روسيا و’الدولة السنّية’ في سورية: أعمدة الحكمة الخرقاء
صبحي حديدي
أغلب الظنّ أنّ سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، يعرف عن النظام الحاكم في سورية أكثر بكثير من معلوماته عن سورية ذاتها، البلد والشعب والتاريخ، وفي مسائل ذات حساسية سياسية واجتماعية بالغة، مثل وضع الطوائف والأقليات، وفارق أن لا تكون أقلية إثنية ما، أقلية دينية أو مذهبية أو طائفية بالضرورة، وبالاستطراد الآلي التبسيطي. والأمر يدعو إلى استغراب شديد في الواقع، ليس لأنّ لافروف يمثّل القوّة الكونية العظمى الثانية، فحسب؛ بل لأنّ الاتحاد الروسي، متكئاً على تراث الاتحاد السوفييتي سابقاً، يملك تقاليد عريقة، سياسية واستخباراتية وأكاديمية، في معرفة بلدان الشرق الأوسط، وخاصة تلك التي حكمتها أو ما تزال تحكمها أنظمة صديقة للكرملين.
وهكذا، في الإعراب عن المواقف من النظام، نفهم أن يعيد لافروف تكرار الأسطوانات ذاتها، كلما الناقوس رنّ، حول أنّ تنحي بشار الأسد ‘لن يكون شرطا مسبقا لحل الأزمة’، وأنّ ‘مسألة من سيقود سورية في فترة انتقالية لا يمكن تقريرها إلا من خلال حوار يشمل الحكومة والمعارضة’، وأنّ ‘مطالبة الأسد بالتنحي كشرط لمثل هذا الحوار أمر غير واقعي’… ما لا يُفهم، إلا في سياق الجهل الفاضح أو التجهيل عن سابق قصد، التصريح التالي الذي أدلى به لافروف لإذاعة ‘كوميرسانت إف إم’ الروسية: ‘في حال انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سني في البلد’؛ وهذا ما يقلق الرجل، لأنه سوف ‘يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذي قد يمتد إلى لبنان والعراق’!
مَن هو الناصح الأريب الذي وضع في دماغ لافروف أنّ الأكراد أقلية طائفية، في المقام الأوّل؟ وإذا كان هؤلاء، والحديث يخصّ أكراد سورية تحديداً، ينتمون إلى السنّة، فكيف يمكن أن تهددهم ‘دولة سنّية’، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطىء والقاصر والركيك والغبي؟ وإذا كانت ‘دولة سنّية’ هي الشبح الآتي الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذاً تسمية الدولة الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية وتريد الإبقاء عليها؟ وكيف فات لافروف أنّ السنّة في سورية يشكلون قرابة 70 بالمئة من السكان العرب، وقرابة 8 بالمئة من السكان الأكراد، وبالتالي فإنهم ليسوا ‘طائفة’ هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة؛ ولا يصحّ توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغّرة؟
وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذْ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محلّ اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً.
ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أنّ النظام الحاكم ليس ابن طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهّد مصيرها. وليس للنظام دين واحد، أيضاً، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة… للمفارقة، غير المدهشة أبداً. وكما قلنا، ونقول دون كلل: لن يدافع أنصار النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفّر أنساق متباينة من الولاء العصبوي؛ بل ستحرّكهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على رأسها امتيازات السلطة، ومنابع النهب والفساد، والهروب إلى الأمام من ساعة الحساب العسير حين تنقلب سورية من مزرعة إلى دولة حقّ وقانون.
ولن يكون تفصيلاً عجيباً إذا اتضح أنّ ناصحي لافروف في حكاية الترهيب من مجيء ‘دولة سنّية’، هم أنفسهم الذين نصحوا الرئيس الروسي السابق السابق ديمتري ميدفيديف باختيار صحيفة ‘الوطن’ السورية الخاصة، وليس أية صحيفة أخرى حكومية مثل ‘البعث’ أو ‘الثورة’ أو ‘تشرين’، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري، عندما زار دمشق في أيار (مايو)، سنة 2010. إذْ كيف للناصح أن يجهل أنّ الصحيفة المحظوظة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشدّ رجال الأعمال السوريين نفوذاً وهيمنة وسطوة وسيطرة على ميادين المال والإستثمار والتجارة والتصنيع المحلي؟ وإذا كان يعرف، كما يعرف أي ذي بصر وبصيرة، فإنّ نصحه لرئيسه بأن يستقرّ على هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية هو القصد؛ ليس دون الكثير من المغزى الإيديولوجي، في تفضيل القطاع الخاصّ على الحكومي، وإطراء مافيات المال والأعمال.
مفيد، هنا، أن يعود المرء إلى التشديد على أربعة أعمدة حكمت العلاقات الروسية مع النظام السوري، في عهد الأسد الوريث بصفة خاصة، أوّلها أنّ هذه العلاقات صارت مع الزمن مسألة تحصيل حاصل متفق عليه، ويحظى بإجماع طبيعي؛ لولا أنّ ما معادلاتها الخافية رسّخت منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه يطيح بقسط كبير من روحية المظهر. ذلك لأنّ النظام السوري يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يخفق لهفة على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون؛ فهذه لا تكتسب الأولوية على المستوى العملي التكتيكي فحسب، وإنما قد تكون الغاية القصوى والعليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لا تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل بيسر، بل كانت تقيم التوازن مع نظام الأسد الابن على هذا المعيار، منذ ولاية فلاديمير بوتين الأولى، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو بعد أن ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.
العمود الثاني هو أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية صارت أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)، كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها؛ وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساساً، لم تكن خافية على موسكو.
في العمود الثالث، وهو جيو ـ سياسي بامتياز، إقليمي ودولي، كانت موسكو تضع العلاقات مع النظام السوري في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهج روسيا على امتداد المنطقة، والتي تقوم على قاعدة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة ‘الاعتدال’ مثل أنظمة ‘الممانعة’، وإسرائيل مثل إيران، و’حماس’ و’حزب الله’ مثل السلطة الوطنية الفلسطينية وجماعة 14 آذار في لبنان… والفيصل في هذا كلّه هو مصالحنا الاقتصادية العليا، وهذه وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ فضلاً عن اكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان، من جهة ثانية.
في إرساء العمود الرابع، وهو مضمار اقتصادي واستثماري هذه المرّة، كانت موسكو وتظلّ متلهفة على استرداد سوقَيْن وفيرَيْ المردود في الشرق الأوسط، هما السلاح والتكنولوجيا النووية؛ ومن الحماقة المطلقة أن لا تبذل موسكو كلّ جهد ممكن لاستغلال هذين السوقين على النحو الأقصى المتاح. ولقد اتضح هذا في الإشارات العابرة إلى مستقبل التعاون التكنولوجي النووي بين موسكو ودمشق، ثمّ في الاتفاقيات المعلنة والصريحة مع تركيا أثناء زيارة ميدفيديف التي أعقبت زيارته إلى دمشق. ولم يكن بغير مغزى خاص، يغمز من قناة النظام في دمشق، أنّ رسالة ميدفيديف إلى صحيفة ‘الوطن’ السورية انطوت على تذكير بأنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ مليارَي دولار في عام 2008، لكنه هبط إلى 1.136 مليار دولار في عام 2009. ولعلّ اللباقة الدبلوماسية هي التي منعت ميدفيديف من اقتباس الأرقام النظيرة، الأعلى والمتصاعدة باضطراد، لواقع الميزان التجاري بين الاتحاد الروسي وإسرائيل.
وقبل أشهر، حين لجأت موسكو إلى استخدام حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي دفاعاً عن النظام السوري، كان الناصحون أنفسهم يغطّون حرج الموقف الروسي (ليس بخصوص الـ’فيتو’ وحده، بل إزاء ما بات المشاهد الروسي يتابعه على الفضائيات من جرائم النظام السوري وهمجية قمع الانتفاضة) بتضخيم مصالح روسيا، التجارية والعسكرية والسياسية، تبريراً لمساندة النظام السوري. والصحافة الروسية الموالية للكرملين أخذت تنشر تقارير محمومة عن استثمارات في سورية تبلغ 19,4 مليار دولار، تتركز أساساً في التسلّح والبنى التحتية والطاقة والسياحة. كما ذكّرت بأنّ الاتحاد السوفييتي المنحلّ كان المزوّد الأكبر لأسلحة الجيش السوري، وأنّ الديون المترتبة على دمشق وصلت إلى 13.4 مليار دولار، محت موسكو القسم الأعظم منها فيما بعد، واستبدلتها بعقد تسليح يبلغ أربعة مليارات، جرى التوقيع عليه سنة 2006.
ومع ذلك، بدا مدهشاً أن تراهن موسكو على نظام صار أقرب إلى عصابة محاصَرة، وعصبة تحتضر، لا يدلّ سلوكها الانتحاري إلا على انهيار وشيك، ولم تعد تملك من شرعية إلا تلك يوفّرها الـ’فيتو’ الروسي أو الصيني، والمليارات الإيرانية، بعد ابتعاد دول مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا عن احتساب النظام في عداد جولاتها الدفاعية ضدّ هيمنة القوى العظمى في منظمة الامم المتحدة. وإذا جاز القول إنّ موسكو أخذت تسعى، في الآونة الأخيرة، إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ركام كوارثها الدبلوماسية الناجمة عن تغطية النظام، فوافقت على الإعلان الرئاسي في مجلس الأمن الدولي حول مهمة كوفي أنان في سورية، كما أنّ لافروف تكرّم وتعطّف فتحدّث عن ‘أخطاء القيادة السورية’… فإنّ التنظير الروسي لحكاية ‘الدولة السنّية’ لا يعيد الأمور إلى ما قبل انطلاقة الانتفاضة السورية، فحسب؛ بل يوحي بأنّ الحكمة في العلاقة مع النظام السوري كانت عمياء متعامية لا تبصر الحقائق، ثمّ صارت حمقاء خرقاء لا تصدّق إلا الأكاذيب!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس