ريغوبيرتو باريذس.. لم ينظر إلى الخلف
غدير أبو سنينة
لم تطل إقامتي في الهندوراس لأكثر من يومين، رافقت خلالها الشاعر الهندوراسي الفلسطيني رولاندو قطان بقراءاتٍ بالعربية لقصائده المترجَمَة عن الإسبانيَّة، لتتزامن مع حفل توقيع ديوانه “حيوان بلا هوية”. فترةٌ قصيرةٌ عرّفتني إلى أبرز شعراء الهندوراس ريغوبيرتو باريذس، الذي قدّمه لي قطان بوصفه والده الروحي.
ذهبنا لمقهى صغير “باراذيسو”، الذي أقامه باريذس في بلدٍ يعدُّ من أخطر بلدان العالم وأكثرها ارتفاعاً في نسبة الجريمة، ولهذا فالاهتمام الثفافي على مستوى الدولة يظلُّ محدوداً، لذا حوّل باريذس مقهاه الثقافي إلى نموذجٍ مصغَّر لوزارة ثقافة محترمة. في ذلك اللقاء، ولولا أنَّ قطّان حدَّثني عنه، لما لاحظتُ ذلك، فالرجل قليل الكلام، يبدو غير مبالٍ بكلمات الإطراء، بل إنه أطرق برأسه خجلاً حين عرّفه قطّان إلي، بتلك الكلمات رغم أعوامه السابعة والستين.
في المقهى ذاته، وقبل ما يُقارب الشهرين، وقَّع باريذس ديوانه “محبَّات وإهانات”، على أمل أن يصدر ثلاثة دواوين تحت الطبع بعده، دون أن يكون على علم أن الموت سينقضُّ عليه قبل أن ترى باقي أعماله النور.
بعد ذلك الحفل بحوالي أسبوع، لم يحتمل جسد الشاعر الذي أنهكته الكحول، ليغادر الحياة تاركاً لمحبِّيه حملاً ثقيلاً عليهم أن يتولُّوه. عنهُ كتب رولاندو قطان:
“مات كما القديسين، جالساً يحاور الجبال. وإن لم أكن مخطئاً – ولا أعتقد ذلك – لا يوجد في الهندوراس من يقرأ الشعر ويحفظه مثله. شاعرٌ كثيرُ العطاء، حتَّى كانت فروع شجرة حكمته تمتدُّ لبيوت الجيران.
في السنوات العشر الأخيرة كان مليئاً بالشعر ونشر أكثر من نصف أشعاره. أجهل (لأنه يؤلمني أن أقول أعرف) كم فقدت الهندوراس. اليوم لم يمت شاعر مشهور، متربِّعاً على عرش مجده، بل مات شاعرُنا وهو يكتب”.
من قصائده:
بعيداً عن الشاطئ
إلى رافائيل ريفيرا
ها قد طوت السفن
زاوية المياه
التي رأيناها تجمعُ
السماء المقوَّسة العميقة.
بالكاد نرى بضع لطخاتٍ،
لكن هنا وبيننا،
ثمَّةَ سدودٌ من الهجران،
أيدٍ وأصوات ما زالت ترتفعُ مُحِبَّةً
المُسافرون، في مقدّمة السفينة، لن ينظروا للخلف.
في رأس كلٍّ منهم
عالمٌ آخرُ ينكسر، عالمٌ آخرُ عالٍ بارد
ليلاً ونهاراً، نلقي نظرةً على قمم الأمواج
ربما تجلبُ الريح عطراً أو صفيراً،
شيئاً نضمُّهُ بقوَّةٍ إلى صدورنا
يهتزُّ اليوم بشدَّة.
البحرُ يكبرُ فينا كأدغالٍ شرسة
لونه الأزرق الزائف ينفجرُ في صدورنا
يُعيدُ لنا الأشياء المفقودة،
وهكذا، تُرسل لنا الحياةُ إشارات سريعة
في طريقها
البعيدِ جداً عن هذا الشاطئ.
ذاكرةُ الوحيد
في أيِّ جنَّةٍ غريبةٍ تركوا قلبي المُدَخَّن، المحروق حياً، والنساء اللاتي أحببتهنّ؟
تحت أيِّ سقفٍ تتعرّى وتظهرُ انتصاراتُ المملكة التي أضعتها؟
وأنا لا أحتفظُ بشيءٍ: لا بقولٍ ولا بضغينةٍ.
واحدة واحدة منحنَني المجد المُستحَقَّ لكنَّ أسلحتهن الحادّة هزمتني.
الحبُّ هو المعركة الوحيدة التي نخوضها متساوين.
وبها، لا أدافع عن نفسي، لا أُعيد الكلمات بالجرأة نفسها، دون احتراسٍ،
والضربات الخفيفة
تصلني تماماً
تصل لصدري.
أموت في سرير غريب (متصالحاً مع نفسي، فخوراً بها)، مع شيءٍ من ثمين المجد، مع بعض الأسماء كمحاربٍ قديمٍ يداوي جرحه.
العربي الجديد