زمن ما بعد العرب/ ميشيل كيلو
هل نحن في الطريق إلى ما قبل أم ما بعد سايكس بيكو؟ عندما نتأمل تدخلات إيران الانقلابية التي تطاول مجمل دول المنطقة العربية، كيانات وبنى، ونتابع تفوهات أتباعها من إرهابيي الحشود الشيعية الموالية لها، والدوافع الحقيقية لقيامها، مجتمعة ومتفرقة، بغزو سورية، ونفكر بإصرار مليشيا حزب الله، مثلاً، على خوض معركته ضد شعبنا، حتى النهاية، كما تعهد قائدها حسن نصر الله، وحين نستمع إلى تصريحات نوري المالكي، رجل إيران الأبرز في العراق، حول معنى صيحة “لبيك يا حسين”، وقوله إنها لن تقف عند نينوى، بل ستشمل حلب واليمن أيضاً، ونستمع إلى ما كرّره وراءه قتلة الحشد الشيعي حول تصميمهم على نقل حربهم ضد أحفاد قتلة الحسين من العراق إلى سورية، وننتقل من قادة تنظيمات الإرهاب إلى الإرهابيين من قادة الدول، بدءاً ببشار الأسد في دمشق المحتلة، مروراً بقادة موسكو وضاحية بيروت الجنوبية وبغداد وطهران الذين يفاخرون بحربهم ضد الشعبين، السوري والعراقي، بحجة أنهما شعبان إرهابيان، وفي المقابل، ما أن نتأمل السياسات التركية التي تعلن تارة أن لديها خرائط تثبت تخليها في عشرينيات القرن الماضي عن أراض تركية في العراق وسورية، منها الموصل وحلب، وتقول، تارة أخرى، إنها لن تسمح لأحد بتقاسم المنطقة في غيابها أو على حسابها، فإننا نجد أنفسنا حيال سياسات متناقضة ظاهريا، لكنها تدور حول موضوع واحد، يضع تأمله يده على الخلفيات الحقيقية التي حالت دون إنهاء الصراع في سورية وعليها، وحوّلته أكثر فأكثر من صراع محلي إلى صراع عربي/ إقليمي/ دولي مفتوح بوسائله ورهاناته على حروبٍ تقف وراء انخراط إيران وموسكو المباشر فيه، وتعامل بلدان الخليج المتحفظ بصور شتى معه، بعد تباعده المتعاظم عن دعم مطالبة الشعب السوري السلمية بالحرية وتغيير النظام الأسدي.
تدور جميع الأفعال التي نراها اليوم، ومعظم تصريحات المشاركين في حروب منطقتنا، حول إعادة هيكلة مكونات ودول منطقتنا عامة، والمشرق العربي بصورة خاصة. هذه نتيجة دخول قوة جديدة إليها، تمثلها إيران، بما لها من توابع محلية، نظمتها عسكرياً وسياسياً، وفصلتها من مجتمعاتها ووضعتها في مواجهة مباشرة، ومتعدّدة الأنماط معها، وأوكلت إليها، منذ قرابة ثلاثين عاماً، مهام تناط عادة بكتائب عسكرية ترابط في أراض معادية خارج وطنها. ومثلما
“ستتبدل بنية المنطقة إلى الحد الذي يعيدها إلى فترة ما قبل سايكس – بيكو” أعاد حزب الله إعادة هيكلة السلطة في لبنان، ووضعها تحت وصاية المرشد الإيراني خامنئي وإشرافه، وربطها بخطط ومصالح طهران المباشرة، تريد إيران تقاسم المنطقة، بحيث تتفق حصتها منها وحجم وزنها الخارجي واختراقاتها الداخلية للمجتمعات العربية، المشرقية اليوم والخليجية غدا، اعتمادا على نهجٍ يستخدم آليات سيطرة متراتبة ومتنوعة، نجحت في وضع يدها على العراق وسورية بفضلها، وشرعت تديرهما كولايتين إيرانيتين، كما صرح أكثر من مسؤول إيراني، فضلا عن السيطرة بالواسطة أو من الباطن، بمعونة ما لها في البلدان المعنية من مليشيات احتلالية، مثل مليشيا حزب الله والحوثيين. والحال، بقدر ما يحكم الملالي قبضتهم على المشرق وجنوب الجزيرة العربية، وينجحون في كسب أو تحييد مصر، وعزل السودان واختراقه، بقدر ما ستتعاطم فرص انتقالهم، من الحكم بالواسطة، إلى السيطرة المباشرة على البلدان الخاضعة اليوم لكتائبها، المرابطة في لبنان واليمن. ماذا يعني هذا؟ له معان متعددة، منها:
أولاً، ما يجري في سورية والعراق ليس غير مدخل إلى توطيد وجود إيران الاحتلالي في البلدين، وتحويله إلى احتلال شامل برضى حكامهما الذين صار وجودهم ومصيرهم مرتبطاً بطهران التي تعمل لشرعنة هذا الوضع، ولكسب الاعتراف الدولي به. بما أن حسم المعركة في البلدين وعليهما يحولهما، بقدر ما يكتمل، إلى قاعدتين لتدخلٍ أوسع في بلدان عربية أخرى، يجري اليوم استكمال مراحله النهائية، عبر إيصال ميشال عون إلى رئاسة لبنان، بما يرجح أن يترتب عليه من انتقال أوضاعه إلى حقبة مغايرة من نواحٍ عديدة، للحقب التي مر بها منذ استقلاله، بما في ذلك حقبة احتلاله أسدياً. ومثلما قفزت إيران من قاعدتها العراقية إلى منصتها السورية، ستقفز في فترة غير بعيدة من قاعدتها السورية إلى الأردن وفلسطين والخليج، ومن دمشق وبغداد إلى تركيا. عندئذ، ستجد شعوب المنطقة نفسها أمام عمليات اقتلاع وإبادة من النمط الذي جربه الملالي والأسد والروس ضد شعب سورية.
ثانياً، ستتبدل بنية المنطقة إلى الحد الذي يعيدها إلى فترة ما قبل سايكس/ بيكو التي قسمت المشرق العربي إلى دول حول حراك شعوبها بعضها إلى كياناتٍ وطنية، كالعراق وسورية، الدولتان المستهدفتان اليوم بتبدل يطاول بنيتهما السكانية والحكومية والعقائدية، والحجة: إحداث تغيير جذري فيهما يمنع دول الخليج من دعم الثورة السورية، “بؤرة الإرهاب ومنتجته” في لغة الملالي والأسد وبوتين، التي لا بد من كسرها، لأنها تقاتل، عن وعي أو غير وعي، لإحباط خطة اقتسام المشرق إيرانياً وأسدياً، وحماية وحدة دوله ومجتمعاته، وأخذها إلى الحرية والاستقلال، والكرامة والمساواة والعدالة. في فهم إيران، لن يكون هناك بالضرورة سورية مفيدة، لأن إيران ترفض أن تقتصر حصتها عليها، وتضع يدها اليوم على سلطتها، وتقاتل في معظم الأرض السورية، لتشطب وجود صاحبها، أي شعبها، وتقضي على ثورتها.
ثالثاً، ستلد الحرب المتعددة الأطراف على بلادنا، وفيها حروب متعاقبة ستنتشر إلى بلدان الخليج وتركيا، التي أعتقد أنها ستنخرط فيها، لأنها ستوضع أمام خيارين، أحلاهما مر، هما: استباق الحرب، كي لا تدخل إليها، أو اتخاذ موقف دفاعي، هدفه البقاء خارجها، لكن الخيار الثاني لا يضمن أن لا تنتقل الحرب إليها، من خلال اختراقات إيران أو سورية والعراق: قاعدتا طهران اللتان ستتوليان هذه المهمة أيضا.
رابعاً، علينا اليوم، كسوريين، مواجهة خطة التدمير والاحتلال التي تلعب إيران الدور الأكبر
“ما يجري في سورية والعراق ليس غير مدخل إلى توطيد وجود إيران الاحتلالي في البلدين” فيها، وتنفذها بتصميم واستماتة، ولن ننجو من نتاىجها الوخيمة دون إعادة نظر عميقة وعقلانية في رؤيتنا وممارستنا الصراع، محلياً، وضد طهران وموسكو، وفي بنى تنظيماتنا السياسية والعسكرية، لأن هذا شرط نجاحنا في حماية مجتمعنا ودولتنا، ولمنع إدماجها في الكيان الإيراني، وحكمها من الباطن بواسطة نظم مذهبية، أو يعاد إنتاجها مذهبياً، لتخضع مجتمعات أعيدت هيكلتها طائفياً، تأتمر سلطاتها بأمر المرشد، وتنفذ ما يطلبه منها، مثلما يفعل حزب الله في لبنان. تتخطى الصراعات الدائرة اليوم الصراع الداخلي بين النظام والشعب، الذي رسمنا مواقفنا انطلاقا منه، ويتخلق بديل خارج هذه الثنائية، تختلف النتائج التي ستترتب عليه أشد الاختلاف عن الثورة، لن يبقى في حال نجاحه شيء على ما هو عليه اليوم في بلادنا ومنطقتنا، سواء في ما يتصل بمجتمعاتها أم بدولها أم بعقائدها، بحيث نجد أنفسنا حيال انقلابٍ سيطوي، إذا ما نجح، تاريخنا. ومن يتابع ما عاشته الأسابيع القليلة الماضية من أفعال وأقوال، سيضع يده على دلائل تشير إلى أننا ذاهبون، في حال قرّرت إيران مصير التطورات، إلى ما بعد سايكس/ بيكو، وربما إلى ما قبل العرب (!).
العربي الجديد