رياض الترك ان حكى
الياس خوري
منذ اربعة اشهر، وسط ضجيج التصريحات التي ترافق الثورة الشعبية السورية، لم نستمع الى ‘ابن العم’. اكتفى رياض الترك قبل يومين من اندلاع الثورة باعلان بدايتها قبل ان تبدأ في مقال نشرته ‘القدس العربي’ (13 آذار/مارس 2011) حين قال ان ‘سورية لن تبقى مملكة الصمت’.
انكسر الصمت لكن القائد الذي صار رمزا للنبل والشجاعة والصبر والتواضع، سكت مفضلا العمل النضالي الميداني تحت الأرض على الكلام. تساءل الكثيرون اين رياض الترك، وماذا يفعل، لكن المناضل الذي ملت منه السجون، اختفى عن الأنظار، وقرر ان يترك الكلام لجيل جديد يصنع اليوم في سورية واحدة من اكبر ملاحم العرب في العصر الحديث.
يوم الجمعة 29 تموز/ يوليو استمعنا الى ‘ابن العم’ من خلال حوار نجح محمد علي الاتاسي في اجرائه في مكان ما، ونشر في جريدة ‘الحياة’. ارتفع صوته الذي يمزج الحكمة بالتواضع، والرؤية بالعمل الميداني المقاوم.
قرأت الحوار وانا ارى امامي ‘ابن العم’ كما صوره الأتاسي في فيلمه، وهو يروي تجربة سجنه الانفرادي الرهيب كمن يروي حكاية، ويلتمع في عينيه بريق الأمل الذي ينشر الضوء على مساحات عتمة العرب.
الضوء الآن في كل مكان من سورية، ضوء يشع من الحناجر والصدور العارية والدم الذي يسيل. ضوء تصنعه ارادة الحياة وهي تنفجر فينا بنبض الكرامة الانسانية والشعور بأن البداية التي صنعتها درعا وبلدات حوران ودساكرها ثم امتدت الى كل مكان لن تتوقف قبل نهاية الاستبداد.
نستطيع مناقشة الكثير من الأفكار التي طرحها ‘ابن العم’ في حواره مع محمد علي الأتاسي. لكنني توقفت طويلا امام هذه الفكرة: ‘ … لكننا اليوم امام شعب يخرج عن صمته ويصنع لغته ويصوغ شعاراته ويبدع تحركاته، فلنستمع له بتأنٍ، ولنمشِ معه لا امامه، ولنمتنع عن مصادرة صوته او تجييره لمصلحتنا’.
تحمل هذه الفكرة ملامح التحولات الجذرية التي صنعتها الثورات العربية في البنية الفكرية، وفي مفهوم التغيير. رياض الترك يملك من الشجاعة الأخلاقية ما يجعله ينأى بنفسه عن قاموس قديم عن الطليعة الثورية. الشعب يصنع اليوم طلائعه في المواجهات السلمية التي يخوضها، وهي طلائع نابعة من التجربة الملموسة، وتفتح آفاق التغيير واحتمالاته المتعددة.
هذه الشجاعة هي اسم آخر لتواضع المناضل الذي صهرت السجون ارادته. ‘ابن العم’ يعرف، من تجاربه المتعددة، منذ مقتل رفيقه فرج الله الحلو وتذويب جسده بالأسيد، الى اعوام السجن والزنزانة الانفرادية في اقبية الاستخبارات العسكرية في دمشق، ان صوته واصوات رفاقه قرعت جدار السجن، لكن هذا السجن لن يتهاوى الا اذا حطّم الشعب ابوابه.
من المقابلة عرفنا ان ‘ابن العم’ يجول في المدن السورية المختلفة، يساهم في بلورة مشروع التغيير، لكنه يعلن ان هذه الثورة لها اليوم ‘طعم وشكل وروح الشباب’.
نستطيع ان نتوقف طويلا عند المضمون السياسي للحوار، الذي يؤكد على ثلاث نقاط:
نجاح الثورة في تهشيم وجه الاستبداد وكسر هيبته وضعضعة نقاط قوته.
الاعلان الواضح ان لا مجال لأي تسوية قبل سقوط رأس النظام واجهزته.
التمسك بوحدة الشعب السوري ووحدة المعارضة واعتبار الوثيقة التي اصدرتها لجان التنسيق المحلية بعنوان ‘رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سورية السياسي’، مرجعا برنامجيا للثورة، يسمح بانتقال هادئ للسلطة.
تشكّل هذه النقاط الثلاث رؤية برنامجية للمعارضة الشعبية السورية، وتضع حدا فاصلا بين مشروع التغيير الذي تبلوره المظاهرات وبين محاولات جرّ المعارضة الى فخ التسويات التي لا تحمل سوى معاني اضفاء شكل تجميلي على نظام يدوس الوجوه بالأحذية ولا يرتوي من الدم. وهي محاولات باءت كلها بالفشل، خصوصا بعد الحوار الوطني الناقص الذي قاده نائب الرئيس السوري، وكان تنامي القمع الوحشي اولى نتائجه.
تأكيد ‘ابن العم’ على ان القرار هو لتنسيقيات الداخل لا يهدف الى وضع شرخ بين الداخل والخارج، بل يسعى الى تصويب العلاقة بينهما. فالمعارضة في الخارج يجب ان تكون في خدمة الثورة الشعبية وان تشكل صوتها ورديفها وليس العكس.
لم يدّعِ المناضل الثمانيني شيئا لنفسه، اكتفى من الكلام بالتأكيد على المسألة المركزية، التي تتمثل في مشروع اسقاط الاستبداد، ورسم بصوته جسر التواصل بين اجيال المناضلين الديمقراطيين المختلفة.
يجسد هذا الرجل اجمل وانبل ما انتجه اليسار العربي خلال مساراته المختلفة. اعاد حزبه الى اسمه القديم، ‘حزب الشعب’ بعدما اضاف اليه صفة الديمقراطي، كان اول من رفع الصوت معلنا رفضه للتوريث وللجمهوريات الوراثية، اقتحم عتمة القمع، حين كان القمع يشلّ الناس، بشجاعة المؤمن بالحرية حتى الموت، فصار هو نفسه اسما آخر للحرية.
لأبن العم، حيث هو، وحيث يناضل في الصفوف الأمامية للثورة الشعبية تحية حب وامل.
له ولأمثاله، لرفاقه ورفيقاته، ولشعبه العظيم، يُزهر الياسمين الدمشقي وينمو على الأيدي التي تُسقط السجن وتُعلن ولادة الحرية.
القدس العربي