«زمن القيعان المتلاحقة» … أين القاع الحقيقي؟/ خالد الحروب
بعد الحرب الأميركية على العراق سنة 2003 والدمار الذي جلبته على المنطقة، كتبتُ في هذه الصفحات وبتاريخ لا أذكره مقالاً بعنوان «أركيولوجيا القيعان المُتلاحقة»، وظلت فكرته الأساسية باستشرافها السوداوي تلاحقني كلعنة فرعونية حتى الآن. يومذاك تأملتْ تلك الفكرة التدهورَ المتلاحق في عقود القرن العشرين العربية، وكأنه تناسل لا يتوقف للقيعان قاعاً بعد قاع، ذلك أنه كلما ظننّا أننا وصلنا إلى القاع تبعاً لكارثة ماحقة فاقت التوقع والتصور من سلسلة الكوارث الكبرى، لا نلبث أن نُصدم بحقيقة مريعة وهي أن ما ظننّاه «القاع» الذي ارتطمنا به حديثاً لم يكن إلا مجرد قاع «عابر» من سلسلة لامتناهية من القيعان المتلاحقة على رؤوس العرب. كان «قاع» حرب 2003، وهو الذي فتح دوامة قيعان «القاعدة» و «داعش» والحشد الشعبي التي نعيش فيها الآن، قد تبع قاع غزو صدام حسين الكويت وما تلاه من خراب في المنطقة، تفرعت عنه قيعان مؤتمر مدريد واتفاقات اوسلو الموقعة على دمار ما كان قد تبقى من قوة وتضامن عربي هش. هكذا إذ كان على الضد من الظن المتسرع المواكب لكل قاع مُستجد، كما تبدت الحالة العربية وقت الحرب آنذاك، ثبت أن مسألة الوصول للقعر الحقيقي من التردي مسألة تحتاج لضنك إضافي. ففي حين تتلاحق قيعان التردي واحداً إثر الآخر وكل منها يوهمنا بكونه القعر الأخير، فإننا نُصفع في وجوهنا من جديد عندما نكتشف سريعاً ومع الكارثة اللاحقة أن القاع الحقيقي الملعون لا يني يتملص من بين أيدينا ويأبى الظهور. في الفسحة الزمنية القصيرة ما بين قاع وقاع ربما نمارس ترف رفع رؤوسنا وأنظارنا المركزة على القاع ونقلب النظر في المحيط حولنا علنا نستكنه لغز هذا القاع الغامض والفار من واقعنا.
يقودنا التأمل في لغز القيعان المتلاحقة أو تلك التي لا قرار لها إلى ما يتبادله الشغِفون بالفيزياء من مسائل افتراضية تثير التفكير وتجمح بالخيال. مثلاً، ماذا يحدث لو حفرنا في نقطة ما على سطح الأرض بئراً أسطوانية عميقة لا قاع لها، تصل إلى مركز الأرض وتخترقه إلى النصف الثاني من سطح الكرة الأرضية، وهي المسألة التي يسميها الفيزيائيون: The physics of bottomless pit. إذا حيدنا الكتلة النيرانية الحارقة في مركز الأرض والضغط والحرارة وكل العوامل الأخرى المتزايدة اضطراداً مع العمق، ثم قفز أحدنا في هذه البئر فإلى أين سيصل بالضبط؟ وهل سيخرج من الفتحة الأخرى المُقابلة؟ تعتمد الإجابة على إمكان تفريغ القعر الأسطواني من الهواء أم لا، وكذلك على تحييد أثر قوى جاذبية القمر. مع وجود الهواء سوف يعلق المغامر الذي يأخذ على عاتقه تجريب القفز داخل أعماق البئر في نقطة ما بعد عدة كيلومترات وفيها تتساوى قوى الضغط والجاذبية مع أثر دوران الأرض حول نفسها، وهناك يظل معلقاً في البئر فاقداً القدرة على مواصلة السقوط، وكذا القدرة بالطبع على الصعود والعودة إلى حيث قفز. يمكن أن نصف ذلك المآل بكونه «نقطة التوازن القيعاني»، حيث تتبدد القدرة الإنسانية تماماً ويتسيد العجز الحالة برمتها. تبدو الحالة العربية الراهنة مشابهة في أوجه كثيرة منها لهذه الحالة حيث يتسيد العجز الموقف العام وتغيب المبادرة والمبادأة ويتحول المجموع العام إلى كتلة عاجزة برسم انتظار ما يفعله بها الآخرون. لكن هذا واحد من الاحتمالات ليس إلا، لأن هناك احتمال آخر هو مواصلة السقوط في اللاقاع بأمل الارتطام بالقاع الحقيقي.
فيزياء «اللاقاع» أو البحث عن القاع الحقيقي في كنه ومآلات «القعر الذي لا قرار له» وناسه أو الإشارة إليه حفلت بها أيضاً الأدبيات الدينية وكذا الشعرية والفلسفية. هناك العديد من القيعان التي لا قرار لها ومحفورة في الوعي الجمعي الإنساني، منها قاع جهنم الذي لا قرار له وإليه سوف يؤول من تراهم الكتب المقدسة مجرمين ومستحقين العذاب وتتوعدهم بمصير بائس! وهناك أيضاً سوف يكون مصير الشيطان لآلاف السنين، وهو يبحث عن «مفتاح» ذلك القرار كما تقول بعض المرويات الإنجيلية. فلسفياً، رأى كثيرون ومنهم ديموقريطس أن «اللاقاع» أو bottomless pit هو المكان الذي تستقر فيه المعرفة والعلم (وهو شيء فيه الكثير من العزاء لنا، إذ يمكن تبرير رحلتنا القيعانية بالرغبة في الوصول إلى جوهر المعرفة!). في الأدب العالمي وسردياته الكبرى، اشتهر في كثير مما كتب عن مآسي الاستعباد والتجارة في الرقيق على مدار قرون تعبير «قاع الآلام الذي لا قرار له» ليصف الأوجاع المذهلة وربع الحياة وثلاثة أرباع الموت الذي عاشه عشرات ملايين الأفارقة في أوديسة الاسترقاق التي لم تتبد لها نهاية آنذاك، كما ظهرت في ملحمة «جذور» اليكس هالي ثم ما تلاها.
أين نحن إذاً من «اللاقاع» السياسي والجمعي الذي نعيشه؟ إذ كنتُ على مقاعد المدارس وإثر زيارة السادات القدس سنة 1977 سمعت تعليقات من الوالد والأقارب أشارت كلها إلى أننا «وصلنا إلى القاع» الذي ما بعده قاع. بعدذاك بسنوات قليلة وقد غدوت ناشطاً سياسياً في الثانوية ثم الجامعة صرت لا أحتاج للآخرين كي أطلق أوصافي «القيعانية» الخاصة على القاع الذي نحن فيه، ويومذاك كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت عام 1982 القاع المُذهل الذي فجعنا ولم نتوقع بعده قاعاً. عاصمة عربية يتم احتلالها من جانب الجيش الصهيوني ومحاصرة المقاومة الفلسطينية فيها ولا يتحرك العرب، بل إن أحد قادتهم لا يخجل من نُصح المقاومة بالانتحار … أهناك قاع بعد هذا القاع؟ كم كنا ساذجين حقاً! لم نكن بعدذاك في حاجة إلى عبقرية خاصة حتى ندرك وبمرارة أن إعصار القيعان المتلاحقة التي حلت بهذه المنطقة رافق كل جيل من أجيالها. القاع الذي ظن والدي وجيله أن لا قاع بعده كان حرب حزيران(يونيو) 1967، وهو الجيل الذي ظن أنه قد ارتطم بذلك القاع سنة النكبة وضياع فلسطين عام 1948.
«نظرية» القيعان المُتلاحقة تدهشنا فعلاً لسببين على أقل تقدير: الأول، لأنها تفضح سذاجة تقديراتنا على رغم تمرسنا المفترض وخبرتنا القيعانية المتراكمة. ففي كل مرة نكرر الظن بأن فداحة الارتطام بقعر ما وضخامته وكوارثه تؤكد أن لا قعر يمكن تخيله بعد هذا القعر. مع ذلك، وما إن نتعود على القاع الجديد ونتلمس جنباته وجغرافيته و «نأنس» به حتى ينفلق من تحتنا ويقذفنا إلى قاع جديد بكارثية جديدة. السبب الثاني لما تتضمنه هذه «النظرية» من إدهاش صار يكمن في توقنا الشديد ورغبتنا القاتلة في الوصول حقاً وفعلاً إلى القاع النهائي والحقيقي … وليس المزيف والموقت. نعلن تواضع هدفنا الجماعي وطمأنة كبريائنا وإزاحة كل المطالب والشعارات والأهدف الكبرى جانباً، والتركيز على أمل ورغبة واحدة وهي أن نصل القاع الحقيقي ثم نتوقف عنده. إذا وصلنا إلى ذلك القاع واكتشفنا «صلابته» وعدم هشاشة أرضيته وانفلاقها المُحتمل وأن لا قاع بعده عند ذلك نكون قد حذفنا احتمال «الأسوأ» على أقل تقدير. صحيح أننا نكون ما زلنا في القاع، لكن المهم أن لا يكون ثمة قاع بعده. القاع الحقيقي في حقبة القيعان المتلاحقة يصبح أملاً ومطلباً ونعمة وعلينا أن نفرح به، لأن الوصول إليه يعني أننا سنواجه احتمالين اثنين الأول هو أن يستطيب لنا المقام في القاع فنرقد فيه، لكن من دون خطر مداهمتنا من قاع تحتاني جديد، والثاني هو أن نبدأ الصعود إلى أعلى ولو بعد حين. من هنا تتبدى أهمية وضرورة الوصول إلى القاع النهائي والأمل بإنهاء لعنة «نظرية القيعان المتلاحقة».
الحياة