زمــن الشــبيحة والبلطجيــة
نبيل سليمان
بالرحمة على الشهداء من المدنيين والعسكريين أبدأ، فكل قطرة دم تراق في سوريا أغلى من الروح.
أذكر جيداً أن تلك العبارة هي ما كان يصطخب فيّ ملء ذلك الليل الربيعي الساجي كوجه البحر القريب، ولم يكن فيه ما ينذر بالرصاص. لكن الرصاص لعلع فجأة، وإذا بشبان وفتيان يتدافعون، يحمل واحدهم العصا أو الساطور أو بندقية البومبكشن، يقطعون هذا الشارع بحاوية الزبالة، وذلك الشارع بخزان للمياه عتيق وفارغ، وذيّاك الشارع بالأصص الكبيرة التي تسوّر مدخل المقهى المجاور. وكان عليّ أن أنتظر غبائي وذهولي، قبل أن أدرك أن أولاء الشبان والفتيان هم أفراد اللجان الشعبية التي تشكلت فجأة، لتكون لكل حي الحماية الذاتية.
في ذلك الليل الربيعي الساجي كوجه البحر القريب حاولت عبثاً أن أستعيد ما عرفت من الوجوه والهتافات والعصيّ، عندما أفاقت اللاذقية على اغتيال الشيخ يوسف صارم، في فاتحة ملغزة لواحد من الفصول الدامية التي عصفت بسوريا، قبل ثلاثين سنة ونيف يومئذٍ دوّمت في المدينة كلمة (الشبيحة).
فجأة ادلهّم ذلك الليل، ورماني بصورة هائلة لشابين، كانا قد أوسعاني ضرباً وأورثاني ستّ قطب في رأسي فجر 31/1/2001. وقد قُيدت القضية ضد مجهول، ليس في سجلات الشرطة والقضاء فقط، بل في جسدي وفي روحي. ولعل هذا وحده يكون كافياً لأن يجعلني أكتب عن الشبيحة، فكيف إذا ما جأر المرء بما فعلوه طوال عقود، وبما يفعلونه بخاصة في هذا الزمن (الثوري العربي) الجديد؟
البلاطجة في اليمن
بفضل الفضائيات دوّمتْ كلمة الشبيحة. ولكن قد يكون ضرورياً أن أبدأ بالمرادفة بين هذه الكلمة الشامية ـ أي الشائعة في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ـ وبين كلمة البلطجية الشائعة في مصر، وما يشيع في مصر يشيع في الفضاء العربي. إلا أن اليمن حورت في الكلمة فباتت البلاطجة. وهنا ينبغي أن يضاف أنّ البلاطجة ليسوا عناصر مأجورة، كما هو الأمر، أحياناً أو غالباً، في سوريا أو ليبيا أو مصر، بل هم في اليمن رجال أمن بملابس مدنية، ومنهم من يرتدي معطفاً يخفي السلاح. إنهم فتوات الحارات والقبائل الذين يتحركون في مجموعات صغيرة (3 ـ 4) متدرعين بالكلاشينكوف أو أي سلاح أبيض. ولعلنا لم ننس بعد هجمة البلاطجة على طلاب جامعة صنعاء في 20/2/2011، بعد أيام معدودات من بدء الاحتجاجات اليمنية، حيث توفي طالب، وشُلَّ آخر أصابت رصاصة نخاعه الشوكي، كما جُرِحَ خمسة عشر طالباً. وقد تميز بلاطجة اليمن بالفرار من الكاميرات، أو بتحطيم ما تصل إليه أيديهم منها. كما تميز من يطلق النار من البلاطجة بالتخفي بمحاذاة جدار أو باب دكان مغلق وما شابه. وبالطبع، يتحرك البلاطجة برعاية الشرطة المباشرة أو غير المباشرة. وقد تغيب الشرطة، أو تغمض عيناً وتسد أذناً. بينما يلعلع رصاص البلاطجة وهم يعبرون بجانب إدارة المباحث الجنائية وإدارة أمن صنعاء، باتجاه ساحة الجامعة. وبالمقابل لم يفت الإعلام الرسمي أن يتحدث عمن سماهم (بلاطجة اللقاء المشترك)، إذ ادعى ذلك الإعلام، في ذلك الوقت المبكر من الثورة اليمنية، أن بلاطجة المعارضة المعتصمين أحرقوا سيارة وقتلوا شخصاً، يا للهول! ما الذي يمكن للمرء أن يقوله إذن عما فعله البلاطجة في عملية طرد من ساحة تعزّ، وأهون ذلك الاعتداء هو على المعتصمات وتمزيق عباءاتهن؟ّ
من هو البلطجي أو الشبّيح؟
في اللغة يتعالق البلطجي بالبلطة، فهو حاملها. وقد كانت البلطة سلاح الحرس الشخصي للحاكم التركي في العهد العثماني. ولأن الحارس يعود بعد انتهاء عمله إلى حياته العادية حاملاً البلطة، فقد غدت علامة السلطة والقوة والرعب. أما في الزمن العربي الثوري الجديد، مما نعيش منذ نهاية العام الماضي، فقد يكون (البلطجي / الشبّيح) مرتزقاً مثل مرتزقة القذافي في ليبيا، كما قد يكون متطوعاً لوجه العائلة أو الحارة أو القرابة أو الجاه أو (الزكرتية) أو (الزعرنة) أو متطوعاً ومرتزقاً لوجه السلطة الأمنية و /أو السياسية و/ أو الدينية و/ أو الاقتصادية.
ببعض التفصيل في توصيف البلطجية / البلاطجة / الشبيحة يبدون، وبامتياز، أدوات جارحة للدولة والسلطة، و/ أو أدوات لعليّة القوم، ليس لواحدهم دور محدد أو مهمة محددة، وله في الآن نفسه كل الأدوار وكل المهمات، وبخاصة ما كان منها قذراً أو بالغ القذارة. وقد كتب سارتر في وصف الشبّيح ـ البلطجي: «وهذا الشخص المتجبر الذي أطاش صوابه ما يتميز به من سلطة كاملة ومن خوف عليها، لا يتذكر جيداً أنه إنسان، وإنما هو يحسب نفسه سوطاً أو بندقية». وبعبارة أخرى، محلية وعصرية، يرى الشبيح ـ البلطجي نفسه بندقية بومبكشن أو مسدساً أو عصاة كهربائية أو عصاة مروّسة بما يدمي أو (شنتيانة) أو خنجراً أو ساطوراً أو لساناً بذيئاً أو قبضة حديدية أو قدماً رافسة لابطة كما يشتهي حمار أو بغل.
يورد ممدوح عدوان وصف سارتر للشبيح ـ البلطجي في كتابه (حيونة الإنسان ـ 2003). حيث نقرأ أيضاً أن هانس توك خصّ الشبيح ـ البلطجي بفصل في كتابه (رجال عنيفون)، وفيه أن القوة المحركة الكبرى لصاحبنا هي الخوف العميق. ويتصل بهذا أن الشبيحة الذين ينشرون الخوف، قد يدركون أو لا يدركون أنهم يعيشون في مجتمع مرعوب، وأن تربيتهم مذعورة، مثل أسرهم وأحيائهم ومدارسهم ووظائفهم وأنفاسهم. ولعل ذلك يفسر انفلاش سعادتهم عندما يشعرون أنهم في منجاة ما، مهما دقّتْ، من الخوف العميق. وقد أشار ممدوح عدوان نفسه إلى خوف الشبيحة من الوقوع فريسة النظام، وإلى رغبتهم الجائحة في الانتقام من الذعر الدفين في أعماقهم. أما هانس توك فهو يفصل في وصف الشبيح: إنه حرفيّ العنف والقوة، والعنف عملته الوحيدة، ومبتغاه هو ذلك الأثر المادي والنفسي الذي يحدثه العنف في الضحية. والشبيح يتجنب الأنداد، ويلتقط الضعفاء جسدياً والمطلوبين كضعفاء، مثل المهرب أو المدمن أو المومس أو المتورط الذي يخاف على سمعته… أي من لا سند له في السلطة والدولة، ولذلك أضيف: المتظاهرين أو المعتقلين. كما أضيف أن الشبّيح المنتمي طائفياً هو في الآن نفسه عابر للطوائف، والشبيح المنتمي طبقياً إلى قاع المجتمع، هو أيضاً عابر للطبقات. فالشبّيح المتعصب علوياً أو سنّياً أو درزياً الخ.. قد لا تعنيه في أية لحظة أية طائفة. والشبّيح قد يكون رجل أعمال ممن أنجبتهم عقود النهب والشفط واللهط. بل قد يكون حزبياً بقدر ما قد يكون عابراً للأحزاب.
يقترح ممدوح عدوان أن يقال للشبيح أو البلطجي: المتسلبط والمتنمّر. وفي التفصيل أن بطل العالم السفلي هذا، لا مشاعر له ولا عواطف، وهو يتسلبط لأنه فاشل في أي أمر. إنه أناني وجبان، شرس وشرير، وقد يطلق النار على أي هدف، أو يضرب بكعب البندقية أو بالجنزير أو بسواه، امرأة أو عجوزاً أو طفلاً، لا فرق.
الشبّيح المعارض
لكن ممدوح عدوان يخطئ فيما أحسب إذ يعد الشبّيح أو البلطجي بلا ثقافة. ففيما أرى قد يكون الشبيح أستاذاً في الجامعة أو طبيباً أو إعلامياً، أو قيادياً في الحزب الحاكم. وما هو أدهى وأمرّ أن الشبّيح قد يكون قيادياً معارضاً، يشبح بين فضائية وفضائية وبين نعيم الملجأ الباريسي أو اللندني، فتراه ينفث سموم الطائفية، ويلغ بدماء الشهداء، ويبلل بدموعه الشاشات مبشراً بالديمقراطية، وهو من كان يشخّص في أمس قريب الحلّ بالإسلام السنّي الحريري، نسبةً إلى سعد الحريري! ولعل لي عذراً في ألاّ أضرب مثلاً محدداً للشبّيح المعارض، لأن أذاه، وهو خارج البلاد، ليس أبعد ولا أهون من أذى صنوه الشبّيح داخل البلاد.
الشبّيح المثقف
لقد أثبتت الأحداث في سورية منذ 15/3/2011، ما كان معلوماً جداً طيلة خمسة عقود، من أن الشبّيح المتعلم أو الشبّيح المثقف ملكي أكثر من الملك، وفيه يصدق المثل القائل: (كلب الآغا آغا). فإذا كان الشبيح الأمي أو غير المثقف يغسل سيارة سيده ـ المعروف بلقب الباشا أو الأستاذ أو المعلم أو الخال ـ أو يحرس منزل سيده، أو يؤمن المخدرات أو العاهرات لسيده، وإذا كان مثل هذا الشبيح المسكين ينفلت مثل حيوان متوحش عندما يأتيه الأمر الصريح بقمع طلاب محتجين أو عمال متظاهرين.. فإن الشبيح المثقف قد يكون أشد فتكاً فيما يلعلع به في الفضائيات، أو فيما ينفث من حقد مسموم في صفحات الجرائد أو في الندوات أو في المحاضرات. وأقلّ ذلك أن يبلو زميلاً له معارضاً، بل شبه معارض، بالخيانة العظمى وبالعمالة وربما بالشذوذ الجنسي، ومن ذلك أنك إذا ما وقّعت على بيان ينادي بالإصلاح أو يدعو إلى الديمقراطية، كان لك الشبّيح بالمرصاد، يهددك حتى بالقتل عبر الموبايل أو الفيسبوك أو في الحارة، أو ـ على الأقل ـ يدعو إلى مقاطعتك، ويستعدي عليك ذويك و…
الشبّيح غير المثقف
غير أن الشبيح المثقف يشترك مع صنوه غير المثقف في صفات جمّة، فواحدهما ذاكرته ضحلة، وقح وحسود، ناكر للجميل وبليد، متقلب المزاج والرأي، بهلوان وعاجز عن الاعتراف بالخطأ أو عن الاعتراف بالآخر، إلا أن يكون سيداً له. وإذا كان صعود الشبيح المسكين غير المثقف محدوداً وعسيراً، فصعود الشبيح المثقف مفتوح ويسير، ففي غده قد يكون رئيساً لجامعة، أو لنقابة، أو سفيراً، بل قد يكون وزيراً.
يُسلس السلّم الصاعد قياده للشبيح غير المثقف، إن كان الشبيح ينتمي إلى أسرة متنفذة أنجبت المسؤلين الميامين، فالنسب العتيد يشفع هنا، ولا غرو إذاً أن (ينضج) الشبيح الغرير الشاب الجاهل، أي يتحول من أزعر أو مهرّب إلى مدير عام. وبعد عشر سنين ـ على الأكثر ـ قد يصبح عضواً في مجلس الأمة الشورى أو البرلمان أو مجلس الشعب. وفي مثل هذا المآل النجومي للشبيح، مثقفاً كان أم لا، تنتفخ خزائنه وحساباته البنكية، ويصير حقاً ذلك الذي سماه ممدوح عدوان الجلاد المتجول، أو القاضي الذي يحكم بالخيانة والعمالة والكفر على كل من يعارض أو يعترض.
[[[
أولاء هم البلطجية والبلاطجة والشبيحة الذين سماهم عبد الرحمن الكواكبي (أسراء الاستبداد)، وشخّص فيهم انحطاط الأخلاق والإدراك، والخمول والحيرة وضياع القصد، والحقد على مواطنيهم، وفقدانهم لحب الوطن والعائلة والأصدقاء، فلتحمنا الديموقراطية منهم: آمين. وكما ابتدأت، أختم بالرحمة على الشهداء من المدنيين والعسكريين، فكل قطرة دم تراق في سورية، أغلى من الروح.
(كاتب سوري)