنفيذية”، وبالتالي ستمارس مهمات الرئيس والحكومة ومجلس الشعب.
ثم أضاعت فرصة التفاهم مع أميركا ربيع سنة 2013 بعد أن ظهرت السلطة في أضعف لحظاتها، بعد أن جرى التوافق على أن الحل لا يشمل بشار الأسد. فقد دعمت دخول قوات حزب الله والمليشيات الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني لحماية السلطة من السقوط. لكن الأمر انقلب، فالسلطة باتت تسعى لاسترجاع مناطق واسعة في حمص وريف دمشق بعد أن وضعت يدها على مدينة القصير، وضاع زمن طويل وهي تحاول ذلك دون جدوى. وجرى تتويج هذه المرحلة باستخدام الأسلحة الكيميائية في ريف دمشق من أجل السيطرة عليه قبل الانتقال إلى جنيف2.
لم يظهر أن الروس قد فهموا أن عليهم حسم الأمر وتحقيق التغيير الذي يضمن مصالحهم عبر إبعاد بشار الأسد وتحقيق مرحلة الانتقال، خصوصا بعد أن قامت أميركا بـ “كامل واجبها” في تطويع المعارضة وجعلها توافق على الحل الروسي والمصالح الروسية.
لم يحقق جنيف2 الهدف منه بالضبط لأن الروس لم يفرضوا التغيير في السلطة السورية لمصلحة تيار يقبل مبادئ جنيف1، ويقبل الدخول في مرحلة انتقال بالتشارك مع معارضة وافقت على ذلك.
وربما كان أمام هؤلاء لحظات للمراجعة، خصوصا بعد دعوة المعارضة المشاركة في جنيف2 إلى موسكو وتأكيدها الالتزام بالمصالح الروسية في سوريا، لكن الثورة في أوكرانيا كانت أسرع من أن تتيح لها ذلك، فقد بدا أن روسيا غرقت في “المستنقع الأوكراني” كما غرقت في “المستنقع الأفغاني”، لا تعرف كيف تتصرّف.
ولأجل ذلك قررت السيطرة على القرم كونه الميناء الوحيد لسفنها الحربية، كما تحاول السيطرة على شرق أوكرانيا الموالي لها تاريخيا، وربما لن تنجح في ذلك نتيجة العقوبات التي فُرضت عليها، ولأن خسارتها أوكرانيا سوف تقطع علاقتها مع أوروبا التي هي بحاجة ماسة لها الآن على الأقل.
إذن، تراجع النشاط الروسي في “الشرق الأوسط”، في لحظة كان الوضع السوري ينعكس على محيطه، سواء في لبنان الذي بات مرتبكا نتيجة دور حزب الله في سوريا، ومهددا بالتفجّر، ولم يستطع إلى الآن انتخاب رئيس جديد. وسواء في العراق الذي شهد تحركات في المنطقة الغربية منه تهدف إلى السيطرة على بغداد، لكن دعم المالكي لداعش جعلها تربك الحراك بما فعلت مع المسيحيين في الموصل، ثم الزحف على المنطقة الكردية بعد أن دعم الأكراد الحراك “السني”.
هذه الخطوة الأخيرة التي تمثلت في التقدم نحو أربيل هي التي فرضت تحولا كبيرا، حيث قررت أميركا التدخل (تحت حجة حماية الأقليات)، وأعلنت الحرب على داعش، ومن ثم قررت التدخل في سوريا.
والواقع أن كل ذلك جاء من أجل إعادة صياغة المنطقة الممتدة من العراق إلى لبنان بما يفرض دورا أميركيا أكبر، وهو ما يعني إبعاد الروس الذين فشلوا في استغلال كل الفرص من أجل التقدم لملء “الفراغ الأميركي” الذي حدث بعد الأزمة المالية سنة 2008، وتقرر رسميا بداية سنة 2012 في إستراتيجية واضحة تعطي الأولوية لمنطقة آسيا والمحيط الهادي، حيث كان حينها أمام روسيا فرصة لإنهاء الصراع في سوريا والتمدد نحو العراق، والاستفادة مما حدث في مصر بعد 30 يونيو/ حزيران سنة 2013 بما يجعلها قادرة على السيطرة وتحقيق مصالح مهمة فيها.
ولعل ذلك ما جعلها تغيب الآن عن المشهد، إلا من تصريحات هنا وهناك كما كانت تفعل في يوغسلافيا السابقة وفي العراق قبل الاحتلال، وأيضا في ليبيا.
لقد أوضحت الأزمة الأوكرانية إشكالية الإمبريالية الروسية، التي ظهر بأنها لا تمتلك المرونة ولا الديناميكية التي تحتاجها كل إمبريالية، وبدا أن السلطة مازالت تحتكم لمنطق “الرجل الهرم” و”الغبي” الذي ساد في أواخر المرحلة السوفياتية، فقد انفتح أمامها أفق للسيطرة ليس فقط نتيجة “الانسحاب الأميركي” بل أساسا نتيجة حاجة أميركا للتحالف معها، لكنها لم تعرف كيف تستغل ذلك.
ولا شك في أن التكوين الاقتصادي الذي نشأ بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي ربما يفرض كل هذا التخبط و”البيروقراطية”، والعجز عن تلمس المصالح بدقة، فقد سيطرت المافيا على ضوء بيع القطاع “الاشتراكي”، وتركز النشاط أكثر في القطاع الريعي (النفط والغاز)، حيث باتت المافيا تتصارع للسيطرة عليه.
وبالتالي، فرغم أن روسيا قوة إمبريالية بالمعنى الاقتصادي العام إلا أنها “دولة ريعية” في الواقع، وتخضع لسيطرة المافيا التي هي من يتحكم في القرار وليس قوى الإنتاج الحقيقية التي هي مهمة في الاقتصاد الروسي، والتي تشكّل أساس إمبرياليتها.
لهذا، فرغم أزمة أميركا العميقة، والتي لا فكاك منها، نجد أنها تعيد حصاد ما لم يستطع الروس التقاطه، ولكن هل ستتنازل لروسيا عن سوريا كما كانت مقررة سابقا؟ ربما حاجتها لها تقود إلى ذلك، لكن ما يظهر في الواقع هو أن أميركا هي التي باتت تقرر مصير السلطة السورية وليس روسيا.
إن مجرّد إعلان تدخلها في سوريا سوف يهزّ وضع سلطة باتت متداعية، تقف مرتبكة أمام صيرورة الأحداث التي كانت تعتقد أنها تمسك بها، من داعش التي اعتبرت أنها “لها”، إلى الحماية الروسية وعدم التدخل الأميركي، وهو أمر سيقرر طبيعة السلطة القادمة. والتي لن تكون خارج مبادئ جنيف1، بمعنى أن طرفا في السلطة سوف يكون أساسيا فيها، مع طرف في المعارضة ليس بالضرورة هو الذي شارك في جنيف2.
الجزيرة نت