زمن الاحتقار
إبرهيم الراعي
“منذ عشر سنين، هنالك نظام تمرّس في عملية تحطيم النفوس. كان واثقاً من قوته الى درجة أنه صدّق أن النفس هي العائق الوحيد المتبقي وأن من الواجب تحطيمها. وقد ركز اهتمامه على ذلك، ولتعاسته نجح في بعض الاحيان. كانوا يعرفون أن هنالك وقتاً مناسباً من النهار أو الليل يكون فيه أكثر الناس شجاعة ضعفاء. كانوا يعرفون انتظار تلك الساعة. وفي ذلك الوقت، كانوا يبحثون عن النفس من خلال جروح الجسد، كانوا يستسيغون إثارتها وجعلها تصل الى درجة من الجنون أو حتى الخيانة والكذب.
من يجرؤ أن يتكلم هنا عن المسامحة؟ بما أن الروح الانسانية فهمت أخيراً أنه لا يمكن القضاء على السيف إلا بالسيف، وبما أنها حملت السلاح وانتصرت، فمن يريد أن يطلب منها أن تنسى كل شيء؟ لن يتكلم الحقد في الغد، ولكن العدل سيتكلم، العدل المبني على الذاكرة. وأنه من العدل الأزلي والمقدس، أن نقوم ربما بالغفران من أجل أولئك الذين ماتوا من دون أن يتفوهوا بكلمة، بسلام القلب الذي لم يخن البتة، ولكن علينا أيضاً أن نضرب بقوة من أجل أولئك الشجعان الذين تم إذلالهم وتحطيم نفوسهم والذين ماتوا بأسى حاملين في داخلهم حقدهم للآخرين وإحتقارهم لذاتهم”.
(ألبر كامو، زمن الاحتقار، 30 آب 1944)
إن تمادي النظام الأسدي في القتل وتفننه في الجريمة لا بد أن يوصلا الى الوضع الذي وصلت اليه الأمور في أوروبا عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، لا بل أكثر. هناك، ثار الشعب وحصلت محاكمات ميدانية وتم اعتقال كل من تعامل مع النظام النازي، والتنكيل به وقتله. حتى إن مفكراً مثل كامو تفهم أن يأتي وقت لن يستطيع فيه الشعب الثائر أن يكبح رغبته في الانتقام من هؤلاء “الشبّيحة” الذين زرعهم النظام كجواسيس ومخبرين. لا بل إن أفعال الاحتلال النازي قد تبدو بسيطة بالمقارنة مع الجرائم المتمادية لنظام صمد أكثر من أربعة عقود وتمرّس في فنون التعذيب والاهانة وقتل الروح والجسد في حق مواطنيه الاصليين. قد تبدو جرائم النازية (في فرنسا على الاقل) “حضارية” نسبة الى مجازر إعدام المدنيين العزّل والاطفال في حولة والقبير وتبليسه.
اليوم تطالب بعض الجهات الدولية، مثل روسيا، بالتعقل واتباع طريق المفاوضات السلمية من أجل الوصول الى حل ديبلوماسي. هل هذه هي روسيا ذاتها التي ثارت لكرامتها في العام 1941، ولمَ لم تعتمد وقتذاك سياسة المفاوضات المذلة مع المغتصب النازي؟ لكن يمكننا أن نتفهم الموقف الروسي الناجم عن نظام تعاطى بالوحشية ذاتها مع شعب كان يتوق الى الحرية والاستقلال في الشيشان. هل يمكن بعد كل الدماء والدمار النفسي والمعنوي أن يقبل الشرفاء في سوريا (هؤلاء هم فعلاً أشرف الناس!) الذين يمضون في تظاهرات سلمية بصدور عارية معرضة للرصاص، بأن يجلسوا مع القتلة وبأن يصوغوا دستوراً جديداً للحكم يحفظ كرامة القاتل ويتركه في مركز السلطة؟
لقد تجاوز النظام السوري خط الرجعة. كان يمكنه، في أوائل الانتفاضة وحتى بعد أحداث درعا، تدارك الامر والوصول الى حل سياسي يجنّب سوريا الانزلاق المتسارع نحو الحرب الاهلية، لكن العادات المستشرية من الصعب تغييرها. من الصعب التوقف عن الكذب والمماطلة ومحاولات إمرار الوقت ووقف التنكيل بالناس. في الحقيقة إن مصطلح “الحرب الاهلية” لا يصلح لأن يطبَّق على الوضع السوري، فالمعركة ليست بين المكوّنات الرئيسية للوطن، بل هي بين نظام فاسد ومتغطرس وبين الشعب. إنها ثورة شعبية بامتياز وإن كان المكوّن العلوي يعطيها لوناً طائفياً يظهر أحياناً ليغيب أحياناً أخرى. وإذا أصر البعض على تعبير “الحرب الاهلية”، فيمكن القبول بهذه التسمية فقط من باب المقارنة مع الحرب الاهلية في إسبانيا في العام 1936، حيث واجه الشعب بأكثريته الساحقة وبتدريب بدائي على أسلحة فردية، جيشاً نظامياً يدعمه سلاح الطيران وتدعمه الانظمة الفاشية في أوروبا، تماماً كما تقف اليوم آخر الانظمة التوتاليتارية في العالم (روسيا، أي الاتحاد السوفياتي الجديد، والصين) الى جانب نظام الاسد. وكما فعل الديكتاتور فرنكو في إسبانيا، بشنّه حرباً شعواء على شعبه من أجل إخضاعه، مستعملاً حتى سلاح الطيران، كذلك يفعل الأسد الآن، بعد فشل جيشه في الدخول الى بعض المناطق الثائرة. هكذا صارت حماه شقيقة لغيرنيكا وقانا وغيرهما من المدن الشهيدة التي شهدت مجازر وجرائم في حق الانسانية. لكن الامل يبقى بأن يتغلب الشعب هذه المرة على آلة الموت، التي يجسدها جيش النظام المطعّم ميليشيات الشبّيحة والمجرمين.
عسى أن تشكل الثورة السورية نموذجاً حقيقياً للتوق الى الديموقراطية في العالم العربي، لا يلغي الآخر ولا يستبدل نظاماً توتاليتارياً علمانياً بآخر ديني، وإنما بنظام يعطي الجميع حق الوجود والمشاركة السياسية. وإذا كان ربيع لبنان قد أجهض من الداخل، على أيدي القوى المتآمرة على الديموقراطية، كما على يد النظام المحتضر في سوريا، فإن الامل عاد بربيع سوري يمتد على المنطقة كلها، بنسيم بردى وأحلام الليالي الدمشقية.
النهار