زينة- قمر الغوطة الاحتياطي
خضر سلمان
ثائرة من دمشق
..
لا أصدّق أنّني نسيتُ كيف تعرّفت إلى زينة!
زينة ركوة ثورةٍ نسيها أحدهم على موقِد غاز صباحي في 15- 3- 2011 وما زالت تفور على أدوات المطبخ، وتغلي بِبنِّ الثورة الزكي، وتلطخ كل شيء بالعطر الصّحيح..
يا ربّة المنزل لا تمسحي البنّ ولا تطفئي الغاز، فزينة تبدو وكأنها لن تنتهي.
نسيتُ كيف تعرفت إلى زينة..غالبا، لأن زينة لا تتوقف عن إثراء تفاصيلها الشخصيّة، بحيث تنسى تحت أي غمامة غضب، أو في أي مظاهرة “طيارة”، أو حتى أيّ اعتصام تعرّفت إليها.
لدى زينة الكثير لتفعله، ولديها الكثير لتقوله. الأغلب لا تجد الوقت لانتظار سقوط النّظام، فهي منهمكةٌ في هذه اللحظة بتدارك جريحٍ… صارخة فيه أنّه لا ينبغي أن يموت… مدوّية بأعلى صوتها في وجه محافل السّماوات أنّه لا ينبغي أن يموت… ثوار الغوطة الآن…
أو هي منهمكة بإعداد الطعام لثلة من الثوار المحليين، التقليديين الطيبين، والثوار، الذين تربكهم هذه الصبيّة المندفعة. هل هذه اليد التي تصافحهم بعصب مشدود كعصبِ حرفيٍّ عتيق، هي لنفس صاحبة العينين الدّافقتين بالأنوثة والأمومة والسّخاء العاطفي… صاحبة
العينين اللتين تمنحهما حناناً لا سبيل إليه في البيوت التي صارت بعيدة؟
عندما كانت تصافحني زينة كنت أرتبكُ، وعندما كنتُ أنظر في عيني زينة كنتُ أرتبكُ أيضاً.
عاش النّضال الجندري؛ الذي يزعج الذّكورة فينا يا زينة، عاشت أنوثتك الثوريّة التي تقول مضامينَ تحرريّةً لغت حولها ألسنة المنظرين طويلاً، وبثثْتِها أنتِ كهرباءً في الأصابع والعيون، تُعدي بالرّفض والعزوة والتّوق إلى الإنسان الصِّفر..
يوم قُصف مخيم اليرموك أوّل مرّة، كنتُ أنا وزينة في جرمانا. أذكر أنّنا كنّا نحاول تأمين أدواتٍ ومواد طبيّة لما بعد الجراحة لإرسالها إلى المخيم المنكوب. كانت زينة
موعودةً من أصدقاء لها في جرمانا. صعدنا معاً على درج المبنى المطل على الشّارع العام. قال لها ببرودٍ فتىً يتناول غداءه واقفا: لم نستطع تأمين كرتونة الأدوات
الطبيّة.
اختنقت زينة بغيظٍ لا حدود له وقالت: لكنّك وعدتني!
لم يهتم الشاب بتبرير خذلاننا، وعلى درجات البناية جلست زينة. أمسكت رأسها واختنقت بدمعة. قالت إنّه لم يبق أحد.. الكلّ غادر. شكت من غياب رفاقها الأكثر إخلاصاً
وجدية. كوادر الحراك المدني الشّبابي الذين لقّحوا ساحات دمشق بالأحلام في الشّهور الأولى من عمر الثورة. قالت إنّهم معذورون لكنّها حزينة وتشعر بالفَقد. أتمنى أن تكون
زينة تذكرني بالخير مثلما ذكرتْهم يومها..
ماذا يمكن أن تكوني فاعلةً في هذه السّاعة من الليل يا زينة؟ مصرُ حارّة الهواء باردة الرّوح، وثوريّوها أكثر نمطيّةً ممّا قد تحتملين. حيثُ أنتِ الآن، في مساحة خضراء
على جسد الغوطة الجريحة، لا بدّ أن الأشياء مقلوبة: الهواء لاسع البرودة والأرواح تغلي بالإرادات والغضب..
رحل أحبّةٌ واستشهد أحبّة.. رفاق طريق انحفروا في قلبها الصغير، تُراجع صورهم وذكرياتهم وهي تستدرك نفسها في عبق الليل الرطيب، وتحلم بأيّام أحلى لسوريا الجديدة،
ولثوارها. علينا ان نكون جديدين آنذاك، ليليق بنا عناقُ قمر الغوطة الاحتياطي..
زينة قمر الغوطة الاحتياطي. ترتجف قلوبُ الرّجال الأشدّاء المرابطين مع أسلحتهم عندما يغيب القمر عن لياليهم. لا يخافون من العدو، فمع العدو هم رابحون دائماً: النّصر
أو الجنّة. تجارةٌ لا تبور حقاًّ.. لكن القمر الذي لا يوافي يزرع الخوف من الغد، ويباعد الأيّام الحلوة.
“زينة. لديكِ عملٌ آخَر، فالمقاتلون يحتاجون قمراً” تنبّهها نجمةٌ تقع في مهبط عيني زينة الشّاردتين في السّماء، فلا تتلكّأ لحظة.
..
“غوطتي حبيبتي”. هذا هو الاسم الرّسمي الذي تعتمده زينة لما سماه الجغرافيون غوطة دمشق. فرقٌ شاسع، فالغوطة هي غوطة دمشق طالما نطقها الآخرون. على شفتَي زينة تتحوّل
إلى حبيبة من زمن العذريين، تتوه كالغزلان الشّاردة في الدّروب، تهذي بالوله الذي لا ينتهي، وتردّد في حماسٍ كما لو أنّها نوبة وجدٍ صوفيّة: غوطتي..
حبيبتي…
زينة مرّة علويّة من السّاحل، مرّة مسيحيّة من باب توما، مرّة سنيّة من ريف دمشق. ثوار دمشق في حيرةٍ من أمرها دائماً. لقد نذرت زينة نفسها لتحمل بصورة مؤقتة وعمليّة
لعنات الهوّيات القاحلة قربانا على مذبح هويّة وطنيّة طالما حلمت وحلمنا جميعا بها.
زينة صبيّة سوريّة، علويّة طالما كان من المفيد أن يعرف المستمع أن العلويين جيدون، مسيحية طالما كان من المهم أن يدرك من تحدِّثه أنّ المسيحيين مع الثورة، سنيّة طالما
كان من الضروري لجمُ أقلويٍّ هنا أو هناك، يبذر مخاوفه المجانيّة في رداءة تثير الاشمئزاز، وحين يحلّ الليل ولا يكون عليها أن تجلس مكان القمر أو مكان أحد، تسترد
اسمها الذي تكاد تنساه.
تُراكِ بعد عامين نسيته حقاً؟ أنا لن أفعل أبداً، أبداً يا.. زينة.
موقع الآوان