زعيما أميركا وروسيا… وكيف «يتربّص» واحدهما بالآخر؟/ محمد مشموشي
لم تمر أسابيع على «غضبة» الرئيس الأميركي باراك أوباما من التدخل الروسي في سورية حتى عقد مع غريمه الروسي فلاديمير بوتين ما وصف بـ «صفقة لم تتكشف تفاصيلها بعد» للتسوية في سورية. كان رد فعل أوباما على حركة بوتين السورية، أنها «دليل ضعف لا قوة» وأنها «مغامرة» غير محسوبة، وأنها في النهاية «غرق في المستنقع السوري».
فوق ذلك، بينما اتسمت لقاءات أوباما وبوتين بعد ذلك ببرودة استثنائية، إن في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في قمة العشرين في تركيا، فقد عقد أوباما مؤتمراً صحافياً نادراً في البيت الأبيض قال فيه بالحرف: «لن نتعاون أبداً مع حملة روسية تهدف ببساطة إلى تدمير أي شخص يمقت السيد الأسد ويريد الخلاص منه». مع هذا، لا حاجة للقول الآن إن بوتين يواصل حملته على كل من يقف ضد الأسد، فضلاً عن أن يحمل السلاح في وجهه، فيما يوقع معه أوباما ما سمي «خريطة الطريق» للتسوية السياسية في سورية.
فماذا حدث عملياً منذ ذلك اليوم، بدء التدخل الروسي في 30 أيلول (سبتمبر) 2015 وقرار مجلس الأمن الرقم 2254 الذي صاغه وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في 18 كانون الأول (ديسمبر)، أي بعد نحو شهرين فقط؟!
لم تُكتب أو تُسمع، حتى في الولايات المتحدة، كلمة «تردد» أو «انكفاء» أو «تقاعس»، أكثر مما كتبت أو قيلت حول سياسات أوباما في المنطقة والعالم طيلة الأعوام الخمسة الماضية. وفي واشنطن تحديداً، غالباً ما اقترنت الكلمة بعبارة «خسارة أميركا دورها القيادي في العالم» كما ذهب أحد الكتب التي صدرت أخيراً بعنوان «أميركا في تراجع» لمؤلفه بريت ستيفنز الحائز على جائزة بوليتزر والكاتب البارز في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية.
ولكن، ليس هذا موضوعنا، لأنه من جهة لا يفسر (أو لا يفسر وحده) ما شهدته المنطقة في الشهرين الماضيين، ولا من جهة ثانية ما قد تكون شهدته العلاقات بين واشنطن وموسكو خلالهما.
وليس خافياً، في المقابل، أن في الكرملين شخصاً لم يهضم بعد، لا زوال الدولة العظمى التي كانت للاتحاد السوفياتي في سياسات العالم وموازين القوى فيه، ولا بعده تراجع روسيا إلى كونها مجرد دولة كبرى بين دول عدة. وفي هذا، لم يكتم بوتين نفسه، ولا مؤيدوه أو إعلامه، أن حركته العسكرية باتجاه شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، أو باتجاه سورية أخيراً، إنما كانت تعبيراً عن هذا النهم أكثر من أي شيء آخر.
بين هذين الواقعين (تردد أوباما الدائم، معطوفاً عليه بدء تعداد أيامه في البيت الأبيض، ونهم بوتين لتبوؤ مكان تحت شمس عالم القرن الحادي والعشرين) اكتشف الطرفان عدواً مشتركاً لهما: الإرهاب، وعلى رأسه تنظيم «داعش». وليس مبالغاً به القول أنه نتيجة هذا الاكتشاف، قبل أي سبب آخر، أقام الطرفان قاعدة توافقهما على السير باتجاه تسوية الحرب السورية. وإذا كان صحيحاً أن ما تم بينهما، في القرار الدولي الرقم 2254، كان تراجعاً أميركياً عن إزاحة الأسد التي طالما طالب بها أوباما، فالصحيح كذلك أن تراجع روسيا عن الادعاء الذي حملته بداية إلى سورية (كلهم إرهابيون، ولا وجود لتنظيمات معتدلة) كان الجزء الآخر من «الصفقة».
لكن الموضوع، مرة أخرى، ليس هنا. إنه في الحرب على «داعش» قبل كل شيء، وعلى أساسه يمكن فهم الكثير مما يشهده العراق وسورية حالياً. وقد لا يكون مجرد مصادفة، أن تغيب منذ صدور القرار 2254 بيانات التحالف الأميركي عن غاراته على سورية واقتصارها على العراق، وأن تتصاعد في المقابل الغارات الروسية عليها… ولو أنها تتوسع باتجاه «جيش الإسلام» أو غيره من التنظيمات التي يتفق الجميع على أن لا علاقة لها بـ «داعش» أو «القاعدة».
بعبارة أخرى: هل هو تقاسم أدوار، وإن يكن مائعاً وقابلاً للتأويل، بين الطرفين؟ أو هو اتفاق ضمني على استعادة نوع من «توازن القوى» في البلدين، بانتظار فترة أخرى يكون فيها طرح الحلول، بما فيها تقاسم النفوذ بين واشنطن وموسكو، ممكناً وقابلاً للتنفيذ في الوقت ذاته؟
في الأفق أكثر من إشارة إلى هذا الاحتمال. هناك، من ناحية، اعتقاد يقارب الإجماع بأن القرار 2254 لا يملك المقومات التي تجعله قابلاً للحياة، لا لجهة وقف النار ومَن يتولى مراقبته، ولا لجهة وفد المعارضة الذي سيشترك في المفاوضات، ولاحقاً في حكومة الوحدة الوطنية، ولا قبل ذلك لجهة الضمانات (إجراءات بناء الثقة) التي يمكن أن يقدمها النظام قبل وفي أثناء عملية التفاوض وخلالها وهناك، من ناحية ثانية، تجربة «جنيف – 1» التي ارتبطت بروسيا منذ البداية وتحولت في ما بعد إلى قرار من مجلس الأمن، أفشلها النظام عامداً (وبعلم موسكو) بعدما حوّلها إلى ما وصف بـ «مماحكة» حول ما يسبق ماذا في نص القرار: التسوية مع المعارضة، أو الحرب على الإرهاب.
وفي هذا السياق، لا يغيب عن واشنطن وموسكو أن في قدرة المعارضة أن تفشل القرار 2254 وإن تعرضت لضربات موجعة، بقدر ما لا يغيب عنهما أن حربهما على الإرهاب قد تضعفه إلا أنها لن تنهيه، لا في سورية ولا في العراق ولا حتى في العالم، إلا بعد سنوات.
وهكذا، ففي غالب الظن أن أوباما وبوتين إنما ينتظر كلاهما الآخر عند الزاوية: الأول، بانتظار أن يفشل الثاني في حربه في سورية كما في تمهيد الطريق لتنفيذ القرار الدولي… وفي الأثناء خروجه من البيت الأبيض وترك المهمة للإدارة المقبلة (كما قال رداً عن سؤال عن موقف هيلاري كلينتون كمرشحة، وقد يكون لها موقف آخر كرئيسة). والثاني، أملاً بأن يغادر الأول البيت الأبيض من دون أن يحقق شيئاً لا في سورية ولا في العراق… ولا في اليمن أو ليبيا، فضلاً طبعاً عن أوكرانيا.
وبهذه الانتظارية المتقابلة، سيمر عام كامل على الأقل لا تشهد فيه سورية والعراق سوى إراقة الدماء، والمزيد من الدمار على حساب الشعبين والبلدين.
الحياة