“زعماء” الانفصام والرهبة
رستم محمود
في روايته عن عوالم القذافي وسلوكياته، يسرد نوري المسماري، الأمين العام لجهاز المراسم العامة السابق في ليبيا، في مقابلته لصحيفة الحياة ما لا يمكن تصديقه. فغير أنها سلوكيات وعوالم لا تناسب شخصا سويا في حيزه العقلي والنفسي، فهي أفعال بالغة الصعوبة إن تجتمع في رجل واحد: “كان القذافي يحب احتقار الرؤساء وإذلالهم. تصوّر أنه كان يقول لي هات العبد وقصده رئيس الدولة الأفريقية الذي يستعد لمقابلته. وحين يغادر الرئيس، يقول (القذافي) ذهب العبد اعطوه شيئاً”. يضيف المسماري في مقطع آخر: “كان القذافي لا يستخدم الدرج أو المصعد. كان يريد سكنا أرضيا، رفضه الدرج نتيجة اعتلال صحته والمصعد كانت لديه فوبيا منه والأنفاق كذلك، وكان يخاف السفر الطويل، فيتحتّم علينا ان نمر بمطارات عدة”. إذ كيف لم يحتقر رؤساء الدول وزعماء الشعوب، ولا يتجاوز فوبيا المصاعد أو رهبة الأنفاق والظلمة !!
معمر القذافي المنحدر من أصول بدوية بسيطة استحوذ على ثروة، وسلطة استثنائية مطلقة، في ظرف سياسي اقليمي ودولي استثنائي. لم يتصالح القذافي يوما مع هذا التناقض، بقي طوال عمره، بسلطته وثروته، ينتقم من بساطة اصوله ومنبته الصحراوي. حكاياته مع ذلك لم تنقطع، فرفاق دربه عبدالسلام جلود وعبدالمنعم الهوني وعبدالرحمن شلقم وعلي عبدالسلام التريكي، يسجلون تقريبا شهاداتهم المتشابهة حول فظاعة الانفصام الذي كان يلفه، انفصام عن العالم وضجر منه، خوف وقلق وتوجس من كل ما فيه، وتمحور حول الذات.
لم يكن القذافي إلا مثالا عن ذلك الانفصام المجبول بالقلق المرضي تجاه كل شيء آخر. فعن صدام حسين يروي طبيبه الخاص الدكتور علاء بشير: “كان من الواجب علينا إعلام مكتب الرئيس بتفاصيل متابعة علاج عائلته حتما، ولكنه على الرغم من ذلك، لم يكن يثق بنا، فكان يكلف رجاله بمراقبتنا بشكل دائم، وكان بعضهم لا يتورع عن أن ينصب لنا الفخاخ”. فصدام حسين لم يكن يثق حتى بأفراد عائلته، حتى من أطبائهم وعلاقتهم الخاصة، فقد كان يحاول دوما التلصص على عوالمهم الخاصة والنبش بها. وعن غرائب سلوكيات فصامه وقلقه من الجميع يذكر الدكتور بشير في مقطع آخر من سيرة علاقته بصدام : “الأغرب ليس أن صدام كان يعتبر أهل الأهواز هنودا حمراً يجب القضاء عليهم، بل الأغرب كانت علاقاته مع عشيقاته، كان عليهن دائما أن يكن على حذر، فقد حكت لي إحداهن أنه طردها ذات ليلة بعد أن غضب وركلها وضربها ثم أرسل إليها مبلغا ماليا في اليوم التالي. ومعظم النساء اللاتي كان يتعامل معهن صدام بشكل منتظم لم يصبحن عشيقات له، فالأهم بالنسبة له كانت المعلومات وحتى الثرثرة التي كن ينقلنها اليه”.
وعلى خطى صدام كان يسير دوما “قادة” و”زعماء” مستبدون، حكموا شعوبا ودولا بجبروت العنف المحض. لم يكن أخيرهم، سوى الرئيس العربي الذي كان يصف البارحة بأن بلاده في حالة حرب، وأن مؤامرة كبرى تدور للإطاحة بجبروت نظامه ومواقفه، لكنه في الوقت عينه، كان يتلقى رسائل غرامية من شبه مراهقات، كانت تناديه وتلقبه بأكثر الكائنات لطفا وبساطة “بطة”. حيث كان عُرف عنه منذ زمن بعيد، ولعه بألعاب البلايستيشن، رغم تبنيه لخطاب سياسي فوقي أكاديمي غارق في الألفاظ الثقافية.
شخصيات مهزوزة في عمقها الإنساني، كأن ثمة عدم اتساق رهيب في نفسها، عدم اتساق بين وعيها الحقيقي الباطن لنفسها، وللهالة التي أرادتها لنفسها. لذا كان ثمة استقتال مستفيض لزيادة الغموض وتكبير الهالة، لإخفاء سذاجة وضعف الاهتزاز الذاتي. لم تكن بساطة الأصول والمنابت والتكوينات والضعف المعرفي وعجز النباهة وضعف الحس، لم تكن هذه ما كون تلك الظاهرة. فكثير من زعماء العالم كانوا من ذوي تلك السمات، لكنهم بتصالحهم مع ذواتهم، أما تطوروا وغيروا ما بهم، أو انتصروا لشركائهم في تلك المواصفات، أو كلاهما سوية. المشكلة في حالة الزعماء العرب وانفصامهم وقلقهم المرضي من الآخر، أنه نتج عن شبق للانتقام ولإخفاء تلك السمات المتواضعة فيهم التي ربما تعتبر بالغة العادية في إي كائن آدمي. أي أن منبع الحكاية هو عدم قدرتهم على التغلب على أنفسهم، وعدم اعتبارهم الوعي الإنساني والمنجز الشخصي للفرد، أهم من ما لم يختره الفرد بإرادته من سماته التكوينية.
لم يتكون أي سلوك من سلوكيات هؤلاء بشكل قاطع ونهائي دفعة واحدة، ربما كانوا جميعا اناساً بسطاء وعاديين، لكن مع مركب السلطة المنفلتة من السؤال، وتجمع “لاحسي اللعاب” من سدنة هيكل السلطة حولهم، واكتشافهم بأن السلطة يمكن أن تتحول من أداة لإدارة المجتمع إلى آلة لتكوين المجتمع وخلقه. وقتها، وعلى دفعات متتالية، نبتت في أذهانهم شتلتان صغيرتان، لم تلبثا إلا أن أحتلتا كل مدركهم العقلي: الذات أهم من العالم، لأنها تستطيع خلقه وليس العكس. والآخر خطر دوما، لأنه ما لم تخترعه الذات. لكن بين الفينة والأخرى، في الخلوات ولحظات الغضب، في ممارسة الجنس وساعات التأمل، كانت تخرج حقائق الضعف والمهانة وقلة الحيلة والخوف والضجر…الخ من اللاوعي إلى نظريها، وبذلك كانت تؤلف تلك العجينة الغريبة من تلك الشخصيات.
كانت عوالم الجيل الأول من الزعامات الاستبدادية أكثر قلقا، لكن كان الأكثر سيطرة عليها. فجيل أبناء الزعماء لم يعش فظاعة الانفصام بين بساطة التكوين وجبروت السلطات، في ظل عدم التصالح بينهما. لقد جاء الجيل الثاني واستحوذ ببساطة على كامل الثروة المادية والرمزية، فلم تعذبه ذاكرته ولم يدخل في سؤال التناقض. لكن الجيل الثاني ايضا لم يكن يمتلك أي درجة من موهبة الوصول للسلطة. لذا فإن الجيل الثاني كان يعيش باتساق أكبر في مخيلته، لكنه كان أكثر ركاكة، وأضعف ذكاء في كشف التناقض الجوهري بين ضعف الذات وجبروت العالم. والجيل الأول بالرغم من جسارته الظاهرة، إلا أنه كان أكثر غرقا في دوامة ذلك التكوين المتناقض.
على صورة ذلك الانفصام التام عن العالم والقلق العميق من أي آخر، تكونت جل المؤسسات والآليات التي سيّرت تلك البلاد في عهود تلك الأنظمة. فمجتمع مقيد، قلق، يراقب فيه الجميع الجميع، ممزوج برهبة وشك مبالغ من أي آخر، مع سيادة مطلقة لحس الصعود السريع والقطيعة مع التكوين والتأسيس. كان ذلك السائد في اجواء مؤسسات تلك الدول التي أسستها أنظمة الانفصام هذه، مع خطاب ايديولوجي خال من المعرفة وحس الرهافة والشفافية، خطاب بالغ الحذر تجاه الآخر الغريب، وممجد لعظمة “أنا” الأمة والدولة والحزب والدولة، والتي كانت تتمثل بـ”أنا” الزعيم.
ستكون الثورات بديعة في الربيع العربي، لو أنتجت آدميين عاديين في كافة المستويات، آدميين أقل جبروتاً وأقل خوفاً في الآن ذاته.
المستقبل