زمن الثورات العربية وآفاقها/ سلامة كيلة
قبل ثلاثة أعوام، وعبر “حادث عابر”، شهدنا ثورات كبيرة، بدأت من مدينة صغيرة في تونس هي سيدي بوزيد، حيث أشعل احتجاج شاب ثورة أفضت إلى تهريب بن علي، لتمتد بعد أيام من انتصارها إلى مصر، حيث جرى تنحية الرئيس محمد حسني مبارك بعد 18 يوما من الاعتصام في ميادينها.
ثم توسع الأمر لاحقا إلى البحرين واليمن وليبيا، وتحرك الشعب في الأردن والعراق والمغرب، بعد أن كان قد تحرك لفترة وجيزة في الجزائر، ثم تحرك أيضا في السودان.
ومازلنا في معمعان الثورات رغم ما أتت به، وما أوحى بأنها فشلت أو جرى الالتفاف عليها، أو حتى أنها انتهت، فقد أفضت، كما ظهر، إلى اللاشيء، حيث تكرّس النظام القديم بأسماء جديدة.
وكانت قد قادت أطراف من السلطة القديمة مرحلة انتقالية سريعة، أوصلت في انتخابات أطرافا “إسلامية” (جماعة الإخوان المسلمين) إلى السلطة في كل من تونس ومصر، ووصل أيضا السلفيون، وبدرجة أقل مع سلطة أضعف في ليبيا التي جرى فيها تدمير الدولة والجيش معا، وبتغيير شكلي جدا في اليمن.
وما زال الصراع الدموي قائما في سوريا، حيث تدافع السلطة عن وجودها إلى النهاية، حتى وإن قاد ذلك إلى تدمير البلد، وتراجعت التحركات في البلدان الأخرى دون أن تنتهي تماما.
السؤال الذي طرح خلال السنوات الثلاث تلك هو: هل هذه هي نهاية الثورات؟ وبالتالي ما الداعي لها ما دامت توصل إلى أن يسيطر الإسلاميون؟
خصوصا هنا مع ما جرى في الثورة السورية، التي تحولت إلى مجزرة بفعل الوحشية التي مارستها السلطة، وممالأة العالم، ومساعدته على ذلك بأشكال مختلفة، سواء ادعى دعم الثورة أو وقف على الحياد، حيث بدا أنها يجب أن تكون نهاية الانتشار الثوري، وخاتمته المأساوية.
وذلك من أجل أن “تتأدب” الشعوب، وتتعلم قبول الحكم القائم، والتكيف مع النمط الاقتصادي القائم، وتقبل ما يُعطى لها من النظم القائمة، بعد أن ظهر أنها استمرأت التمرّد، وباتت تقلّد سابقاتها بسرعة لا مثيل لها.
وبعد أن ظهر أيضا أنها تحمل من الاحتقان ما يجعلها تهدم أحلام الطبقات المسيطرة، وتهدد مصالحها.
لا شك أولا في أن الثورات قد أحدثت صدمة كبيرة لدى التكوين السياسي القائم، الإقليمي والعالمي، حيث إنها فاجأت بأن الشعوب يمكن أن تنهض، وأنها بدأت فعلا بالنهوض، وهو الأمر الذي فرض وضع إستراتيجيات مواجهة، خصوصا وأن العالم يعيش أزمة كبيرة يمكن أن تجعل ما حصل هنا بداية لثورات عالمية كبيرة.
لهذا كان الميل الأولي يتمثل في تحقيق التغيير السريع لتسكين الوضع الشعبي، وهو الأمر الذي حصل في تونس ومصر، لكن من ثم بدا الأمر أعقد من ذلك، لهذا جرى التدخل العسكري في ليبيا، وفرض حل شكلي في اليمن وسحق ثورة البحرين، وصولا إلى جعل الثورة السورية هي خاتمة المسار الثوري عبر تحويلها إلى مجزرة.
وما زال الأمر كذلك، حيث أصبح إجهاض الثورات هو الهدف العام، وبات القلق الذي ينتاب الرأسمالية يفرض البحث عن سبل وقف تمرّد الشعوب.
وستصوّر الثورة السورية كمثال على أن التمرّد يفضي إلى الدمار، وأن ما تأتي به الثورات هو الخراب.
لكن هل هذه هي حصيلة الأعوام الثلاثة من الثورات؟
ما يبدو اليوم هو أن التغيير الذي تحقق كان شكليا إلى حدّ كبير، وأن الثورات عممت الفوضى، وبالتالي لا يبدو أن التغيير الحقيقي ممكن، لأن النظم (أي الطبقات المسيطرة) تدافع عن سلطتها بكل العنف، وحتى الوحشية.
وحيث إن الثورات قادت إلى الديمقراطية نجح “الإسلاميون” دون أن تتحقق مطالب الشعب، ومن ثم فالأفق مسدود، لأنه لا الطبقة المسيطرة تتخلى عن سلطتها ولا المعارضة تحمل مشروعا مختلفا، يمكن أن يكون مدخلا لتحقيق مطالب الشعب.
ولهذا بعد الأمل الكبير الذي حكم الشعوب، والأوهام التي حكمت النخب، أصبح اليأس هو المسيطر، وبات الوهن هو الذي يحكم نشاط النخب.
طبعا لم تجرِ مساءلة الماضي لماذا سيطر الإسلاميون، ولم يجرِ التشكيك في ممارسات النخب، ولا في سياسات الأحزاب المعارضة، فكما فاجأت الثورات تلك النخب، فاجأها انتصار الإسلاميين، وأيضا فاجأها انهيارهم في مصر.
لهذا يجب ألا يؤخذ وضع هذه النخب بعين الاعتبار لأنها هي ذاتها من الماضي. ولقد توهمت بأنها يمكن أن تركّب على الثورات مطمحها الأساسي وهو: الحرية، لكي لا تتعرض للمساءلة فقط، وليس لكي تبني عليه مشروع تغيير كبير، ففوجئت بأن الحرية تأتي بالإسلاميين، لهذا أخذت تهرب إلى دكتاتور يحميها من سلطة هؤلاء.
وإذا كانت التجربة قد أوضحت بأن “الإسلاميين” غير جديرين بالحكم، لأنهم لا يمتلكون برنامج تغيير يحقق مطالب الشعب، فقد أوضحت كذلك بأن الحرية والديمقراطية هي أوهام النخب، وأن الأمر أعمق من أن يحلّ في انتخابات أو حريات يمكن أن تسمح للنخب بأن تعلي صوتها.
فلا حريات حقيقية تحققت، ولا استقرار عاد، وظهر أن الأمور تسير نحو الفوضى. هذا الأمر فرض أن تميل بعض النخب لأن تقبل الاستقرار حتى في ظل “دكتاتور” على أن تسير الأمور نحو الفوضى أو نحو صراع دموي كما في سوريا.
لكن في كل الأحوال يمكن أن نشير إلى أن هناك ثلاث مسائل جوهرية توضحت خلال السنوات الثلاث، وهي التي تؤشر لماهية المستقبل بالضرورة.
فأولا أن للشعب مطالب، وأن من يصل إلى السلطة بعد الثورات يجب أن يحققها أو أن يرفض من جديد، والمطالب لا تقف عند تغيير الأشخاص أو شكل السلطة بل تفترض إيجاد حلول اقتصادية لمشكلات مجتمعية عويصة.
وقد ظهر أن التركيز على الحرية والديمقراطية ليس كافيا، وأصلا هو غير ممكن دون تلمّس المشكلات الأساسية التي فرضت ثورة الشعب.
فقد سارت مصر نحو الانتخابات وتحققت حريات معينة لكن الشعب لم يتوقف عن الاحتجاج في مطالب اقتصادية واضحة، وبات الحراك الشعبي يتمحور حول المطالب الاجتماعية، وليس في التوهان خلف الانتخابات والصراعات السياسية.
هذا الأمر يوضح بأن أفق الثورات مرتبط بتحقيق ما هو أبعد من تغيير شكل السلطة أو أشخاصها، أو حتى إعطاء قدر أعلى من الحريات، بل مرتبط بتغيير النمط الاقتصادي الذي فرض نشوء مشكلات البطالة والفقر الشديد وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية.
ولهذا فإن المطلوب هو تغيير جذري يبدأ من البنية الاقتصادية، ليعيد صياغة الشكل السياسي، وكل تجاهل لذلك لا يفعل سوى استمرار الثورات، ومن ثم لا استقرار قبل تحقيق التغيير العميق ذاك. نحن في عقد من الصراعات إذن.
وثانيا أن مستوى التهميش والفقر والبطالة والسحق فرض على الشعوب أن تتمرد، وبالتالي أن تكسر حاجز الخوف الذي أقامته النظم عبر كل أجهزتها الأمنية وعنفها طيلة عقود طويلة.
فقد قامت إستراتيجية النظم على إرعاب الشعوب عبر الاستبداد، وفرضت عليها قبول الأمر الواقع، لكن كان ممكنا قبول الأمر الواقع حينما كانت الشعوب قادرة على العيش، لكن أن تصبح غير قادرة على العيش يفرض كسر كل إمكانية للخوف.
وهذا الأمر يعني بأن الصراع سيستمر، وأن الاستقرار لن يكون ممكنا قبل تحقيق التغيير الذي يحقق مطالب الشعب، وبالتالي نحن في مرحلة صراع ربما يكون ممتدا لعقد، ولن يتوقف قبل أن يتحقق التغيير بما يعنيه من تغيير النمط الاقتصادي والتكوين السياسي، وهنا تندرج مطالب الحرية والدولة العلمانية الديمقراطية بمطالب العمل والأجر المناسب والتعليم والصحة المجانيين والحقيقيين.
الشعب لم يعد يستطيع العودة إلى السكون والهدوء بعد أن تمرّد، وهو يريد التغيير الذي يغيّر من وضعه الاقتصادي أولا والسياسي بالتالي.
وثالثا أن الثورات قامت على أكتاف الشباب الذي كان قد “هرب” من السياسة والأحزاب السياسية، وأصبح منخرطا في السياسة بعد أن خاض الثورة، واكتشف أنه يخوض في غمار السياسة من أوسع أبوابها: الثورة.
وهذا الأمر فرض الميل العام لتطوير الوعي السياسي وزيادة الفعل السياسي، وهذا الأمر يعني تحقيق تجديد عميق في الفعل السياسي وفي الحركة السياسية، يقوم على مبدأ التغيير العميق انطلاقا من مطالب الشعب، وهو ما يؤشر على أن المرحلة القادمة سوف تشهد تبلورات سياسية جديدة وجادة، يمكن لها أن تخرج الثورات من عثراتها التي نتجت بالضبط عن غياب القوى السياسية والفعل السياسي.
هذه العناصر هي خلاصة سنوات ثلاث من الثورات، وهي البداية لثورات أعمق وأكثر تأثيرا، فالشعوب تريد التغيير الحقيقي لكي تتحقق مطالبها، وهي مصممة على الاستمرار بعد أن كسرت حاجز الخوف. وإذا كانت لم تحظَ بقوى تساعدها على التغيير فقد أخذت تفرز من ذاتها القوى التي يمكن أن تحمل مشروع التغيير.
الجزيرة نت