زمن التضليل الماحق/ حبيب سروري
لعل أحد أهم مواضيع اليوم الذي لا تنفك الدراسات عن خوضه، والانكباب عليه: مصطلحٌ جديد أطلِق في عام 2016، حسب قاموس أكسفورد: “ما بعد الحقيقة”، Post truth.
وباءٌ جديد فتاك، لا نتحدث عنه نحن العرب كثيرًا، وإن كنّا، كما سأوضِّح لاحقًا، أسهل الضحايا للسقوط في حبائله.
تضمّ طاقية هذا المصطلح اليوم نوعين ساحقين، أحدهما انتشر كالنار في الهشيم بعد انتخاب ترامب، يطلق عليه: “الأخبار الوهمية” Fake news.
والثاني دخل القاموس الدولي، إثر تصريح شهير لمستشار ترامب: كيليان كونيي، في 22 يناير 2017، يطلق عليه: “الحقيقة البديلة” Alternative truth.
بيد أن شرارة شدّة انتشار مصطلح “الأخبار الوهمية” تعود للشاب الأميركي كامرون هاريس، 23 سنة، الذي تخرّج من الدراسة حديثًا.
بغية حل مشاكل ديونه إثر الدراسة الجامعية، أطلق هذا الشاب الذي كان يميل إلى نجاح ترامب، موقعا على الإنترنت، اشتراه بخمسة دولارات.
كتب فيه مقالاً صادمًا عن تلفيق انتخابي يتم إعداده، في إحدى الغرف تحت الأرضية في مصنعٍ أميركي في ولاية أوهايو التي ألقى ترامب فيها قبل ذلك، وهو في أسفل استفتاءات الرأي، خطابًا يشكِّك فيه باحتمالات غشٍّ في فرز الانتخابات، لصالح منافستهِ هيلاري كلينتون.
أضاف هاريس إلى المقال المثير جدًا صورًا ملفّقة فيها براميل أوراق انتخابية مزيّفة، وكل ما يؤكد للعين المجرّدة وجود غش انتخابي مباشر، ينطلق من كواليس قاع ذلك المصنع، لمنع نجاح ترامب في هذه الولاية.
وضع رابط مقاله في منشور على صفحات الفيسبوك، دافعًا لموقع التواصل الاجتماعي هذا خمسة دولارات أخرى، بغية توسيع انتشار منشوره وحصد آلاف “اللايكات” لا غير.
وضع بجانب مقاله بضع دعايات تجارية، لكسب مبلغٍ من شركة غوغل، مقابل الدعايات التي نشرها على موقعه بجانب مقاله. (تدفع الشركة مبلغاً، لصاحب الموقع، يتناسب طرديًا مع عدد نقر القراء لمقال الموقع الذي يحوي تلك الدعايات).
غير أن اختيار موعد نشر المقال في زخم القلق الانتخابي وعصبيته، ومهنيةَ هاريس في صياغة الخبر الزائف ليبدو حقيقةً لا يمكن إنكارها، جعلَ المقال ينتشر على نحوٍ فيروسي، بسرعة الضوء، ليقرأه عشرات الملايين من الناس، وليثير سخط أو انفعال عدد هائل، وليجعل الملايين منهم “يشاركون” المقال (حسب الخاصية الفيسبوكية التي تسمح لصاحب أية صفحة فيسبوكية بتعميم المنشور لأصدقائه ومتابعيه الفيسبوكيين).
كسب هاريس، كما صرّح لصحيفة نيويورك تايمز، مائة ألف دولار، في زمن بسيط، بفضل مردود تلك الدعايات. ناهيك عن أن ثمن بيع عنوان موقعه، الذي اشتراه بخمسة دولارات، ارتفع على نحوٍ أساسي، ليصير 125000 دولار، بفضل شهرته!
السؤال الذي يطرح نفسه: ما الجديد الذي قاد لإطلاق مصطلحٍ طازج اسمه “الأخبار الوهمية”، فيما كل تاريخ البشرية مشحون بمثل هذه الأخبار الملفّقة، أكان ذلك لكسب حرب، أم للتحريض على أو لصالح ثورة، أو لنشر رسالة دينية أو أيديولوجية، أو لغير ذلك من أسبابٍ لا تعدّ ولا تحصى؟
إذ من منّا لا يلاحظ أن الأكاذيب تسبق وترافق كل الحروب والصراعات على السلطة؟ ولعل الجميع يتذكّر تبرير خوض حرب غزو العراق باسم “أسلحة الدمار الشامل” الذي يمتلكها “رابع أهم جيش في العالم”، حسب أطروحات بوش آنذاك.
من دون الحديث عن أفواج الأخبار الزائفة التي تنشرها الأنظمة التوليتارية من أزل الآزلين.
أوليست الأخبار الوهمية التضليلية تسبق أحيانا المشاريع النبيلة أيضًا، مثل ما كان يُطلقه بعض المحرضين على الثورة الفرنسية في “جرائد الثرثرة” Gazette، من لندن، للسخرية من ماري أنطوانيت، والاستخفاف بالعائلة الملكية الحاكمة؟
ثمّ أوَليس ثمّة تعارضٌ جذري بين السياسة من ناحية، وسرد الخبر الحقيقي من ناحية أخرى، أشارت له الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت عندما لاحظتْ أن “ثمّة دومًا صراعا بين السياسة وصحة الحدث، يتفجّر اليوم على نحوٍ أشد”؛ هي التي حلّلت أساليب الأنظمة التوليتارية في انتهاك عذريّة “الواقع الخام”، وتحريف أرقام الحقائق.
للإجابة على هذه الأسئلة
ثمّة خاصية “فيروسية” يمتلكها اليوم نشر الأكذوبات على الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، تسمح لها بالوصول إلى مئات الملايين، ومشاركتها من قبل الملايين، في سويعات، لتنتشر على نحوٍ أسيّ في كل العالم.
يكفي أن تكون مهنيّة في صياغتها وكذبها وتقنيعها واستخدامها لوسائل التكنولوجيا الحديثة، وأن تُجيد هزّ المشاعر وإثارة انفعال القارئ أو سخطه.
خلقَ فنُّ التضليل الفيروسي الحديث هذا وجلاً عالميًا من قدراته الواعدة وعواقبه الماحقة، لا سيما وأنه يُسيل لعاب الكثيرين في كلِّ أنحاء العالم، ومن كل الشرائح الاجتماعية (كحال الطلاب الذين يريدون تسديد كل ديون دراستهم الجامعية الباهظة، عبر كسب مبالغ خيالية في سويعات). من دون الحديث عن الأحزاب السياسية التي وجدت في ملكوت فن هذا التضليل الحديث، الذي لا يمكن منعه قانونيًا، مربط فرسها الأثير.
اعتبرت صحيفة نيويورك تايمز الرئيس ترامب “أمير شعراء” الأخبار الوهمية، وبلا منازع: نشر خلال أول 6 أشهر من رئاسته: 115 خبرًا وهميًا، كما تقول الصحيفة، هو الذي يتهم الآخرين دومًا بنشر الأخبار الوهمية.
بجانب هذا النوع التضليلي، ظهر نوعٌ جديد أشدُّ مكراً في تقديري، وإن كان أقلّ استعراضًا في طبيعته التحريفية: الحقيقة البديلة!
انطلق سِفر تكوين هذا المصطلح عقب استخفاف ترامب بقول الصحافيين بأن عدد الذين حضروا احتفال تتويجه كرئيس أقل بكثير من عدد الذين حضروا حفل تتويج أوباما.
اعتبر ترامب قولهم: “تافهًا”، مضيفًا: “رأيت أمامي مليونا ونصف مليون محتفِل بتنصيبي!”.
عندما برهن الصحافيون بالصور بأنه لا مقارنة بين جحافل من حضروا حفل أوباما، والعدد المتواضع لمن حضر حفل ترامب؛ واستنكروا كذبه؛ قال مستشاره كيليان كوليي (الذي يعود له “الفضل” في اختراع هذا المصطلح الجديد): “إنه ليس كذباً، لكنه حقيقة بديلة!”.
مثيرٌ جدًا هذا المفهوم، لكونه يزعزع جذور ومداميك مفهوم الحقيقة الموضوعية، من دون أدنى خجل.
لا يختلف ذلك عن قول المرء إن “اثنين زائد اثنين يساوي خمسة” حقيقةٌ بديلة لـ: “اثنين زائد اثنين يساوي أربعة”!
لسنا هنا، مثل حال “الأخبار الوهمية”، أمام تلفيقِ خبرٍ من الألِف إلى الياء. لكننا، في عالم هذه “الحقيقة البديلة” أمام بلوى مسٍّ بمفهوم الحقيقة الموضوعية التي تمثل إسمنت الحياة وقاعدة ارتكاز هيكل المجتمع.
للمنظِّرين لهذا المفهوم الجديد أطروحات يقف لها شعر الرأس أحيانًا، لعدم اختلافها في الجوهر عن أساليب الكهنة والظلاميين وقادة الأنظمة التوليتارية: “الحقيقة هي ما يؤمن أغلبية الناس به، وليست بالضرورة الحقيقةُ الواقعيةُ أو التاريخية”.
تقع أيضا في شريحة هذه “الحقائق البديلة” أكذوباتُ قادةِ داعمي خروج بريطانيا من الجمعية الأوروبية، عندما قادوا حملتهم الانتخابية رافعين، فوق الباصات وفي كل مكان، رقم مبلغٍ هائل يكلِّف بريطانيا يوميًا جرّاء بقائها في أوروبا.
ساعدهم مفعول التأثير النفسي السريع القوي للرقم، على المواطن البسيط، لِكسب عدد واسع من الناس للتصويت لصالح “البريكست” الذي أدّى فعلاً إلى خروج بريطانيا من أوروبا.
غير أنهم، عقب نجاحهم في الانتخابات، لم يعودوا يتحدثون عن ذلك الرقم المُلفّق، الذي كان هو الآخر “حقيقة بديلة”. أي مبالَغةً كاذبة، هدفها التأثير المباشر على مشاعر الناس، وجرّهم سريعا باتجاه هدف محدد، من وحي مبدأٍ منسوب على نحوٍ غير دقيق لصاحب كتاب “الأمير”، العبقري ميكافل: “الغاية تبرر الوسيلة”.
التأثير على مشاعر الناس على هذا النحو الفيروسي، عبر “الأخبار الوهمية” أو عبر “الحقائق البديلة”، هو الذي قاد الكتّاب والمفكرين اليوم إلى تسمية عصرنا الإعلامي هذا عصر: “ما بعد الحقيقة”.
لماذا نحن العرب اليوم، في تقديري، صيدٌ سهلٌ لهذين الشكلين الخطيرين من التضليل، أكثر من غيرنا؟ كيف نواجه خطرهما؟
ضفة ثالثة