زمن الأدب وإشكاليّة العقل الثقافيّ العربيّ/ محمد صابر عبيد
لا تتوقف إشكالية العقل الثقافيّ عند حدود عمل أو عنصر معيّن من عناصر بناء هذا العقل، غير أنّ “الزمن”، من بين هذه العناصر، يساهم مساهمة فاعلة جذرية في صوغ نُظُم هذا العقل والإحاطة بطبيعته، وتشكيل رؤيته وقدرته على التفاعل مع المحيط الذاتيّ من جهة والمحيط الآخر من جهة ثانية، ولا بدّ لهذا العقل من إدراك حقيقيّ وتمثّل نوعي واستيعاب كلّي لشكل الزمن وفعله وحركيته وتاريخه، من أجل إتقان الصورة المثلى المناسبة التي عليه أن يتعامل معه على وفقها، والزمن أزمان بحكم طبيعة توجيه الفكر الزمنيّ والتقاط حساسيته وسبل تسييره على خطّ السيرورة.
تعمل آليّة الزمن على هذا النحو، عملاً أساسياً وجوهرياً في صناعة التاريخ بمختلف تمظهراته وأشكاله وقضاياه، وتكمن هذه الصفة الأساسية والجوهرية في مساهمة منطق الزمن في تكوين فضاء العصر، وتأثيث مفرداته، وتداول سلوكياته، وينعكس معناه في تقويم حركة الحياة وتحديد طبيعة أنشطتها، بمعنى أن ساحته المركزية في تنفيذ هذه الأنشطة هو العقل بوصفه المحرّك الجوهريّ للفكر في منظومته النظرية وممارسته الإجرائية، وهو الذي يمنح الأشياء معناها على الصعيد الفلسفيّ التصوريّ والتكوينيّ.
إنّ الزمن في منحاه وسياقه العام، يأخذ أبعاده ويؤسس منطقه استناداً إلى طبيعة الميدان الذي يفعل فيه ويتمظهر من خلاله. ثمة أزمان مختلفة ومتعددة ومتنوعة تأخذ أشكالها وألوانها من خواص الميدان وكيفياته. فثمّة زمن فلسفيّ، وزمن تاريخيّ، وزمن نفسيّ، وزمن أدبيّ (شعريّ وسرديّ)، وأزمان أخرى تتشكّل على وفق التوصيف الذي يتعامل به مستخدم الزمن على صعيد الرؤية والتحليل والتوجيه.
زمن الأدب هو زمن نموذج نوعي من نماذج الزمن العام تتدخل فيه الصفة الأدبية ذات الطبيعة الإبداعية على نحو مباشر وفعّال. لذا تُعدّ “الأدبية” المضمون الأول والأكثر حضوراً للإطار الزمنيّ فيه. من هنا يتأسس شكله، وتتحدد وظيفته، ويتشكّل معناه، ولا يتأكد حضوره منفصلاً عن نوعه الأدبيّ مطلقاً. حتى في هذا السياق النوعيّ، ثمّة طبيعة خاصة للأجناس الأدبية وأنواعها، بحيث يكون فيه زمن الشعر غير زمن السرد، وزمن الشعر نفسه يختلف بين قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، مثلما زمن السرد يختلف بين الراوية والقصة القصيرة جدا والسيرة وغيرها. فالنوع عادةً هو الذي يغذّيه بالمحتوى والدلالة والمعنى والقيمة ويعبّر عن إمكاناته ويحقق هويته. عبر هذه المداخلة بين العمومية المفتوحة والخصوصية الموجهة، تبرز إشكالية المصطلح، ومدى صحته النظرية وسلامتها في التطبيقات الفلسفية والنقدية والأدبية.
إنّ إطلاق مصطلح “زمن الأدب” يثير جملة من التحديات على مستوى الأبعاد النظرية لقراءة المصطلح، وعلى مستوى صلاحيته في ميدان التطبيق، ولعلّ الاطمئنان إلى سلامة مصطلح “زمن الأدب” يعني ضرورة وجود أزمان أُخرى لكلّ الأنشطة في المجالات الإنسانية الأخرى، وهذا في ذاته مشكلٌ معرفيّ يحتاج إلى قدر كبير من التأمل والتدبّر والفحص والاختبار والتجربة.
وإذا ما شئنا تأمل حركة المصطلح في ضوء مشهد العقل الثقافيّ العربيّ، فيمكننا القول إنّ هذا العقل مرّ بأزمان أدبية مختلفة عُرفتْ في المدوّنة النقدية العربية بـ”العصور الأدبية”، وتضمنت على نحو أو آخر معنى “زمن الأدب” وفق ضوابط مدرسية معروفة لها صلة بالتاريخ والبيئة والثقافة، لكنها لا يمكن أن تجيب عن سؤال زمن الأدب بوصفه إشكالية لها صلة وثيقة بطبيعة تشكيل العقل العربيّ. ربما كانت مقاربة أدونيس في “زمن الشعر” مناسبة للاحتكام إلى الميراث الثقافيّ العربيّ بوصفه ميراثاً شعرياً في الدرجة الأساس، بما يمكن أن يعني أنّ الزمن الأدبيّ العربيّ في رؤياه الثقافية هو زمن شعريّ في المقام الأول، يتفوّق الشعريّ البيانيّ فيه على الفكريّ العقليّ الفلسفيّ على النحو الذي يبدو العقل العربيّ فيه عقلاً زمنياً بالمعيار الكميّ لا النوعيّ.
إنّ تقرير هذه المسألة وتثبيتها على النحو الذي درجت عليه المنهجية العربية بالصورة التي رأينا، لا يمكن أن تتوقف عند هذا الحدّ. ثمة أسئلة كثيرة ومتنوعة تتعرّض لها المصطلحات والمفاهيم باستمرار، من بينها أسئلة في غاية الخطورة لا يمكن تجاهلها أو تنحيتها أو إهمالها. قد تكون أسئلة الحداثة وما بعد الحداثة من تلك الأسئلة الواجبة الأخذ والدراسة في ضوء مقاربة زمنية بالغة الدقّة والمنهجية. إذ على الرغم من تشابكها وتعقيدها وإيهامها أحياناً، استطاعت أن تترك ظلّها على زمن الأدب/ زمن الشعر العربيّ، وتفعل فعلها فيه.
في مراجعة متأنية للتحدي الذي عاناه المصطلح من جراء حراجة الأسئلة وتشابكها وتعقيدها وغموض بعضها، يمكن أن نستنتج طبيعة الدرس الثقافيّ الأهم الذي يجب على العقل الثقافيّ العربيّ أن يفيد منه ويتبنّى نتائجه، على النحو الذي يجعله في محنة تكوينية لا يمكنه الخلاص منها ببيانات أو نداءات ذات طبيعة إنشائية.
أما الأسئلة المتناثرة الأخرى فتتعلق بطبيعة الأنواع الأدبية التي لا تنتظم في قائمة الإرث الثقافيّ العربيّ المعروف، ومارسها العقل الثقافيّ العربيّ مستفيداً من المثاقفة الحضارية والمصالحة الثقافية مع الآخر، إذ يتوقف أمر مجاراة الآخر في استعمال أنواعه على عوامل كثيرة جداً لا يمكن تقويم نتائجها وحسمها بسهولة. فباستثناء زمن الشعر وفق المحاصصة التاريخية الإجرائية في نمطها التقليديّ، لا يمكن النظر إلى إمكان اكتشاف علاقة فكرية وافية بين مفهوم زمن الأدب والعقل الثقافيّ العربيّ.
فإذا كان “زمن الشعر” عربياً بامتياز، فكيف هو زمن الرواية وزمن القصة وزمن المسرح وزمن التشكيل وزمن الفلسفة وزمن المنهج وزمن النظرية عربياً؟
إذا كان التساؤل حساساً إلى درجة عالية فنرى أن من المنطقيّ التخفيف قدر الإمكان من غلواء هذه الحساسية (المفرطة أحياناً)، وتهنئة التضافر الحضاريّ على نجاحه في وضع مختلف العقول الحضارية في العالم على خطّ شروع إبداعيّ واحد، بلا امتيازات تُذكر لأيّ سبب من الأسباب، على النحو الذي جاز فيه أن يفوز روائيّ عربيّ مثل نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عن إبداعه الروائيّ، على الرغم من أنّ فنّ الرواية هو فنّ حديث عربياً ومأخوذ ومستورد من الآخر، ولم يفز بها شاعر عربيّ (ربّما لن يفوز مطلقاً) يستند إلى ميراث خصب عمره مئات السنين من تاريخ الجنس الأدبيّ وتجارب النوع، وهذا ما يفسّر لنا كولونيالية العقل الغربيّ وهو لا يسمح للعقل العربيّ بأن يحتفل بذاته ليفوز شاعر عربيّ بهذه الجائزة العالمية الكبرى كي يعيد أمجاد تراثه الشعريّ (ديوان العرب).
لا شكّ في أنّ ذلك يقود إلى تحطيم تقاليد الزمن وقواعده في شكله الأدبيّ خاصة، وما ينعكس عليه من تدمير لتقاليد النوع والإضرار بطبيعة الثقة التاريخية المتبادلة بين شكل النوع واستراتيجيا القراءة، في السبيل لإيجاد بدائل تعويضية تذهب من الخاصّ إلى العام، ومن الجزئيّ إلى الكليّ، ومن المحليّ إلى العالميّ، على النحو الذي يفقِد زمن الأدب خصوصيته ويُلحقه تابعاً هامشياً لسؤال العولمة.
إنّ مجموعة المفاهيم العاملة في حقل المصطلح، كلّ مصطلح، تتغير كما هو معروف بتغير المادة الأولية المكوِّنة له من جهة وشكل المقاصد التي يزمع توجيه حركة المفاهيم إليها من جهة أخرى، فضلاً عن النتائج المتوخاة/المتوقعة من أنشطتها في ميادين المعرفة ومساراتها وتجلياتها كافة. وقد أدى حصار “زمن الأدب” في سعي لعولمته إلى حصار النوع، ومن ثم حصار العقل الثقافيّ لتدجينه وإلحاقه بمقتضيات العقل العولميّ، وجعله على نحو من الأنحاء تابعاً له يدور في فلكه، ومخرجاً من مخرجاته، على النحو الذي يتخلّى عن كفاءته ومرونته وخواصّه في النظر والفعل والعمل والإنتاج، ويتلبث خارج قوس الانتماء والصيرورة والزمن والحضارة والتراث.
وإذا كان لا بدّ من المواجهة، فهل علينا أن ننهمك في تثبيت أركان المصطلح وتعزيز ألوانه والإمساك بشبكة مفاهيمه، وتكريس الحالة الثقافية المطلوبة والمناسبة، وتحريض العقل الثقافيّ على رفدها بأسباب الديمومة والاستمرار والنمو والتمثّل، مع النظر بحرية وديموقراطية وانفتاح إلى الماحول والمحيط والآخر (غير المعادي) والإفادة من معطياته في التطوير والتحديث والارتقاء؟ أم الاستجابة لمنطق رياح العولمة بفرضياتها المهددة لهذا الزمن والملوّحة بإفقاده خصوصياته ونكهته المعرفية، والاندفاع التلقائيّ في مساراتها، بما يعني التخلي عن التشبّت القويّ بعراقة المصطلح وحيويته الانتمائية وألوان مفاهيمه المغايرة؟
نجد أنّ التحدي يحتاج إلى مقومات وإعدادات ليست قليلة، وإلى ظهير فكريّ فلسفيّ معرفيّ قويّ وخصب وفعّال ومنتج وحيويّ ومتطوّر، وإلى جرأة انفعالية ومغامرة عقلية، فضلاً عن الفهم والإدراك والقدرة على تبنّي خيار الدفاع بهذا المعنى المستوفي شرطه الحضاريّ، وهو المضمون الحقيقيّ الفاعل لسؤال العقل الثقافيّ العربيّ الراهن.
فإلى أيّ مدى سيتلبث زمن الأدب كائناً حيوياً مثيراً لانفعالاتنا ومستجيباً لعواطفنا وأحلامنا وخيالاتنا ورؤانا؟ وإلى أيّ حدّ سينجح المصطلح في تحديه ليواجه الهجمة المفاهيمية الشرسة وهي تحيط به من الجهات كلّها؟ وكم يحتاج العقل الثقافيّ العربيّ من الوقت ليجعل سؤاله في قامة أسئلة الآخر وفي مواجهته حتماً؟