زملاؤنا “الأعداء”/ عمر قدور
لا نعلم ما الذي دار في ذهن أدونيس، في ندوته الأخيرة في الجامعة الأميركية في بيروت، عندما حمل طلاب محتجون لافتات من أقواله هو نفسه. أغلب الظن أنه قال لنفسه: يا للحمقى الذين لا يفقهون عمق الكلمات من دون منحي فرصة لتوعيتهم. وهكذا أيضاً يستطيع ردّ العدد الفارغ من المقاعد، على رغم صغر القاعة، إلى جهل عام يمنع المقاعد من الامتلاء بالنخبة.
لئلا يُتهم الطلاب المحتجون باقتطاع أقوال أدونيس، هو قال في حواره مع موقع “نيويورك ريفيو أوف بوكس”: “أتساءل لماذا السجون العربية ليست مليئة بالكتّاب؛ لأنهم لا يقومون بوظيفتهم، ولا ينتقدون، ولا يتحدثون عن القضايا العميقة، القضايا الحقيقية للحياة، ولا يتحدثون عن الأزمات الحقيقية. لكن نقدي هو للكتّاب وليس للدولة؛ لأنه يجب أن يكونوا في السجن بسبب قولهم الحقيقة، وهم خارج السجن، لأنهم لا يقولون الحقيقة”. نعم، لدينا كاتب في القرن الحادي والعشرين يعيب على زملائه الكتاب أنهم ليسوا في السجن، بل لا يتورع عن القول بأن الوضع الطبيعي أن تكون السجون العربية مليئة بالكتّاب!
إذاً، بحسب أدونيس، لو كنا كتاباً حقيقيين لكنا اليوم في المعتقلات، ووفق ما هو معروف عن المعتقلات السورية لكان اليوم الجزء الأكبر منا قد قضى نحبه تحت التعذيب. بالطبع لا يكفيه أن غالبية الكتّاب السوريين اليوم ملاحقون ومطلوبون من أجهزة المخابرات، إذ ينبغي حصراً أن يكونوا قد سلّموا أنفسهم لتلك الأجهزة. ثم إن حوالي ثلاثمائة ألف معتقل على الأقل لا حساب لهم في مجتمع الصفوة، فهم ليسوا كتاباً ليكونوا دلالة كافية على وحشية النظام، هذا إذا لم نذكر فترات اعتقال طويلة جداً تعرض لها من قبل كتّاب مثل ياسين الحاج صالح وبكر صدقي والقائمة تطول، إذ ستكون حجته أنهم لم يكونوا كتّاباً حينها. مع ذلك، لم نسمع صوت أدونيس متضامناً عندما اعتقل النظام الكاتب ميشيل كيلو، في الوقت الذي كان فيه الأول يتجول طليقاً في سوريا وله إشراف معنوي على مهرجان ثقافي ينعقد سنوياً في مدينة جبلة الساحلية. للأمانة عبّر حينها عن نقد “حقيقي” وحيد، هو كثرة الزبالة في شوارع المدينة.
قد يحاجج أدونيس بأن ميشيل كيلو ليس كاتباً، وهو سبق أن فعلها عندما عرض عليه التضامن مع الشاعر فرج بيرقدار، اليساري الشيوعي المعتقل آنذاك في سجون النظام، وكانت حجته أنه لا يرى فرج شاعراً! بتعبير أوضح، هناك مرحلتان يجب تحقيقهما، الأولى اعتراف أدونيس بموهبة الكتّاب، ومن ثم امتلاء السجون بهم؛ هكذا يحصلون على مشروعيتهم، وبالطبع من دون انتظار تضامن أدونيس معهم لقيامهم بواجبهم المطلوب.
أية مخيلة إجرامية، تلك التي تتخيل امتلاء السجون بالكتّاب، فضلاً عن امتلائها أصلاً بمن ليسوا كتّاباً؟ قد يستثقل البعض وصفها بالإجرامية، لكنه الوصف الدقيق مع اتفاقنا على أن حجب حرية الرأي جريمة بموجب التشريعات المعاصرة جميعاً، أي أن صاحبها تحت زعم اتهام الكتّاب بالجبن يدعو إلى جريمة موصوفة، بدل دعوة الأنظمة إلى التقيد بالمواثيق الحقوقية الدولية. هذا الحقد على الكتّاب يصعب تصوّر صدوره إلا عن زميل لهم، لا للمكانة التي يحظون بها في مجتمعاتهم، وإنما لأن المخيال المضاد للأنظمة لن يتبرع في تحريضها على ارتكاب المزيد.
إتهام أدونيس في علويته واعتبارها محرضاً على إبادة الآخرين مادياً ومعنوياً غير كافٍ، أو بالأحرى لا يفسّر مجمل الحقد الذي صدر عنه بعد بدء موجة الثورات. أدونيس وأمثاله لا يدافعون عن طاغية صغير إلا لأنهم يدافعون عن أنفسهم، يدافعون عن زمنهم المطابق لزمن تلك الأنظمة. بتعبير أدق، يدافعون عن سلطتهم المطابقة لسلطة الطاغية السياسي زمنياً، والمكملة لها من حيث نوعية انتقادها وانتقائيتها. على العكس تماماً من ادعاء أدونيس، ثمة أجيال منخرطة جداً في اليومي والمعاش، أجيال تخلت عن التهويم في فضاء العموميات الذي لازم أجيالاً سابقة. هؤلاء ليسوا بحاجة إلى استرجاع قرون من الاستبداد للقول بأن الاستبداد الحالي وريث لها، هم أبناء الواقع حقاً، والذين تظاهروا ضد بشار الأسد تظاهروا أيضاً ضد انتهاكات التنظيمات الإسلامية. لا يرى أدونيس أولئك لأنه لا يريد سوى رؤية الواقع المطابق لترسيمته، يريده واقعاً متخلفاً ليبقى متربعاً على عرشه التنويري المزعوم.
ما يكمل مقولات أدونيس سنراه في مقال للشاعر عبده وازن، المحرر الثقافي في جريدة الحياة، تعرض فيه لما رآه شهرة غير مستحقة للكاتبة السورية سمر يزبك. مقال وازن، الذي قوبل باحتجاج واسع وبردود صحافية، يمنح فيه لنفسه سلطة واسعة في التقييم الأدبي، مثلما يمنح لنفسه في مقال لاحق سلطة وصف الاحتجاجات بأنها “ثرثرات حمقى” مستقوياً بنسب هذا التعبير لأمبرتو إيكو. في ردّه على المعترضين، يعود وازن ليستنكر مقارنة كاتب غربي معروف كتاب سمر بكتاب لجورج أورويل، وكأن أورويل في كل ما كتب صنم خالد، أو سلطة لا تحول ولا تزول، ولا تجوز مقارنة كتاب جديد بأيّ من كتبه.
إننا إزاء رأيين متكاملين يخصّان الكتّاب السوريين تحديداً؛ أدونيس يرى مكانهم الطبيعي في السجون، وعبده وازن يلاحق من اكتسب منهم شهرة في المنافي كدليل على “نعمة” غير مستحقة بفعل ما يسميه “اللعنة السورية”. هي محاسبة لا ترحم على كوننا أحياء خارج السجون، وأيضاً على كون البعض منا لم يبق في العتمة التي يفترض أنها مكاننا المستحق كسوريين. حتى إذا أخذنا إشارة وازن إلى سوريين ربما يستحقون ما لا تستحقه سمر يزبك، فهذه الإشارة تصبح نبيلة حقاً عندما يدافع صاحبها عمّن لم يأخذ حقه من الضوء، لا عندما يكرّس جهده للانتقاص ممن يظن أنه تخلص من العتمة.
ثمة عقلية متكاملة سمتها النقمة لأنها ترى زمنها ينقضي إلى غير رجعة، لذا سمتها الأخرى هي الانتقاص من الواقع أو حتى إنكاره تماماً. هذه العقلية لا يُستبعد منها القول فور قراءة ما ورد في عنوان هذا المقال عن زمالة الكتابة: من أنتم؟!
المدن