زمن الفكرة … زمن الرصاصة
مهى حسن *
ماذا يستطيع أن يفعل المثقف أمام وحشية القاتل؟ ينتمي كل منهما إلى عالمين مختلفين، الأول، إلى عالم المخيلة، الكلمة، اللون، التجريد، والثاني إلى عالم مادي، قاس، ملموس.
دور المثقف في السلام هو غالباً تنويري، فكأنه، من دون أن يتعمّد لعب دور الناصح أو الكاهن أو المعلم، يمارس فعله الناقد، بغية حماية مفاهيم التنوير والتقدم في مجتمعه. هذا إن تحدثنا عن المثقف العضوي، أما المثقف المنسحب، المنعزل، في الحرب والسلام، فهو لا يختلف في جوهره، في حرصه على المسألة التنويرية، وإن مارس دوره النقدي، أو التوجيهي، من دون قصد التوجيه، عبر مسافة تفصله عن القارئ، أو المتلقّي.
أما المثقف العضوي ذاته، وفي حالة الحرب، فهو يفقد إلى حد كبير إيمانه بقدرة اللغة أو الثقافة على التدخّل، بخاصة أن الثقافة تحتاج إلى زمن حتى تعبر، بمعنى أنك حتى تنشر فكرة جديدة، فأنت تحتاج إلى وقت طويل، ربما إلى سنوات، لإيصال فكرتك، بينما زمن الرصاصة أو القنبلة، سريع جداً، ولا يحتاج إلى انتظار، لإيصال رسالته.
بين زمن الفكرة وزمن الرصاصة، يكمن التحدي اليوم. فكلاهما، بقصد أو من دونه، متناقضان. تعادي الرصاصة الفكرة، وتلغيها، كما تحاول الفكرة، إلغاء الرصاصة، مع عدم تجاهل سرعة كل من الزمنين.
ثمة ثقافة مرعبة تنشأ اليوم، في زمن الرصاص، وهي ثقافة الرصاص ذاتها، عبر قيام بعض المؤسسات الإعلامية، بمسح دماغ المجتمع ثقافياً، وبناء فكرة الرصاص مكان الأفكار السابقة.
المعركة اليوم، في زمن الربيع العربي، هي معركة بين ثقافتين: ثقافة منفتحة تؤمن باحتمالات جديدة، وثقافة منغلقة تدافع عن الاحتمال السائد الوحيد.
لا شك في أن الانحياز إلى الثقافة المفتوحة، التي ترصد احتمالات متعددة، يشكل عبئاً كبيراً لمتبنّي هذه الثقافة، إذ ومع إيجابية احتوائه كمية كبيرة من الأمل والتغيير، فهو يقوم أيضاً على احتمالية الفشل، والتصدي للنوع الآخر من الثقافة، التي راحت تُدرس بدقة، وتُنشر بين صفوف المجتمع: فكرة التخوين.
أبناء الثقافة الثابتة، ثقافة الحال كما عليه، أو مزيد من الخسارات، ثقافة الضمان، وأننا نعرف ما نحياه، بدل الدخول في مراهنات مخيفة لا نعرف أين تذهب بنا، ضاربين بعرض الحائط، بإيجابية الأمل أو التغيير، راضين بالاستقرار، ثقافة بدأت تروج لأفكار، هي امتداد لحالة مسح الدماغ، من قبيل تأثيم الحرية، وتخوين الرغبة بالتغيير.
وليكون الحديث أكثر وضوحاً، نستشهد بالمحطة الفضائية السورية، إذ لاحقاً لتفجيري دمشق في يوم الجمعة المصادف الثالث والعشرين من الشهر الماضي، صار المشاهد يرى صوراً متكررة، عن سيدة تحمل دفتر تلميذ صغير، وتقول: «هذه هي الحرية؟». وكذلك تتعدد شهادات المواطنين الذين تختارهم المحطة، أو تلقّنهم، للإتيان على أمثلة، تربط بين العنف أو الإرهاب، والحرية. وهذا يعد أحد الأخطار الفكرية الكبيرة، التي لا تمسح فقط دماغ المواطن العادي، غير المثقف، والخائف غالباً من نتائج العنف، بل تُرجعنا إلى سنوات من الوراء، حيث ناضلت النخبة العربية والغربية وبعض رجال السياسة طويلاً للدفاع عن مفهوم الحرية. وكما أسلفنا من قبل، تحتاج الفكرة إلى وقت طويل لتثبت في المجتمع. تأتي وسائل الإعلام اليوم لتمسح مفهوم الحرية، وتحاول اقتلاعه من جذوره، لا عبر تسطيحه فحسب، بل وعبر ربطه الخاطئ، والمدمّر للوعي، بالإرهاب.
لم تكتفِ العقلية الأمنية بتجريم الحرية، عبر تصرفات العسكر، في الفيديوات السابقة، والتي تم التحدث عنها مطولاً، إذ يركل العسكري أحد المواطنين: «بدكن حريي؟!»، يركله قائلاً: «وهي مشان الحرية»… بل وذهبت أبعد اليوم، بحيث، وفي معركتها مع خصمها، الذي رفع شعار الحرية في بدء تظاهراته السلمية، راحت تربط بين مطالبته بالحرية، وبين الإرهاب، مع تمسك الخصم، وتأكيده في كل لحظة، سلمية تظاهراته، ومطالبه.
ربما لا بد من الإضافة، وليس من قبيل الدفاع عن طرف سياسي ضد الآخر، ولكن من أجل تثبيت فكرة الحرية السلمية وتناقضها مع العنف، فقد أدانت أطراف المعارضة، وعلى الأخص، ما يمثلها رسمياً حتى الآن، المجلس الوطني السوري، العملين التفجيريين الإرهابيين.
لا نريد الانجرار إلى مستوى اللعب الشارعي، ولكن المسارعة في اتهام أحد أعضاء المعارضة، بأن هذين التفجيرين هما هديته إلى الشعب، واللعب على مشاعر المواطنين الخائفين، وهذا من حقهم بلا شك، لهو ابتذال أخلاقي، لا لأنه يسئ إلى شخص ما، لسنا معنيين بالدفاع عنه هنا، فقط لأننا لسنا في سياق سياسي، بل نريد تأكيد لعبة السذاجة المخيفة، التي قد تزرع أفكاراً خاطئة، تُرجع مجتمعاتنا سنوات إلى الوراء، إلى ما قبل قاسـم أمـين وإنجازات اليقظة العربية، ليخلص المـواطن اليومي الذي يتعرف إلى ما يحدث عبر شاشات التلفزة الوطنية، وحتى يشعر بالأمان، منتمياً إلى ثقافة «السترة»، فيصل إلى فكرة مفادها، لا للحـرية، لأن الحـرية تعادل الإرهاب.
* روائية سورية