رياح التغيير و… المحنة!/ أكرم البني
مازال السؤال يتكرر عن الأسباب التي أوصلت الثورة السورية إلى محنتها الراهنة، ولماذا لم تسلك مساراً يقارب الثورات الأخرى أو البلدان العربية التي طاولتها رياح التغيير؟
تجربتا تونس ومصر تشابهتا في تنازل الحاكم عن سلطته تلبية لمطالب الحراك الشعبي ولضغوط الدول الحليفة، من أجل إنقاذ جوهر النظام والدولة، ولعب الجيش دوراً رئيساً في ضبط انتقال السلطة، بينما كانت النتيجة مختلفة في الحالة السورية، حيث لا فرصة لدور مستقل أو شبه مستقل للجيش الذي تم زجّه في المواجهة منذ البداية، وليبقى ما حدث من انشقاقات في صفوفه محدود الوزن والتأثير، في ظل خصوصية بنيته التكوينية وعناصر تماسكه أيديولوجياً وأمنياً. وزاد الأمر تعقيداً انتماء السلطة السورية إلى محور نفوذ في المنطقة، يختلف ويتعارض مع ما يسمى المحور الغربي الذي انتمت إليه أنظمة الثورات الأخرى. ففيما تشدد المحور الأول في دعم السلطة القائمة ومنع تقديم تنازلات يمكن أن تمس نفوذ موسكو وطهران في المنطقة، كان للثاني تأثير مهم في تعجيل التغيير ما إن رفع يده عن الأنظمة الحليفة وحضّها على تقديم التنازلات السياسية لإرضاء الحراك الجماهيري المتصاعد… والأهم سورياً عسكرة الاحتجاجات وتحوّلها من مسارها السلمي والسياسي الى مسار عنفي وأهلي، فاللجوء إلى القمع المفرط أفضى إلى شحن الغرائز وتغذية ما يعتمل في المجتمع من روابط وصراعات متخلفة واستيلاد القوى الاسلاموية المتطرفة، تالياً شرعنة العنف بدواعي الحفاظ على الأمن ومواجهة الإرهاب وعصاباته المسلحة.
كان للعامل الخارجي، العربي والدولي، دور رئيس في رسم منحى التغيير في ليبيا واليمن، إن عسكرياً عبر التدخل المباشر لحلف شمال الأطلسي في إطاحة القذافي، أو عبر رعاية تسوية سياسية ضمنت نقل السلطة في صنعاء وفتحت باب المشاركة أمام المكونات السياسية والاجتماعية، بينما مر وقت طويل قبل أن يدرك السوريون خصوصية وطنهم وأنه لا يقارن بأي نموذج آخر، انطلاقاً من موقعه المتشابك مع أهم الملفات الحساسة في المنطقة، ومع جوار اسرائيلي يحظى عند الغرب بالكلمة الأولى حول التغيير في بلد يحتل جزءاً من أرضه وحافظ نظامه على جبهة الجولان آمنة مستقرة طيلة عقود… وربطاً بالتخوف من خطورة أن يفتح التدخل العسكري الباب أمام تطورات غير محمودة، كتعزيز وزن الجماعات الأصولية، أو تفكيك الدولة وإشاعة الفوضى، أو هز استقرار المنطقة مع ترجيح اتساع رقعة الصراع إقليمياً وانتقاله إلى البلدان المجاورة، عبر مكوّنات عرقية وثقافية متداخلة.
بعبارة أخرى كان الرهان خاسراً على تدخل عسكري في سورية شبيه بما حصل في ليبيا، أو على دور أممي في وقف العنف وفرض تسوية سياسية على المتصارعين كحالة اليمن، بل على العكس بدا كأن «صراع الأمم» يعود ليفرض نفسه بأوضح صورة في سورية، ما أشعر الناس بأن ثمة ما يشبه التواطؤ بين الأطراف الخارجية على إبقاء الصراع الدموي مفتوحاً، واستثماره في حسابات الهيمنة والنفوذ.
شجعت رياح التغيير بعض الأنظمة العربية في المشرق والمغرب، على المبادرة لإجراء إصلاحات استباقية تنزع صواعق التفجير الداخلي، إن في تخفيف قبضتها واستئثارها بالثروة، وإن بسن قوانين تراعي مصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم. وكان مثل هذا الخيار هو الأفضل والأقل تكلفة في معالجة الأزمة السورية بدل اللجوء إلى العنف المفرط، لكنه الأصعب على النظام الحاكم ومصالح بعض المتنفذين فيه، ربطاً بتكوين سلطوي ينتمي إلى النوع الرافض لتقديم التنازلات والذي لا يقبل أية مساومة على بقائه، بل ويرجح أن يخوض معركته على الحكم إلى النهاية كمعركة وجود أو لا وجود، وأن تتصرف أركانه وكأن ليس من رادع يردعها لاستخدام كل أدوات القمع في رهان على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، متوسلة إنكار مشروعية حراك الناس ومطالبهم، وتصويرهم كأدوات متآمرة يحل سحقها.
واستدراكاً، ألا يصح القول إن الأمور ما كانت لتذهب إلى هذا الدمار والخراب لو بادرت السلطة الى الاعتراف بالأسباب السياسية للأزمة، وعملت لمعالجتها جذرياً بتقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والمشاركة والعدالة وسيادة القانون؟… بما يعني التوجه الجدي الى صوغ مصادر الشرعية ليس بفعل القمع والعنف والشعارات الطنانة وادعاء حماية الأمن والاستقرار ومواجهة الارهاب، بل على أساس نيل رضا الناس لما تقدمه من ضمانات لحريتهم وحقوقهم وعيشهم الكريم.
والحال، في ضوء صراع دموي ذهبت أطرافه بعيداً في العنف والتعبئة المتخلفة، أن الثورة لم تعد بالنسبة الى السوريين ذلك الحلم الجميل الذي تطلعوا إلى تحقيقه ليغدو مجتمعهم أحسن حالاً بتحرره من الظلم والقهر والاستغلال، بل لم يعد ثمة شيء يقيني ماثلاً أمامهم، لا حلول عملية ولا نظرية… كل ما هنالك غموض وقلق يحاصر الجميع واستشعار مرحلة طويلة من استمرار العنف والإمعان في تخريب حيوات السوريين واجتماعهم ومستقبلهم، خصوصاً وقد فقدوا الثقة بدور أممي جدي يلزم الجميع بخطة طريق تُخرج الوضع السوري مما هو فيه، وخاب أملهم بالقوى الوطنية التي بدت عاجزة عن المبادرة لوقف العنف ونقل الصراع إلى سكة المعالجة السياسية.
وإذ نعترف بأن ثورات «الربيع العربي» مازالت تعاني وتكابد وتكتنفها الصراعات وكثير من العثرات والصعوبات على طريق إعادة السياسة إلى المجتمع، بعدما غيّبتها آلة القمع والاضطهاد لعقود، نعترف أيضاً بأن أسباب هذه الثورات وثمارها لا تقتصر على الوجه السياسي ومجرد تغيير الأنظمة القائمة، بل تدشن- على رغم شدة المحنة- قطيعة مع ماضٍ طويل من الوصاية والاستبداد، واضعة الحجر الأساس لتغيير جذري في جوانب الحياة، بخاصة الفكرية والأخلاقية، وأقله إيقاظ الشعوب من سباتها وتغذية ثقتها بنفسها وإثارة قيم الحرية والكرامة والعدل في أرواحها.
الحياة