زمن النسيان السوري/ صهيب أيوب
يترك يديه في هواء الغرفة. يرسم دباً قطبياً بأصابعه الطويلة. يتخيله يمشي في عراء الثلج، مثله. حين كان يمشي عارياً في غرفته الموصدة. يرسم ويستمع الى لينا شماميان: “بالي معك”. لم يعد في باله أحد.
هذه عادته منذ شهرين، حين نقلته السلطات الألمانية من مخيم للاجئين، إلى غرفة زجاجية في بناء عالٍ يطل على حديقة عامة فارغة. لا يراها عادة لأن الضباب يحيط بالمبنى، كما يحيط قلبه. ففي غرفته السابقة، كان يزين الجدران بصور عمرو دياب وفيروز، ويضع نبتة شوكية على طرف طاولة خشبية، حفر عليها اسم “نوار” – أول حبيبة له، ووزع بعض الشموع حين كانت الكهرباء تنقطع. في هذه الغرفة دخن أول سيجارة حشيش مع صديقه مقتدى.
هنا في بلاد الصقيع أطال شعره. ترك خصاله متسربلة مثل نهر. وصار ينتعل حذاء جلدياً عالياً، هو الذي كان يحب أحذية “فانس” الرياضية. ترك شعره طويلاً، وكان يود أن يصبغه بلون أشقر، لم يعد يرغب في استخدام الحنّاء لتقوية لون شعره الأسود الفاحم، حين كانت أمه تمدّه بها مرة في الشهر، ليضع فوقها كيساً من الخبز، مدة ساعة، وهما يتضاحكان لمنظره. كان وقتاً مبهجاً. يتذكره بمضض. وينساه.
عادة، ينسى عبوة معجون الأسنان مفتوحة، والبراد يتركه من دون إغلاق. صار ينسى هنا أن يتناول أكله، ووقت نومه. يسهر لوقت متأخر. لا يستمع الى نشرات الاخبار، ولا يلتفت الى شاشة التلفاز المطفأ دوماً. لا يرغب في متابعة الوضع السوري. لم يعد يرغب في سماع أي قصة من المذبحة السورية، حلوة كانت أو مُرّة. يفتح “اللاب توب”. يتصفح مشاريع كان يعدّها في جامعة دمشق، في فرع “غرافيك ديزاين”. يمتلئ قلبه بالغضب.
يشغل فيلماً كرتونياً. يسعده أنه استعار أفلاماً من مكتبة عامة. لا صوت فيها. يجلس لساعات يقلب الصفحات ويتفرج على الرفوف. لم يكن يحب القراءة. كان يستمتع بالمشي في أزقة سوق مدحت باشا، والبزورية والحميدية. كل ذلك لا يعنيه. هو يمشي وحيداً، في شوارع واسعة. فارغة، إلا من عجائز يمشون مع كلابهم ويحادثونها بألمانية فجة. قليلاً ما ينظرون إليه، أو يلحظون عبوره. هو الذي يمر ببطء. كأنه يكتشف البيوت وارقامها ولوحاتها الباردة.
لا رائحة هنا سوى للضباب الذي يمد سطوته على كل شيء. يتمنى لو يتمدد فيه. يتبعثر. أن يشعر أنه آخر. وصار يعتاده. يحبه. يألف كيف يشم فقط رائحة “النفتالين” اثناء وجوده في المصعد. أو رائحة صقيع قوية، لا يمكن تحديدها، تخرج من رواق الطابق حيث غرفته، وحيث جارته رأى مرة واحدة، ولبرهة، إذ تدخل شقتها. نظرت إليه، وتجاهلته. اعتاد أن يتجاهله الآخرون هنا. ألا يلاحظه أحد سواه. أن يكون وحيداً. حتى القطة لا يريد أن تعيش معه.
زيّن أذنيه بأقراط فضية، وهو يتباهى بهما كأنهما انتصار مجيد يحظى به في غرفة. لا يكلف نفسه ترتيبها، إلا سريعاً، ولا أحد يزوره فيها. لم يخبر رفاقه، الذين هاجروا مثله من سوريا الى أوروبا، بأنه هنا. لم يتصل بأحد والغى حسابه القديم في “فايسبوك” لينشئ حساباً باسم أجنبي.
لا يخرج إلا قليلاً كي يشتري حبات البندورة والخيار الذي يشبه “الاسفنج”. اعتاد الأمر. لم يعد يرغب في شمّ رائحة الخيار الطازج، كما كان يفعل في حيّه الدمشقي. لا يريد أن تذكر وجوه باعة الخضار قرب عرباتهم، وهم يمجّون سجائرهم مع فناجين قهوة مُرّة، أو يتلذذون بأكواب المتّة. ولم يعد يريد أن يأخذه التفكير عميقاً، إلى تذكُّر جارتهم سعاد التي كانت تُبقي هرّتها على درج بنايتهم الضئيلة، ونبتة “العربيشة” ممتدة إلى شرفتهم، ورائحة الحبق تفوح كلما أعدّت الكبة النيّة مع “البابا غنوج”. متعته الوحيدة في غرفة أشبه بسجن، هي أن يتشاجر مع نفسه. أن يقنعها كل يوم بنسيان شيء. بدأ الأمر بتمزيق صور العائلة. مزّق صور أخوته وعيونهم، ورمى كل ما حمله معه من دمشق، أعواد القرفة والبابونج والشاي اليابس والصابون البلدي. حتى الطعام تخلى عنه. يعتاد أكل البيتزا. يتناولها قطعة قطعة. كأنه يلقمشها. بهدوء. تخلى عن اللوبياء بزيت، والهندباء المطبوخة مع البصل، وعن نكهات كثيرة كان يحبها من يد أمه، في مطبخهم الصغير المزنر بأحواض الزهور.
اعتاد، في غرفته الزجاجية المثبتة على الضباب، كؤوس الـ”أمارّيتو”. يتناسى القهوة. صباحاتها. وجه أمه ورفقتها في الشرفة. يتركها هناك في بيت آخر. بارد. يأوي نزوحها، بعدما تركت شقة العائلة التي حاول أن ينسى أنها خالية إلا من طفولته. هو الآن خال. يتخلص من ثقل سوريا. ببطء. يحاول ألا يستيقظ باكراً كعادته حين كان يذهب الى جامعته، ويمر في شارع الشعلان مع رفاقه، أو يتسكع في مقهى قديم ويشاهد فيلماً في بيت أحد رفاقه.
يحاول النوم بثقل طويل. يمدّ ساعات الغفلة والتناسي. يخرج قليلاً، ويعود إلى سجنه الزجاجي. لا يرغب سوى في أن يكون شخصاً آخر، لا ينتمي الى زمن المذبحة، ولا إلى ما قبلها. ولا الى الحنين والعيش في الذكريات. يود فقط أن يكون إنساناً. لا إسم يأخذه إلى سوريا، ولا ذكريات.
المدن