صفحات الرأي

روّاد الطرب في بلاد الشام/ محمود الزيباوي

 

في خطوة هي الأولى من نوعها، تحيي “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” ميراث “رواد الطرب في بلاد الشام”، وتقدّم مختارات من أعمالهم في أربع اسطوانات تحوي اثنين وستين تسجيلاً تاريخياً تعود إلى الربع الأول من القرن العشرين. يرافق هذه الاسطوانات كتيّب يضم ثلاث مقالات علمية تلقي الضوء على هذه الأعمال المنسية وتحدّد موقعها في خريطة الغناء العربي في زمن “عصر النهضة”.

في العام 1963، استعادت السينما المصرية قصة الحب التي جمعت بين عبده الحامولي، رائد الغناء الراقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وألمظ، إحدى أشهر مطربات عصر الخديوي اسماعيل. كتب قصة الفيلم عبد الحميد جودة السحار، ودبّج حواره صالح جودت، وأخرجه حلمي رفلة، ولعب دور البطولة فيه عادل مأمون ووردة الجزائرية. غاب غناء تلك الحقبة التاريخية عن الفيلم غياباً تاماً، وحلّت مكانه ألحان حديثة من توقيع محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي أدّاها بطلا الفيلم على طريقة مغنّي ستينات القرن الماضي. حملت القصة لواء ثورة 23 يوليو، وجعلت من الخديوي إسماعيل شخصية كاريكاتورية عابثة، مع العلم أنه كان راعي النهضة الغنائية العربية التي انبعثت في ذاك الزمن وعُرفت لاحقاً باسم “المدرسة الخديوية”. دخلت هذه المدرسة في النسيان مع تحوّل المجتمع والذائقة العامة، وأعيد اكتشافها بعد عقود من الزمن من خلال عدد من الإصدارات الغنائية التي يعرفها هواة هذا الفن.

خرج الغناء المصري إلى الضوء مع إعادة اكتشاف الأسطوانات التي صدرت في الربع الأول من القرن العشرين، وعرّف أهل الاختصاص بالمطربين والملحّنين والعازفين الذين تركوا هذه التسجيلات. استند الباحثون في دراساتهم إلى كتابات قديمة، أبرزها كتاب لكامل الخلعي يعود إلى مطلع القرن العشرين عنوانه “الموسيقي الشرقي”، وكتاب لقسطندي رزق عن أحوال “الموسيقى الشرقية والغناء العربي” في الثلاثينات، إضافة إلى عدد كبير من المقالات الصحافية المبعثرة التي تعود إلى تلك الحقبة. سمحت هذه الأبحاث بالتعريف بأعلام الغناء العربي في مصر، وبات لتسجيلات هؤلاء الأعلام جمهور من الذواقة من أهل الخاصة والعامة. عاد الغناء المصري القديم إلى الحياة، أما الغناء الشامي فلم يجد إلى اليوم من يعيد اكتشافه، وبقي أعلامه منسيين، مع العلم أنهم تركوا كمّاً كبيراً من التسجيلات المحفوظة على أسطوانات أصدرتها الشركات التي نشرت نتاج مطربي مصر. أعاد البحّاثة رسم خريطة الغناء المصري في الفترة التي سبقت ظهور الأسطوانات، وعرّفوا بنتاج كبار المطربين الذين شكّلت تسجيلاتهم امتداداً للأساليب المتبعة في تلك الفترة. في المقابل، بقي نتاج أهل الشام في الظلمة، ولم يصلنا منه سوى بعض الأخبار والشذرات من هنا وهناك.

 

الميراث المجهول

يشكل إصدار “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” أفضل مقدمة للتعريف بهذا النتاج المجهول الذي صنعه مطربون ومطربات منسيون، منهم من نعرف عنهم القليل، ومنهم من لا نعرف عنه سوى الإسم والصوت. كيف تكوّن هذا الغناء، وما هي أبرز مقوّماته وخصائصه؟ تستكشف ديانا عيتاني مقوّمات “الحياة الموسيقية في بلاد الشام في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين” من خلال الكتابات القليلة التي تناولت هذا النتاج، منها مقالات من صحيفة “لسان الحال” تعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين، ودراسة لعبد اللطيف فاخوري عنوانها “الآلات الموسيقية والمطربون ومجالس الغناء في بيروت من خلال دواوين شعرائها”، وأحاديث تركها الزعيم السوري فخري البارودي في أوراقه ومذكراته التي صدرت بتحقيق دعد الحكيم عام 1999. اشتهرت في بلاد الشام كوكبة من الموسيقيين والعازفين برزوا في الفترة التي سبقت ظهور التسجيلات والأسطوانات. في العاصمة السورية، برز يوسف بن فتحي العش الدمشقي، وجرجي الراهبة، وسلوم انجيل الدمشقي. في بيروت، سطع نجم صالح ادريس صاحب “أجمل صوت عرفته بيروت في منتصف القرن التاسع عشر”، كما لمع اسم حنا السيقلي. تبعهما في مطلع القرن العشرين العواد شكري السودا والمطرب فيليب الشوشاني، و”المنشد الفني والبلبل العربي بولس أفندي صلبان”، “أمهر المغنين في البغدادي والمعنّى والقرّادي والعتابا”، على ما كتب محرر “لسان الحال” في آذار 1903. في ذلك العام، وضع شكري السودا ألحان مسرحية “عروس ليالي الطرب” لشبلي ملاط، وعُرضت المسرحية على خشبة مسرح “زهرة سوريا” في بيروت.

اقترن الغناء بالمسرح، ودخل مسرحيات مارون النقاش وأبي خليل القباني، وكان أشهر ممثليه الحاج عبد الرحيم أفندي الصفح وحليم أفندي النحاس. بين التياترو والكازينو، تقولب الغناء الشامي وأضحت له طرقه وسننه. بحسب شهادة الزعيم فخري البارودي، كانت بداية المنهاج وصلة غناء من أحد الرجال، “وكان أكثر رؤوس التخوت من المصريين، فيفتتح بوصلة موشحات، ثم ليالي، ثم تقاسيم ودور من النغمة التي غنّوا بها الموشح”، وكان الختام قصيدة تُفتتح ببيت يقول: “آه يا أنا ويش للعواذل عندنا/ قم ضيع العذال وواصلني أنا”. بعد هذه القصيدة التي قد تكون من أي بحر ومن أي قافية، يسدل الستار معلناً الإستراحة، ثم تبدأ وصلات الرقص التي تشارك فيها راقصات عديدات، وتنتهي هذه الوصلات برقصة تؤديها “رئيسة راقصات من ذوات الصوت الرخيم تغنّي قصيدة على الوحدة”، تتبعها “تمثيلية مع أجمل بنت بين الراقصات”، لتسلية الناس.

خارج هذا النمط، كان للغناء موقعه في الأعياد الدينية والحفلات الخاصة بالمناسبات المتنوعة، وكان له أربابه وأسياده. أسس عمر الجراح القانوني جوقاً مع شقيقيه ابرهيم العواد ومحمد الجراح عازف الكمان. وكان لبديع محسن جوق خاص به. وبرز من تلامذة أبي خليل القباني المغنّي الشيخ عبد الله أبو حرب والشيخ رشيد عرفة وعبده المولى الذي كان يغنّي بمصاحبة سعدون حسون على العود “على طريقة القبضايات، أي مواويل بغدادية وشروقية وعتابا”. من النساء، اشتهرت “المطربة المتفننة” ليلى، كما اشتهرت مغنية تدعى هندية، إلى جانب كوكبة من المغنيات اليهوديات، منهن رحلو الترك، رحلو سلطانة، بنات الشطاح، نظيرة عنبة، بدرية مواس، بدرية سعادة، بنات مكنو حسية، ومريم وروجينا طيرة، شفيقة سمحة، وحسيبة موشي. احتلت صلحة الأبيض الواجهة، “وكان غواتها من أرقى الدمشقيين حتى أن أحدهم كان ينام على عتبة بابها حتى الصباح، إذ لم تستقبله”.

عرفت دمشق كذلك عدداً من المغنيات المسلمات، منهن رسمية جمعة، وكانت كفيفة البصر تضرب بالعود ولا تحضر إلا حفلات النساء. وضاربة القانون فهمية، و”شقيقاتها اللواتي كن يضحكن الحضور”. لم يتقبل مجتمع دمشق المحافظ ظهور المغنيات والممثلات، مما دفع عدداً منهن إلى الانتقال إلى مصر. كما هو معروف، كان الشيخ أحمد أبو خليل القباني من أوائل منشئي المسرح العربي في القرن التاسع عشر. جمع بين الأدب والشعر والغناء، وأسّس في دمشق جوقة مسرحية قدّمت روايات عدة من تأليفه وتلحينه، فقامت عليه قيامة مشايخ الشام، وأنكروا عليه إتيانه بهذه البدعة، ورفعوا تقريراً ضدّه إلى دار الخلافة في اسطنبول، فأمرت بوقف نشاطه، غير أنه عاد إلى مزاولة التمثيل في عهد الوالي مدحت باشا، وتوقف مرة أخرى عن العمل المسرحي عند إقصاء هذا الوالي، وانتقل إلى الإسكندرية، وأنشأ فيها فرقة نالت أكبر نجاح، وبات مسرحه “مورداً عذباً يؤمّه الكبراء والأمراء والشعراء لمشاهدة رواياته، وجلّها من منشآته”، كما كتب كامل الخلعي في مجلة “التياترو” المصرية عام 1924.

شكّل سفر القباني حالاً من شبه الانقطاع في تاريخ المسرح السوري، بينما تطوّر المسرح بشكل سريع في مصر التي احتضنت الفنانين الوافدين إليها من هنا وهناك، وكانت للمرأة مشاركة كبيرة في هذه النهضة. حين أنشأ القباني مسرحه في دمشق، اضطرّ إلى إعطاء أدوار النساء الى الصبية، ولقّبه أعداؤه من المتزمتين بـ”مزيّف البنات”، وعندما سافر إلى مصر عام 1884، ضمّ إلى فرقته ممثلة ومغنية تُدعى ملكة سرور. من هذا المسرح أيضاً وأيضاً، خرجت مريم سماط وشقيقتها لبيبة. ودخلت هيلانة بيطار في فرقة سلامة حجازي، كما دخلت ألمظ ستاتي وشقيقتها إبريز فرقة سليمان قرداحي.

في بداية عصر التسجيلات، برزت مغنية بيروتية يهودية لُقّبت بـ”بلبل الرياض الشامية”، هي الست حسيبة موشي التي ذكرها فخري البارودي في أوراقه، وكانت من أوائل المطربات الشاميات لصالح شركة غرامفون عام 1908. تبعتها السيدة ثريا قدورة القدسية، ثم نجية الشامية، وعلياء الأطرش، والدة فريد وأسمهان التي سجلت مع يوسف تاج العديد من المجانا والعتابا.

بعد مقالة ديانا عيتاني، نتعرف إلى “أوائل التسجيلات في سوريا ولبنان وفلسطين” من خلال مقالة أخرى من توقيع برنار موصلي وجان لامبير. في القرن التاسع عشر، ظهر منظّرو الموسيقى الأوائل، وهم الدمشقيون محمد العطار ومخايل مشاقة والإمام صالح الجضبة. دخلت بلاد الشام في مرحلة من التبادل الثقافي منذ حملة محمد علي باشا التي استمرت من عام 1831 إلى عام 1840، وتوطّد هذا التبادل في العقود اللاحقة. ساهم عدد كبير من الفنانين الشوام في بناء “عصر النهضة” الذي لمع في مصر. كان أبرز هؤلاء الحلبي شاكر أفندي، الدمشقي أبو خليل القباني، ثم أديب اسحق ونجيب الحداد. في الحقل الموسيقي، لمعت عائلة الشوا الحلبية، في مقدمها أنطون الذي خلفه ابنه سامي الذي لُقّب بـ”أمير الكمان” حتى وفاته في 1965. كما برز طيرة حكيم، صالح موسى باشا الدرويش، جرجس الرحبة، كميل شامبير، والعوّاد نشأت بك مخترع العود الصغير المعروف بـ”نشأت كار”. صدرت أوائل التسجيلات على أسطوانات في مصر عام 1903، وظهرت في بلاد الشام بعد ثلاث سنوات. أصدرت ثلاث شركات أجنبية أول التسجيلات الشامية، وهي شركات أوديون وزونفون وغرامفون. تعرف الجمهور من خلال هذه التسجيلات إلى أصوات محمد العاشق وسلمو الميداني من دمشق، وبولس صلبان ومحمد توفيق من حلب، ومحمد الجاويش من حمص. من بيروت، خرج عبد الرحيم الصفح، ابرهيم الغلاييني، سعيد الدباس، ميشال حبيس، الياس شهوان، حسيبة موشي، رحلو جرادي، الست روز، عبد الفتاح قباني، ومحيي الدين بعيون. إلى جانب هذه الأسماء حضر “المطرب المتحجب” الذي لم يعلم باسمه أحد. من يافا، خرج الشيخ أحمد الشيخ، محمد السباسي، أحمد الحنفي، أحمد تليني، وأحمد التنير. قاد أنطون الشوا مجموعة الموسيقيين التابعة لشركة غراموفون، وتبعه في هذا العمل ابنه سامي “أمير الكمان”.

نافست الشركات الأجنبية الثلاث شركة محلية أنشأها بطرس بيضا وابن عمه جبران، من المصيطبة في بيروت. تحولت شركة “بيضا أبناء عم” إلى “بيضافون” في 1912، وتعاونت مع شركة أوديون الألمانية، وانشأت فروعاً لها في القاهرة ويافا وبغداد والبصرة والموصل، ثم توسّعت وبلغت تركيا وايران، وباتت شركة عالمية. أطلقت هذه الشركة العديد من الأصوات الشامية، في مقدمها ابن عم صاحبيها بطرس وجبران “زعيم اللون البغدادي” فرج الله بيضا، المنشد اليافاوي الشيخ أحمد الشيخ، و”المتفنّن بالقصائد” محيي الدين أفندي بعيون.

بين الماضي والحاضر

بعد دراسة برنار موصلي وجان لامبير، مقالة لمصطفى السعيد تتناول الأعمال الصادرة على الأسطوانات الأربع، وهي مجموعة من اثنين وستين تسجيلاً لثمانية وعشرين مطرباً من سوريا ولبنان وفلسطين. تضم الأسطوانة الأولى تسعة تسجيلات لفرج الله بيضا وستة تسجيلات لمحمد العاشق، وتحوي الأسطوانة الثالثة ست قطع لأحمد الشيخ وثماني لمحيي الدين بعيون. تحمل الأسطوانة الثالثة ثمانية عشر عملا لأربعة عشر مطرباً ومطربة، منهم باسيل حجار، حسيبة موشي، وبولس صلبان. الأسطوانة الأخيرة، فيها ثلاثة عشر تسجيلاً بأحد عشر صوتاً، منها متري المر وثريا قدورة ويوسف تاج.

اختارت “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” أعمالاً من التسجيلات الأكويستيكية التي سبقت عصر الكهرباء، أي ما قبل عام 1925، والغالبية العظمى منها بالفصحى. بحسب الموسيقي اللبناني سليم الحلو، كان فرج الله بيضا “إمام اللون البغدادي”، أنشد العتابا والمعنّى والميجانا، “وقد قيل يومها إنه باعث هذا اللون من الغناء الذي عزز كثيراً على يديه، فكثر عدد المؤيدين له، وأصبح سيد الصالات والمحافل الغنائية الخاصة التي كانت تعنى بالطرب القروي”. كما كتب الشعر، وتميز شعره “بالعفوية والكلمات الشعبية التي تعلق بسرعة في ذهن المستمعين”. “خدم في قافلة الفنانين مدة ثلاثين عاماً حافلة بالنتاج الغزير الذي كان القسم البارز منه محصوراً باللون البغدادي”. في المقابل، كان محيي الدين بعيون “المطرب الشعبي الأول الذي طبقت شهرته الآفاق”. حصد نجاحاً عظيماً، وكان “نجم صالتي الباريزيانا وكوكب الشرق والصالات الغنائية الصيفية، والمحافل الخاصة”. برز بولس صلبان في تلك الحقبة، و”لم يكن نصيب مجده أقل حظاً من زملائه المطربين”. “احتل مكانة فنية مرموقة في أوساط أقرانه بشهادة الذين استمعوا إليه وشهدوا بخامته الصوتية”. “تحلى بأجمل الأصوات قاطبة وقد اعترف له زملاؤه بذلك”.

تبدو الأناشيد والقصائد قريبة من المناخ “المصري” المعروف. في المقابل برز اللون المحلي في مواويل من الميجانا والعتابا ألفناها بأصوات معاصرة. نكتشف “قدك المياس” بصيغتها الأصلية بصوت فرج الله بيضا، ونفاجأ بـ”يا غصن نقا” بصوت محمد العاشق، كما نفاجأ بـ”لما بدا يتثنى” بصوت محيي الدين بعيون. غنّت حسيبة موشي “يلبقلك شك الألماس” و”تحت هودجها” التي ألفناها بصوت فيروز. غنّى نعيم سمعان “يا حنينة” في صياغة مجردة تعود إلى عام 1918. نكتشف أغنية طروب الذائعة الصيت “عالصالحية يا صالحة” في تسجيل بصوت بدرية سعادة صدر في 1911، ونسعد بسماع “يا من يحن إليك فؤادي” على لحن “يا مال الشام” بصوت متري المر في تسجيل من 1942، وهي الأغنية التي استعادها الأخوان رحباني في حلة أنيقة بصوت فيروز عام 1957. نسمع حكمت حجار يؤدي مع الجوقة “عاليادي اليادي” في تسجيل من 1925، ويبدو لنا هذا التسجيل “معاصراً” للتسجيلات العديدة التي ألفناها لهذه الأغنية الفولكلورية.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى