صفحات الثقافة

زهرة كاسر الحجَر/ أكتاﭭيو پاث

 

 

(شذرات في الشعر والشعريّات)

يُعَدّ الشاعر والفيلسوف المكسيكي أكتاڤيو پاث (Octavio Paz)، الفائز بجائزة نوبل في الأدب للعام 1990، واحدًا من أكثر الكتاب تأثيرًا في القرن العشرين. نشر ديوانه الأول، «قمر بريّ»، في العام 1931، وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. أسّس في العام 1932، رفقة بعض أصدقائه، مجلته الأدبية الأولى «Barandal». وحين بلغ الثالثة والعشرين، ترك دراسة القانون في الجامعة، وغادر بلدته للعمل بمدرسة مقصورة على أبناء الفلاحين والعمال. هناك، وتحت تأثير تي. إس. إليوت، راح يشتغل على قصيدته الطويلة الأولى «بين الحجر والزهرة». ساهم سنة 1938 في تأسيس المجلة الأدبية المؤثرة «Taller»، وظلّ يكتب فيها حتى العام 1941. كتب في العام 1945 كتابه الأشهر «متاهة العزلة»؛ وفي العام 1957 نشر رائعته «حجر الشمس». حصل في العام 1981 على جائزة ثيربانتس، وعلى جائزة نوستاد العالمية في الأدب للعام 1982.

القصيدة عصية على التفسير، وليست غامضة.

القصيدة لغة إيقاعية ـ ليست لغة ذات إيقاع (نشيدًا) أو مجرد إيقاع لفظي (الصبغة الغالبة للغة برمّتها، حتى النثر).

الإيقاع آصرةُ مُخالَفةٍ ومُشابَهة: هذا الصوت ليس ذلك الصوت، وهذا الصوت ليس كمثل ذلك الصوت.

الإيقاع هو الاستعارة الأصلية، ويكتنف الاستعارات الأخرى جميعها. إنه يقول: التعاقب تكرار، والزمن لا زمن.

وسواء كانت غنائية، ملحمية، أو درامية؛ فإنّ القصيدة تعاقب وتكرار، تاريخٌ في رزنامة وشَعيرةٌ. والـ «حدَث» قصيدة كذلك (مسرح) وشعيرة (احتفال)، ولكنه يفتقر إلى جوهر واحد: الإيقاع، تقمُّص اللحظة. إننا نكرّر أبيات غونغورا المنظومة في أحد عشر مقطعًا، وأبيات ويدوبرو أحادية المقطع في «ألتاثور»، مرات ومرات؛ سوان وهو يُصغي إلى سوناتا فانتوي، أغاممنون وهو يضحّي بإفيجينيا، سيغيسموندو وهو يكتشف بأنه يحلم وعيناه مفتوحتان، مرات ومرات. ولكنّ الـ «حدث» لا يحدث إلّا مرة واحدة فحسب.

تنحلّ اللحظة في تعاقب لحظات مغفلة. ولكي نصونها، يتوجب أن نحوّلها إلى إيقاع. يكشف الـ «حدث» عن احتمالية أخرى: اللحظة التي لا تتكرّر البتّة. ومن حيث التعريف، فإن هذي اللحظة هي اللحظة الأخيرة: الـ «حدث» استعارة للموت.

ليست قصيدة من مقطع واحد أقلّ تعقيدًا من الكوميديا الإلهية أو الفردوس المفقود. تضع الـ «ساتاساهاسريكا سوترا» التعاليمَ الأساسية في مقطوعات شعرية؛ فيما تضعها الـ «إيكساكساري» في مقطع واحد: أ. كلّ اللغة، وكلّ المعنى، والغياب المطلق لمعنى اللغة والعالم في الوقت ذاته، مكثّفًا في صوت حرف العلة الواحد هذا.

فهم القصيدة يعني، في المقام الأول، سماعها.

تدخل الكلمات عبر آذاننا، وتظهر في عيوننا، ثم تتلاشى في التأمل. تسعى كل قراءة قصيدة إلى استدعاء الصمت.

أن نقرأ قصيدة هو أن نسمعها بعيوننا؛ أن نسمعها هو أن نراها بآذاننا.

في الولايات المتحدة، أصبحت موضة الشعراء قراءة قصائدهم على رؤوس الأشهاد. إنها سُنّة ملتبسة، لأنّ ملَكة الإصغاء إلى الشعر في الواقع فنّ ضائع؛ زد على ذلك أنّ الشعراء المعاصرين هم كتّاب ولذلك فإنهم «ممثلون رديئون لمشاعرهم». ولكنّ شعر المستقبل سوف يكون شفاهيًّا. تعاونًا بين آلات ناطقة وجمهور من الشعراء، سوف يكون فنَّ الإصغاء إلى رسائلَ ودمجها. أليس ذلك ما نفعله اليوم في كل وقت نقرأ فيه كتاب قصائد؟

حين نقرأ قصيدة أو نصغي إلى واحدة، فإننا لا نشمّ، نتذوّق، أو نلمس الكلمات. كل هذي الأحاسيس صور ذهنية.

ولكي نختبر القصيدة، يتوجب علينا أن نفهمها؛ ولكي نفهمها، يتوجب علينا أن نسمعها، أن نراها، وأن نتأملها ـ أن نحوّلها إلى صدى، وظلّ، وعدَم. الإحاطة تمرين روحيّ.

قال دوشامب: وحيث أنّ شيئًا ثلاثي الأبعاد يطرح ظلًّا ثنائيّ البعد، فإنه يتوجب علينا أن نكون قادرين على تخيّل الشيء المجهول، رباعيّ الأبعاد، الذي نحن ظلّه. وأما بالنسبة إليّ، فإنني مفتون بالبحث عن شيء أحادي البعد لا يطرح أيّ ظل البتّة.

كل قارئ شاعر آخر؛ وكل قصيدة قصيدة أخرى.

وعلى الرغم من أنّ الشعر يتغير دومًا، إلّا أنه لا يتقدم.

في الخطاب العادي، تضع العبارةُ الأُسَّ للعبارة الأخرى؛ إنها سلسلة ذات بداية ونهاية. وفي القصيدة، تحتوي العبارةُ الأولى العبارةَ الأخيرة، وتبعث العبارةُ الأخيرة العبارةَ الأولى. الشعر ملاذنا الوحيد ضد الزمن ذي الخط المستقيم ـ ضد التقدم.

لا تكمن أخلاقية الكاتب في المواضيع التي يتناولها أو المقولات التي يطرحها، بل في تصرفه تجاه اللغة.

في الشعر، التّكنيك اسم آخر للأخلاقيّة: ليس تلاعبًا بالكلمات بل شغف وتقشّف.

يتكلم الشاعر الرديء عن نفسه، باسم الآخرين على نحو دائم أو يكاد. أمّا الشاعر الحق، فإنه يتكلم مع الآخرين حين يكلّم نفسه.

ليس الفارق بين العمل «المغلق» والعمل «المفتوح»، فارقًا مطلقًا. ولكي تكون كاملة، تتطلّب القصيدة المحكمة تدخُّل قارئ يفكّ مغالقها. وأمّا القصيدة المفتوحة، فإنها تلمح، في المقابل، إلى بنية دنيا على الأقلّ: نقطة بداية ـ أو مثلما يعبّر عنها البوذيون ـ «متّكأ» للتأمل. في الحالة الأولى، يفتح القارئ القصيدة؛ وفي الثانية، يكملها، إنه يغلقها.

كأنّ الصفحة البيضاء، أو الصفحة المغطاة بلا شيء سوى علامات الترقيم، قفص بلا أيّ طائر فيه. العمل المفتوح الحق هو ذلك الذي يُغلق الباب: القارئ، آن يفتحه، يترك الطائر ـ القصيدة ـ يخرج.

فتح القصيدة بحثًا عن هذا واكتشاف ذاك ـ شيء مختلف دائمًا عمّا توقّعناه.

وسواء كانت مغلقة أو مفتوحة، تطلب القصيدة موت الشاعر الذي يكتبها ومولد الشاعر الذي يقرؤها.

الشعر صراع سرمدي ضد المعنى. على طرفي نقيض: القصيدة تحيط بجميع المعاني، إنها معنى المعاني جميعها؛ أو القصيدة تحرم اللغة من أيّ معنى. في الحقبة المعاصرة، يمثّل مالارمي محاولة كتابة قصيدة النوع الأول؛ فيما تمثل دادا محاولة كتابة النوع الثاني. لغة وراء اللغة أو تدمير اللغة عبر اللغة.

أخفقت دادا لإيمانها بأن هزيمة اللغة سوف تكون نصر الشاعر. نادت السريالية بسلطان اللغة العليّ على الشاعر. يتعيّن على الشعراء الشباب إزالة الفارق بين المبدع والقارئ: اكتشاف نقطة الالتقاء بين المتكلّم والمنصت. هذه النقطة هي قلب اللغة.

مُكملون أعمال نيتشه، آخذون النفي إلى أقصى ما يستطيع الذهاب إليه. وفي نهاية الطريق، لهوٌ في انتظارنا وعبث: احتفال، كمال الأعمال، حلولها الخاطف وفناؤها.

آخذين النفي إلى أقصى ما يستطيع الذهاب إليه. فإنّ التأمل في انتظارنا هناك: امّحاء اللغة، شفافيةٌ.

يتوجب على القصيدة أن تستفزّ القارئ: أن تجبره على الإنصات ـ الإنصات إلى نفسه.

يولد النشاط الشعري من القنوط في مواجهة عجز الكلمة، وينتهي في الاعتراف بالقدرة الكليّة للصمت.

السفير الثقافي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى