روسيا و«المساومة الكبرى» في سوريا
هاني شادي
يرجع الموقف الروسي المتحفظ والحذر من الربيع العربي إلى أسباب وأبعاد عدة، منها ما يتعلق بالجيوسياسة في منطقة الشرق الأوسط ومحاولة التنافس مع الولايات المتحدة والغرب، ومنها ما يتعلق بالداخل الروسي وطبيعة النظام السياسي في روسيا. ويتشابك الخارج والداخل في الموقف الروسي من الثورات العربية، في معادلة روسية برغماتية تختلط فيها بقوة المصالح والهواجس. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي دعت روسيا وما زالت إلى بناء عالم متعدد الأقطاب في محاولة للحفاظ على مصالحها بسبب اقتراب حلف الناتو من حدودها، ومرابطة طائرات هذا الحلف في دول البلطيق على مقربة من العاصمة الروسية، والتهديدات التي تراها محتملة على أمنها من جراء الدرع الصاروخية. سارعت القيادة الروسية مع وصول بوتين إلى سدة الحكم في عام 2000 إلى ترتيب أوراقها على الساحة الدولية والشرق الأوسط . فكان أكثر زعيم روسي في عدد زيارته إلى البلدان العربية أثناء ولايته الرئاسية الثانية (2004 ـ 2008 ) حيث زار مصر والجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية والإمارات وقطر والأردن وليبيا والأراضي الفلسطينية. وأكمل ميدفيديف هذه الزيارات بزيارة سوريا في العام 2010 إلى جانب بعض الدول العربية الأخرى من بينها مصر والجزائر.
وكان الهدف من وراء هذه الزيارات فتح الطريق أمام الشركات الروسية العاملة في مجال الطاقة ومشاريع البنية الأساسية للعمل في هذه البلدان وبيع الأسلحة الروسية لها. وبالفعل تمكنت القيادة الروسية من زيادة حجم التبادل التجاري مع البلدان العربية من أقل من ملياري دولار في عهد الرئيس الروسي الأول بوريس يلتسين في تسعينيات القرن الماضي إلى حوالي 8 مليارات دولار في 2010. ومع أن المبلغ المذكور لا يعد كبيراً مقارنة بحجم التبادل التجاري لروسيا مع دولة مثل تركيا الذي يتجاوز الأربعين مليار دولار، إلا أن موسكو شعرت بالخطر عندما اندلع الربيع العربي.
في مقاله الذي نشرته صحيفة «موسكوفسكييه نوفوستي» الروسية في عددها الصادر 27 فبراير الماضي تحت عنوان «روسيا والعالم المتغير»، يفصح بوتين بوضوح عن هواجسه من تأثير الربيع العربي على المصالح الاقتصادية الروسية في البلدان العربية. فيقول «إن الشركات الروسية تفقد مواقع عملت من أجلها خلال عشرات السنين في أسواق البلدان التي اجتازت «الربيع العربي» ويتم تجريدها من عقود مربحة كبيرة في هذه الأسواق، مثلما حصل في العراق في وقت سابق، وتحتل هذه المواقع شركات الدول التي كانت لها اليد الطولى في تغيير أنظمة الحكم.. وقد يخطر على بال المرء أن الأحداث المأساوية لا يقف وراءها الحرص على حماية حقوق الإنسان بقدر ما تقف وراءها رغبة أحد ما في إعادة اقتسام الأسواق.. على أي حال فإننا لا يمكن أن ننظر نظرة هادئة إلى هذا، ونعتزم العمل مع السلطات الجديدة في البلدان العربية على استعادة مواقعنا الاقتصادية في وقت سريع». إلى هنا ينتهي الاقتباس من مقال بوتين الذي يعكس بوضوح أن الموقف الروسي من الثورات العربية يتعلق في ما يتعلق بأسواق فقدتها أو قد تفقدها روسيا بسبب هذه الثورات، وأنها تسعى حالياً للبحث عن طرق لاستعادة هذه الأسواق، بما في ذلك التعامل مع الحركات الإسلامية الصاعدة في المنطقة والتي عبر بوتين مراراً وتكراراً عن خشيته منها على شمال القوقاز. وربما يفسر هذا جزئياً تشدد روسيا تجاه الثورة السورية، فالأمر يبدو وكأنه يتعلق بحصول موسكو على ضمانات كافية للبقاء في السوق السورية وغيرها من البلدان العربية.
في هذا السياق دأبت روسيا على تعداد خسائرها بسبب الربيع العربي عبر وسائل إعلامها. ففي مقال نُشر في صحيفة «نيزافيسمايا» الروسية ذائعة الصيت يكتب ايغور ناؤموف «إن تغيير وخلع الانظمة الحاكمة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يحمل ضرراً كبيراً للاقتصاد الروسي.. ومن ثم ستتحمل ميزانية الدولة الروسية خسائر بمليارات الدولارات». ويفسر كاتب المقال موقف موسكو من الأزمة السورية بحجم استثمارات الشركات الروسية في الاقتصاد السوري التي يقدرها بـ20 مليار دولار في مشاريع البنية الأساسية والطاقة والسياحة. ويضيف إلى هذه الخسائر بعض العقود العسكرية المحتملة التي تم بحثها مع النظام السوري بمبلغ 4 مليارات دولار، بجانب شطب روسيا لأربعة مليارات دولار أخرى من ديون سوريا كانت مستحقة للاتحاد السوفياتي. ويختتم الكاتب الروسي مقاله هذا بالتحذير من أن ما حصل مع روسيا في العراق في 2003 وخسرت موسكو بموجبه أكثر من 30 مليار دولار (حسب تقديراته) يتكرر اليوم معها في ليبيا وسوريا وبعض البلدان العربية الأخرى بسبب الثورات العربية. ويضيف بعض المراقبين الروس، إلى أسباب تشدد روسيا في موقفها من الثورة السورية، وجود قاعدة عسكرية بحرية روسية في طرطوس. ولكن هذه «القاعدة» في حقيقة الأمر هي مجرد مركز لصيانة السفن وتزويد الأسطول العسكري الروسي بالوقود عند مروره عبر البحر المتوسط. وفي السنوات الماضية كثر الحديث عن تحويل هذا المركز إلى قاعدة عسكرية فعلية للأسطول العسكري البحري الروسي، ولكن لم تُتخذ خطوات عملية في هذا الموضوع حتى يومنا الحاضر.
ويمكن القول ومن دون مبالغات كبيرة إن الربيع العربي أثر بدرجة ما على الداخل الروسي . ففي آذار/ مارس 2011 أوضح استطلاع للرأي أن 49 % من الروس الذين شاركوا في الاستطلاع عبروا عن استعدادهم للخروج إلى الشارع للاحتجاج ضد السلطات الرسمية بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية في روسيا. وبالفعل بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي والتي شابها التزوير، انطلقت احتجاجات شعبية لم يسبق لها مثيل في موسكو ومدن روسية أخرى منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. وطالبت هذه الاحتجاجات بإجراء انتخابات نزيهة وتنحي بوتين عن السلطة وعدم عودته إلى الكرملين. ولكنه عاد إلى عرش الكرملين مرة أخرى عبر انتخابات رئاسية في الرابع من آذار/ مارس الماضي، تقول عنها المعارضة الشعبية إنها كانت مزورة أيضاً. وبالرغم من تراجع حدة الاحتجاجات الشعبية، إلا أن مخاوف موسكو من تأثير الربيع العربي عليها ما زال قائماً.
إن طبيعة النظام السياسي الذي تشكل في روسيا مع صعود فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في عام 2000 تعتبر، في رأينا، عاملاً هاماً في تفسير الموقف الروسي المتحفظ من الربيع العربي. فهذا النظام يعتمد ما يسمى «الديموقراطية الموجهة» التي تسمح بتداول السلطة العليا في البلاد داخل النخبة الحاكمة الضيقة. ومثال اختيار بوتين لميدفيديف ليخلفه في رئاسة روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2008 لدليل واضح على ذلك. كما أن عودة بوتين من جديد للكرملين تعكس بوضوح هذا الأمر الذي بدأ الكثير من الروس يشعرون بالتململ منه.
بجانب ذلك يخشى الكرملين أن يؤثر صعود الاسلاميين في بلدان الربيع العربي على منطقة القوقاز الروسي وعلى المسلمين الروس عموما الذين تقدر أعدادهم اليوم بأكثر من 20 مليون مسلم. ويسود اعتقاد لدى الكرملين بأن الصعود الاسلامي في البلدان العربية قد يُنعش النزعة الانفصالية في القوقاز الروسي من جديد حيث حذر بوتين مراراً من هذا الأمر منذ بداية الربيع العربي. إن الخوف من انتقال «عدوى» الربيع العربي إلى روسيا عامة أو إلى القوقاز خاصة دفعت ببعض المحللين الروس للحديث عن «تحالف أميركي ـ إسلامي سني» ضد روسيا، وهو ما يلقى رواجاً في بعض الدوائر الرسمية والإعلامية الروسية.
بعد عودته إلى الكرملين من جديد لولاية رئاسية ثالثة، لمدة ست سنوات قادمة قد تطول حتى عام 2024 يتردد السؤال: هل سيتخلى بوتين عن بشار الأسد ونظامه؟ يقول بوتين في مقاله المنشور بتاريخ 27/2/2012 «لا يجوز لأحد أن يحاول تنفيذ السيناريو الليبي في سوريا.. ويجب أن يبذل المجتمع الدولي جهوده في سبيل تحقيق المصالحة بين السوريين». وكانت موسكو قد سارعت إلى دعم خطة كوفي أنان ذات النقاط الست، وشاركت بفاعلية في اجتماع مجموعة العمل المتعلقة بسوريا في جنيف في الثلاثين من يونيو الماضي. ورداً على تفسير وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لمقررات لقاء جنيف بشأن ضرورة تنحي الأسد، يقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: «عندما يقول المسؤولون الغربيون انه لا يمكن فعل اي شيء في ما يخص الحوار السياسي ما دام الرئيس بشار الأسد في السلطة، فهذا يعني دعوة للراديكاليين في المعارضة السورية الى مواصلة العمل المسلح ومواصلة استفزاز النظام ليرد بالسلاح». ويعلن لافروف من دون مواربة أن موسكو لن تؤيد اتخاذ إجراءات ضد النظام السوري في مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع. ولكن هذا لا يمنع لافروف نفسه (في إطار البرغماتية) من التصريح أكثر من مرة بأن بلاده لا تدافع عن بشار الأسد أو تتمسك به وإنما تدافع عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة الذي يحفظ سيادة الدول.
إن روسيا تدرك جيداً العجز الحالي للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى عن القيام بعمل عسكري ضد نظام بشار الأسد، ولذلك نعتقد أنها ستواصل سياستها البرغماتية في انتظار إجراء «مساومة كبرى» مع الغرب تحافظ من خلالها على مصالحها الحالية والمحتملة في أي ترتيبات جديدة في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط في إطار ما تدعو إليه مع الصين من ضرورة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب بغض النظر عن سقوط آلاف الضحايا.
كاتب وصحافي مصري مقيم في موسكو
القدس العربي