زرايب العبيد/ نجوى بن شتوان
“زرايب العبيد” لنجوى بن شتوان: روايةُ النّسَب والحرائق/ عماد الدين موسى
تي عمل الروائيَّة الليبيَّة نجوى بن شتوان والموسوم بـ”زرايب العبيد”، الصادر لدى دار الساقي (بيروت- 2016)، والحائز على جائزة الرواية العربيَّة/ الخرطوم عاصمة للثقافة العربيَّة لسنة 2005، ودخل ضمن القائمة النهائيَّة القصيرة لجائزة “البوكر” العربيّة لهذا العام، ورقةً توثيقيَّة لمجتمع يئنّ تحت وطأة المفاهيم القبليَّة العتيقة.
تبدو الفصول الأولى من الرواية قاسية جداً، حيثُ الألم في زرايب العبيد، ذلك المكان الذي يبدو لوهلة أنّه حيّ، ليتضح فيما بعد أنّه جحيم فعليّ، الذباب، العفن، رائحة مجتمع الغابة والعادات القابضة على أنفاس القاطنين في جهنّم الصغرى!، هذا السردُ الآسر لرواية عربيَّة تتحدّث عن الذكرى وتغور في أعماق الزمن، بطريقةٍ فجائيَّة، هذا الاسترسال في التذكّر، يجعل القارئ متوقّفاً مع نفسه للحظات، متفكّراً في حال “عتيقه” (بطلةُ السرد في الرواية) المنزوية بنفسها، والمتلويَّة بنار الذكرى والأحداث الدقيقة التي كانت تحصل في تلك الزرايب، والتي تعيش الحيرة في نَسبها، المكان الآسن الذي يجمع الناس أصحاب البشرة السوداء، الخوف من المرآة، والنظر فيها بشكلٍ مباشر، مشاهدُ دالّة على معنى أن يكون المكان صعباً العيش فيه، الحريةُ موضوعاً روائيَّاً متعمّقاً ولكن بشكلٍ غير مباشر، الكلمات والجمل هي من تُفصِح عن الأحداث التي تتعلّق بقيمة الحريَّة، أن تكون في مكانٍ يكنى بالعبيد ومن ثمّ الخروج من ذلك الصندوق والنظر إليه من موقعٍ بعيد، هذه الحميميَّة المتناقضة التي تجعل من الرواية استفزازاً للمشاعر والتفكّر في حال أولئك البشر المنسيين.
السرد الخفيف كالريشة
تعتمد الرواية على السرد الزمني، حيث الانتقال من الحاضر إلى الماضي ومن ثمّ العودة إلى الحاضر مرّةً أخرى، حيث الذكريات تبقى عالقةً وكأنّ كابوساً ما يحتوي الرواية، لتتحوّل الرواية بشكلٍ مفاجئ إلى مكانٍ عميق غائبِ عن الوعي!.
اعتماد الروائيَّة على تبويب الألم الذاتي، وبعباراتٍ تشي بالإحباط الذي يخلّفه تذكّر الأحداث السيّئة، يخلّف بدوره لدى القارئ المشاعر الاستفزازية إثر العقاب الحاصل للشخصيّات لدواع مجتمعيَّة لا علاقة لشخصيات الرواية بها مطلقاً، هذا الألم الذي ينتجه السردُ الخفيفُ كالريشة أو ربما كنسمةٍ صيفيَّة عليلة.
المكان الذي يحوي أساطير وعادات وتقاليد غريبة بعض الشيء، مجتمعٌ يقدّر الغوص في عمق التفاصيل التقليديّة الدينية المنبت أو غيرها، كل ذلك ضمن سرد حكائيّ يعتمد أطراف مدينة (بنغازي) الليبيَّة التي شهدت أجواء العبيد والإماء في فتراتٍ تاريخيَّة مهمّة مسرحاً لأحداثٍ موجعة لا تكفّ البطلة عن استذكارها.
الزمن يلعب دوره البارز في أجواء الرواية، حيث أجواء ما قبل الاحتلال الإيطالي لليبيا، لتكشف لنا بطريقةٍ زمنيَّة الألم الماثل حتّى الآن، حيث بطلة الرواية “عتيقه بنت تعويضه” التي غادرت حياة العيش في زرايب العبيد، ذلك المكان الآسن، ولكن الذكريات لا تزال تحوم في دماغها، لتصطدم بشخصٍ هو ابن عمتها كما يتضّح فيما بعد وهو يبحث عنها لأجل أن يهبها: “حقك وحق أمك، اسمك ونسبك. أما ميراثك الشرعي فما زلت أخوض صراعاً مع بقية الورثة لتحصيله بعد إثبات النسب”، هذا الجرح الذي يفصِح عن القسوة في ذلك المكان، النّسب المخفيّ والمختلط مع جراح المكان والشخصيات المتّحدة مع المكان، ثمّة أكثر من مشهد داخل الرواية يفصح عن أنّ أغلب الشخصيّات التي عاشت في “زرايب العبيد” كمكان لا يعرفون سواه، لا يتلّمسونَ سوى الجراح التي يعتادون عليها لتكرارها يوميَّاً، يُصدمون إن أبصروا مكاناً آخر لا يوجد فيه ذبابٌ أو قمل!، القسوةُ حين تعيدُ الأشياء إلى صوابها داخل عملٍ روائي.
الأحرار، أو ذوو البشرة البيضاء هم من يمتلكون الأولويّة في كل شيء، البدايةُ من عندهم، حتّى في طقوس (تقفيل البنات عن شهوات الرجال) باستخدام التعويذة السحريَّة التي تستخدمها العجوز لمنع اغتصاب البنات أو كسر شهوة الرجال آن إبصارهم للأنثى التي (تُقفَل)!، الطقس يُمارَس على الأغنياء قبل الفقراء، وعلى الفقراء وذوي البشرة السمراء أن ينتظروا في الخارج، تحت القيظ القاتل: “لم يعِ عقلي سوى أنّ الأحرار هم ذوو البشرة البيضاء، أناس ليسوا مثلنا في كل شيء، لا يشبهوننا حتى وهم يشبهوننا، إنني لا أحقد على تميّزهم عنّا في اللون والمأكل والملبس والمسكن والرزق وكل حظوظ الحياة، بل إنّ إعجابي بنظافة ثيابهم ودورهم وصدقاتهم التي يمنحوننا إياها يجعلني أفرغ نفسي للإعجاب والامتثال بهم واتّباع سننهم في العيش”.
حتّى (طقس التقفيل) يبدو ممنوعاً على (عتيقه) التي يخالِط الشكّ في نسبها، وعلى أنّها عبدة ولا يجوز أن تصفّح أو تُقفَل، تلك الطقوس المسرودة داخل الرواية تعتبر إيغالاً في عمق مجتمع لا نعيه لبعد المسافات أو ربمّا لتعتيمٍ ما داخل وسائل التواصل الاجتماعي أو ربمّا لكثرة الأحداث الدامية في البلاد العربية والعالم أجمع، والتي تجعل من الأعين تتجّه نحو مواضيع أخرى، شيءٌ ما من قبيل فكرة الدفاع عن المرأة، ولكن ليس بطريقةٍ مجانيَّة كما يحصل في الوقت الرّاهن، دفاعٌ متّكئ على حقائق تاريخيّة مثبتة لا تشوبها شائبة وبطريقةٍ لمّاحة ذكيَّة، وكلّ ذلك ضمن إطارٍ سرديّ موغِل في العمق والدقّة، ثمّة شعورٌ ينتابُ القارئ، أنّ بعض المجتمعات حقيقةً تماثل زرايب العبيد كمكان يكثر فيه الظلم ويتكاثر، لكن النسب تتفاوت أو ربمّا ترويض الحكايات وجعلها مرويَّة تحتاج لبعض الوقت.
اللغة الروائيّة
اللغةُ المطواعة، تجعل من الرواية حكايةً غريبة مدهشة عن عالمٍ مليء بالظلم والتعدّي، وبطريقةٍ ما تجعلك الرواية تغوص في عمق اللغة، من خلال الطريقة السردية التي ترتدي لبوس الشعر من خلال إيلاء المكان والتفاصيل الدقيقة الأهميَّة الكبرى، كشريطٍ سينمائي معتمد على الانتقال البطيء والمفصّل، ليتضحّ خلاله المكان المليء بالآفّات والمرض والجوع والحزن بكل جلاء، وبأناسٍ حتّم القدر عليهم أن يكونوا أصحاب بشرةٍ سمراء، قذفتهم الأقدار إلى ما هو خارج (وسط البلاد) ذلك المكان الغامض بالنسبة للقاطنين في الزرايب، حيث السحر والشعوذة والتقاليد الغريبة عن معشر الإنس، زرايب العبيد، المليئة بالظلم والاقتناص وفي اللحظة عينها، المليئةِ بالرحمة وتقدير الأحوال بالنسبة للقاطنين في ذلك المكان المهجور من العالم، اللغةُ إذ توصِل الفكرة بكلّ ما أوتيت من خيال وواقع ممزوجين بطريقةٍ خفيَّة.
العادات والتقاليد
تكتظّ الرواية بفصولٍ مرويَّة عن العادات والتقاليد في بلدٍ عربيّ هو ليبيا، ولعلّ ليلة الدخلة (وغيرها من المواضيع الأخرى المتعلّقة بمنظومات فكرية اعتقاديَّة) هي من أكثر الأمور المتوارثة والموجودة بكثرة حتّى وقتنا الرّاهن، إلّا أن العمل الروائي يعيد إنتاجها بقسوةٍ كفيلة بإيقاظ الضمائر: “هذه الخرقة الثمينة جداً دليلٌ إلى يوم الدين على أنّ حماد هو أوّل فعل ذكوري يحصل لفطومه، وستقفل باب الأكاذيب المستقبلي إذا خطر لحماد طلاقها وسلبها مهرها بادّعائه أنه لم يجدها بكراً، إنّها نتاج الخداع الجمعيّ المتبادل، اختيرت له البكارة ملعباً!”.
هذه القطعة وسواها المنثورات في أجواء الرواية تعطي بعداً دلاليَّاً على أنّ الرواية من الممكن أن تغوص أكثر في الماضي، كما لها أن تغوص في الحاضر بالسويَّة ذاتها وعلى حافّة خطر الإفصاح عن المسكوت عنه، من خلال المقارنة الآليّة التي يفعلها القارئ آن الإفراغ من القراءة التي تجري وفق حالةٍ صادمة على امتداد الصفحات، الحرائق التي تندلع في الزرايب، الخوف والهلع من افتقاد المكان على الرغم من المعاناة داخله، هو قبضٌ على الجمر، تردّدٌ ما بين النسيان والتذكّر، أو تناسي ورغبةً استحضار الألم معاً.
عنوان الكتاب: زرايب العبيد المؤلف: نجوى بن شتوان
ضفة ثالثة
لتحميل الرواية
الرابط التالي
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.