زمن التيه/ مصطفى زين
لجأ المسرحي الفرنسي جان – بيار فانسان إلى بيكيت. تحديداً إلى «في انتظار غودو». غادر بريشت والملحمة والإدهاش والتغريب إلى الغرق في اللامعنى. انتقل من التحريض السياسي إلى البحث في الوجود والعدم. من هدم الجدار الرابع إلى تكثيفه. العالم كله جدران. جدران تفصل الروح عن الجسد. والفكر عن الواقع. واللغة عن الخطاب. والنص عن المتلقي.
انتقل فانسان من المسرح الأيديولوجي إلى العبث. كان وزملاؤه البريشتيون يتهمون بكيت وأرتو ومسرح العبث بالبورجوازية. كانوا يفضلون تثوير الجماهير على البحث في أعماق الإنسان. وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية. بعدما قتل أكثر من ثلاثين مليون إنسان. ثلاثون مليون قتيل جعلت بريشت يبحث عن وسيلة لإنقاذ البشرية. لم يجد سوى الأيديولوجيا الماركسية مخلصاً. ودفعت الحرب بيكيت وأرتو إلى البحث في أعماق الإنسان. ولنقل إلى عدم البحث في شيء. فاللغة لم تعد قادرة على التعبير. أصبحت مجرد حروف متناثرة. وأصبح الذهول أمام مشاهد القتل والدمار أكثر تعبيراً. الكلام أصبح حاجزاً أمام التواصل، أو هو لغة الفراغ. لغة تاريخ لا علاقة لها بالحاضر. تاريخ مات لكنه ما زال فاعلاً بقوة (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة/ النفري).
مشهد الشجرة العارية والصحراء «في انتظار غودو» والصمت جزء أساسي من العرض. إنه التيه الذي لا نهاية له. أما أستراغون وفلاديمير (بطلا المسرحية) فصودف وجودهما في هذا المكان. مصادفة تشبه مصادفة ولادة أي إنسان. هما في هذا المكان كي ينتظرا غودو. بل ينتظرانه لأنهما هنا. كأنهما في كل مكان وفي اللامكان. ينتظران وهما على يقين من أنه لن يأتي لأنه غير موجود. هذه لعبة بيكيت وعبثيته. لكثرة تكثيفها زمانياً تصبح مأساة، لكنها مضحكة.
في زمن الحرب، لمن عاشها سابقاً، أو يعيشها الآن، ينتهي الإحساس بالزمن. الزمن مستمر في الدوران، لكننا لا نشعر به (فانسان). لا يعود للماضي ولا للحاضر، أو التاريخ أي معنى. يتجمد كل شيء. هي لحظة تشبه لحظة ركوع أي ضحية من ضحايا «داعش» أمام جلاده في انتظار قطع رأسه. في هذه اللحظة تمحي الذاكرة والتاريخ، يختلط الماضي بالحاضر. والشخصي بالعام. والموت بالحياة. والخوف بشجاعة الاستسلام. زمن «داعش» يمتد من أول التاريخ إلى ما بعد الفناء. من اللانهائي إلى اللانهائي. من العدم إلى العدم. هو صاحب المكان والزمان. البشر كل البشر لديه عبيد. الأهوال التي يرتكبها مبررة. تحرم كل ما هو إنساني جميل. تخاطب المطلَق والأبد. وعلى العبيد خدمتها. وإلا تحولت إلى خناجر في الرقاب.
هو زمن التيه نعيشه. زمن تختلط فيه المفاهيم والقيم. ليس ما يعبر عنه سوى العبث وانتظار «غودو» الذي لن يأتي أبداً.
الحياة